بولص آدم
في مطارٍ صغيرٍ على جزيرةٍ، التقى رجلان كانا في زمنٍ ضبابي، زملاء في دائرةٍ حكومية.
تقدّم أحدهما ليصافح الآخر، لكنه توقّف للحظة، مشيرًا إلى بقعةٍ حمراء على جيب قميصه الأبيض، وسأله بقلقٍ فوري: “سلامات؟ دم؟”
ابتسم الآخر، وأشار إلى البقعة كمن يعتذر عن بقية الماضي: “لا تخف… مجرّد حبر. من قلم أبو الخط الأحمر.”
ضحكا. ضحكة تخرج من غرفة أرشيف مهجورة في العقل.
ضحكة تذيب نصف قرن من الغبار، وتفتحه كدرج قديم ما زال يحتفظ برائحة تصحيحات، ثم صمتا. كأن الاسم وحده، “أبو الخط الأحمر”، استدعى كل شيء: الجلسات المنسية، السجلات الملطّخة بالتحفّظات، الرؤساء الذين لم يقرؤوا شيئًا قبل التوقيع، والمذكّرات التي ماتت قبل أن تُوزّع.
فمن هو أبو الخط الأحمر؟
صوتٌ لا يُسمع في الاجتماعات، لكنه يترك أثره تحت الكلمات. ظلٌّ إداري كان يظهر حين تختل التراكيب، أو يخطئ الوطن في هجاء نفسه. هو المعلّق في الهوامش. السطر الذي لا يُطبع، لكنه يُغيّر المعنى. ولعل الحبر الأحمر على القميص، لم يكن علامة على جرح… بل على ذاكرة ما زالت تصحّح، رغم أن النص انتهى منذ زمن طويل.
في نشرةٍ سرّية تعود للثمانينيات، وُجد اسمه مكتوبًا بخطٍ صغير في زاوية الصفحة، بجانب عبارة: “أُعيدت للتدقيق.”
يقال إنه اعترض على صيغة ” نُعلن النصر”، وكتب بخط أحمر: “نُعلن وقف العدّ.” ولم يُنشر البيان بعدها.
اختفى.
لم يكن شاكر “شريرًا”، لكنه كان جديًّا أكثر من اللازم، كأنه يؤمن بأن الفاصلة قد تُنقذ مصير وطن، أو أن حذف الهمزة خيانة لغوية تستحق المحاكمة.
لم يُرَ يضحك، إلا مرة واحدة، حين كتب أحدهم على مُراسلة مكتبية: “شكرًا شاكِر.”
فأشار إلى الاسم بخط أحمر، وصحّح: “شاكر، بلا كسرة.”
ثم ابتسم. ابتسامة كأنها تصريح مؤقت بالخروج من وظيفة الحياة.
ذات يوم، جاءت موظفة جديدة، متحمّسة كأنها خارجة من إعلان عن “فرصتك تبدأ الآن”. أرسلت رسالة إلى الزميلات والزملاء، فيها أمنيات صباحية، وقلب أزرق، وخطاب صغير بعنوان: “لنصنع يومًا جميلًا معًا!”
بعدها، وصل رد من شاكر. الرسالة قد غطّتها خطوط حمراء: أخطاء إملائية، علامات ترقيم غير مناسبة، وملحوظة في الهامش: “القلب لا يُستخدم في مراسلات العمل.”
في الدائرة، كان لقبه السرّي بين الموظفين: “أبو الخط الأحمر”.
ذلك لأنه لا يقرأ شيئًا دون أن يُصلّبه بعلامة، ويصحّح التواريخ، والفواصل، والتراكيب، حتى لو كانت دعوة لحفل شواء على نهر دجلة.
ضحك بعضهم سرًّا، وضحكت هي علنًا — ضحكة كمن يخفي شهقة داخل بلعومه..
لم يكن شاكر موظفًا عاديًا. كان يعمل في قسمٍ غير مُعلن، تحت إدارةٍ لا تحمل اسمًا، في مبنى يشبه الورق المبتل: رمادي، هادئ، ويجفّ ببطء.
وظيفته؟ لا أحد يعلم تمامًا. هو نفسه لم يكن متأكدًا. لكنّه كان يحمل قلمًا أحمر… وهذا وحده كان كافيًا ليُثير القلق.
كان الناس يقولون عنه: “شاكر؟ آه، أبو الخط الأحمر!” بعضهم يقولها باحترام، بعضهم باستهزاء، وبعضهم بحذر كما يُنطق اسم مرضٍ لم يُعلن عنه رسميًا بعد.
قيل إنه كان يرى الحياة كمسودة دائمة. الدولة كمسودة. الناس كمسودات. وأنه كان يؤمن بأن الخط الأحمر ليس مجرّد أداة تدقيق، بل سلاح ناعم: يمحو، يؤطّر، يعترض، دون أن يُطلق رصاصة واحدة.
المفارقة أن جهاز الرقابة يملك خطًا أحمر أيضًا. لكن الفرق كبير. خط الرقابة يمحو. خط شاكر يسأل. الرقابة تضع خطوطها فوق الجمل مثل شرائط إنذار، كأنها تقول: “ابتعد، هنا منطقة خطأ، خطر على العقيدة، خطر على الأمن، خطر على الذوق العام.”
أما شاكر فكان يضع خطه الأحمر تحت الكلمات كمن يوقظها:
“هل تقصد ما كتبت؟
هل الكلمة هنا تسند الجملة أم تفضحها؟
هل هذا تعبير صادق أم إعلان حكومي في هيئة شعر؟”
مرّةً، في إحدى المرات التي طُبع فيها التاريخ مجددًا في العراق بإخراجٍ جديد، وقفت السلطة على شرفة الأخبار وقالت: “لقد عبرنا الأزمة!”
فوجدوا في المسوّدة القديمة خطًا أحمر تحت الكلمة، كتب فوقه شاكر:
“عبرتم فوق من؟”
اختفى.
لم يحبّه أحد من رؤساء الأقسام. فهو لا يحذف. لا يشطب. لا يُراوغ. بل يضع خطًا مستقيمًا، طويلًا، لا يكسر الجملة، بل يكشف عمودها الفقري. وهذا… لا يُطاق. في منشور رسمي عن “الازدهار القادم”، خطّ شاكر تحت كلمة “قادم”، وكتب في الهامش: “هل يمكن أن يأتي شيء لا يصل؟”
طُرد مرّات كثيرة.
اختفى…
وعاد في كل مرة، بهدوءٍ بائس، كأنه موظف في البريد لا أحد يقرأ رسائله، لكنه يُسلّمها على أي حال. كان يؤمن أن اللغة ليست حيادية. وأن من يكتب تقاريرًا دون أن يتلعثم، لا بد أنه يكذب.
في يوم اختفائه الأخير — أو هكذا سُجّل في دفتر الحضور — وجدوا مكتبه فارغًا إلا من ورقة واحدة، رسم عليها خطًا أحمر يمر عبر الصفحة من زاوية إلى زاوية. ظنوه خطًّا بلا معنى. لكن عندما وضعوا الورقة فوق خريطة البلاد…
مرّ الخط من السجن إلى ال.. مجل.. س الو.. ط. ني، ثم عبر النهر، واستقرّ فوق حيٍّ شعبي كُتب اسمه بالغلط مرتين في إحصاء سكاني.
بعضهم يقول: شاكر مات.
بعضهم يقول: شاكر هاجر.
لكن هناك إشاعة… أن خطّه ما زال يظهر في أماكن غير متوقعة: على لافتة ترحيب كتب فيها أحدهم “مرحبًا بالاستقرار”، وعلى جدار مدرسة عُلّقت عليه صورة مسؤول يبتسم كأنما لم يقرأ تاريخه.
وأحيانًا… على جبين مذيع يقرأ أخبار الانتصارات بنبرة مذيعي الطقس.
يُشاع أن شاكر عاد.
ذات مساء، في عرضٍ مسرحيّ فاشلٍ عن “الوطن”، سقطت ورقة من جيب أحد الممثلين. لم تكن ضمن النص. كان فيها تصحيح بخط أحمر على كلمة “وطن”، مكتوب فوقها:
“وَطَنٌ، أم وَطْنٌ؟ اختر بعناية، فالنطق يغيّر المعنى.”
ذات مرّة، في المستقبل، ربما بعد الحرب الخامسة أو السادسة — التفاصيل ضبابية — أعاد أحد الموظفين قراءة سجل قديم. كان تقريرًا مملًّا عن اجتماع لجنة الإصلاح اللغوي الوطني، وظهر فيه تعليق مجهول في الهامش:
“كل إمبراطورية تبدأ بخطأ مطبعي.”
لا جسدًا، بل كعلامة غريبة تظهر على تقارير اللجان، على ملاحق رسمية، على منشورات تحذيرية:
خطٌ أحمر… لا يُعرف من رسمه، لكنه دائمًا هناك.
“أبو الخط الأحمر” لم يكن كاتبًا. ولا معارضًا. ولا شاعرًا.
كان مجرد سؤال مكتوب بقلم لا يُحبّ الإجابات السريعة.
أما هُم، فظلّوا يفرّقون بين الخطين الأحمرين بصعوبة: خط الرقابة كان يُذكّرهم بما لا يجب أن يروه، أما خط شاكر… فكان يُنبّههم إلى ما رأوه دون أن يفهموه.
شاكر لم يمت.
بل انقرض.
انكمش مثل فاصلة غير ضرورية في خطاب سياسي.
دفنوه في مقبرة مشتركة مع “الوثائق غير المهمة”. لكن أحدهم، بفضولٍ شاذ، نبش قبره الورقي، فوجد دفترًا صغيرًا، غلافه ملوّن بلون الدم اليابس، وداخله عبارة واحدة مكرّرة مئة مرة: “لا تصحّح ما لا يمكن قوله.”
شاكر لم يمت فجأة.
ثم انقطع عن الحضور، وغاب كما يغيب الظل عند المغيب… حتى جاءهم الخبر، صارخًا كطلقةٍ في الفراغ: سكتة.
كما لو أن العالم تعب من كثرة ملاحظاته، وقرّر أن يضع نقطة أخيرة. جنازته كانت غريبة. هادئة.
كأن الجميع جاء مجبرًا. وعلى شاهد القبر، كُتبت عبارة: “المرحوم شاكر، الفاتحة.”
لكن أحدهم لاحظ أن الكلمة كُتبت بخط غير متناسق. ومع أن المطر كان خفيفًا، اقترب شخص غريب، أخرج قلماً أحمر من جيبه، وصحّح الكلمة. بخط صغير، أضاف تحتها: “رجاءً، لا تنسوا التنوين.”
اختفى…
“لكن اسم حفيد شاكر ظهر في قائمة وظيفة حكومية، كأن التاريخ يكرّر توقيعه….”
في نشرة الأخبار، ظهر العنوان التالي: “عودة الحقيقة من المنفى الاختياري”
وكان التقرير يُظهر صورة قديمة لرجل يقف أمام لافتة كتب عليها: “هنا تبدأ الحقيقة… أو تنتهي.”
قيل إن اسمه شاكر.
لكن الكاميرا تحرّكت سريعًا.





