كنت طفلاً فرحاً يقبض على العملة المعدنية بقوة ولم يكن لها تعريف فى حواسى سوى لعابى السائل من قطع الحلوى التى يروجها أبو حنان ويشكلها لى على هيئة ساعة وخاتم، وللبنات أسورة وقلادة.
أتباهى أمام أقرانى وأنا أمنى نفسى بمضغها فى فمى واستحلاب عسلها بروية داخل الفصل وفى خفية من المدرسين، تلك الحلوى الزهرية المخلقة من العسل الأسود ارتبطت فى مخيلتى بالفرح، كما ارتبطت هيئة (أبو حنان )بالرهبة، انتشرت الأقاويل حوله من الصبية وتندروا عليه واختلقوا المزيد منها كل مسامرة .
يقولون إنه سفااااااح متخفٍ، يخنق الأطفال ليلا، ويسرق الأقراط من البنات، وأنه كان من مريدى الجان وغضبوا عليه، فاحتارت خلقته بين الرجال والنساء، وأنه يخرج فى الظلام يغوى الصغار بالحلوى فيلتهمهم …! أو يخيرهم بين أن يكونوا مخنثين مثله أو يمسوا عشاءً للجان، وأن حنان تلك ابنته من الجان، ووووووو إلى آخر منحنى لمخيلة طفل منبهر يحاول أن يحظى بمزيد من الانبهار.
كانت أكثر صفة لصيقة به (الخنث)..ربما لصوته الذى لا يكاد يسمع ،أو لمهنته الغريبة نوعاً ما للرجال (طبخ العسل وتشكيله )،أو لتخطيه العقد الخامس دون بادرة ذكورة واحدة تخط على شاربه أو ذقنه وصوته الأملس الواهن .. ما أدحض كل تلك الافتراضات لدى معاملته لى ..حين كنت أحتال عليه وأدعى وقوع عملتى (مصروفى) من ثقب جيب زى المدرسة الذى اهترأ …كان يمنحنى الحلوى دون تردد وبلا مقابل بل ويعرض علىَّ خدمات أمه فى براءة، لرتق الفتق فى الزى ويلح ويشدد علىَّ بالسير بمحاذاة السور لتجنب الأشقياء والحيطة من الغرباء … مما أورثنى ذنباً تجاهه فلم أعد أشاركهم التهكم بل وأخذت على عاتقى حين يشتد عودى أن أبرئ ساحته، أو أعينه على حمل بوتقة (العسلية) …!
لم أجرؤ على المجاهرة أن ثمة حديثاً دار بينى وبينه ولو مقتضباً، وكلما استحضر اسمه فى غمار لعب الكرة، أو فى مسامرة الحكى فى طريق العودة …تراودنى الكلمات عن الخروج فأتراجع خشية إلصاق تهمة الخنث بى ..
كان يمر فى الجوار وحول المدرسة ينفخ بوقه وتتهدج أوداجه وينادى بلثغته (عثلية..خاتم وثاعة، دبلة ولاعة )، ويحمل كتفه الذى انحنى بمعامل الزمن حمولته …أرقبه من شرفة المنزل وفناء المدرسة ….صار جسده أكثر نحولة وحروفه تناثرت وتقلصت إلى (عثل)..
هدمت المدرسة وحل محل الفناء أبنية صماء… تتصدرها بوابة حديدية، صرت أشد عوداً، وأغلظ صوتاً وخط على وجهى بادرة لحية وشارب ..لكنى لم أتخل عن شغفى بالحلوى ولا توقى لمعرفة قصة (أبو حنان) ولا الرغبة المعتملة فى صدرى لتبرئته، تبعته إلى آخر جولته اليومية ..لم يعد يبيع الحلوى المعهودة وامتلأت البوتقة برقائق البسكويت المسمى (فريسكا)..أمسى ظهره محنيأ وأكل الهزال منه وانتشر الشيب انتشار الهشيم فى رأسه ..رآنى ولم يعرفنى، لم يتذكر من أكون بالتحديد ..ولد من الماضى يتعقبه ..فماضيه لم يتعد الطفولة وحاضره تيبس عند الصبية ..
بصعوبة أراح عن كتفه تلك الحمولة وجلس إلى ظل شجرة وارفة تمردت فروعها وأثمرت خارج السور ..وعليه جلسنا ..بادأته
ـ فاكرنى ؟؟
ـ عاوز فريثكا ؟
ـ شكراً ..عاوز اتكلم معاك ..
ـ قوووول يا ثيدى
ـ ليه واحنا صغيرين كانوا خايفين منك ؟
ـ هىء هىء هىء …
ـ يعنى لمؤاخذة الكلام اللى كانوا بيقولوه عليك واسم أبو حنان ده وانت ما اتجوزتش خالص؟
زفر وتغيرت ملامحه إلى الاستياء وأشاح بناظره، يجتر ذكرى لا تطيب لها نفسه ..ثم أردف بنبرة مغايرة تغشاها دموع حبيسة قديمة قدم المدرسة والحى ولغزه القديم: كنت أصغر منك بكتييييييير ..ورايح اجيب بقرش تعريفة فول ومعايا طبق ألمونيوم …طلعوا عليا ..
ـ مين دول ….حرامية؟
ـ كنت أصغر منك بكتييييييير ..ورايح اجيب بقرش تعريفة فول ومعايا طبق ألمونيوم …طلعوا عليا ..
ـ مين دول ….حرامية؟