محمد فرحات
يوم قائظ، رطب من أيام يونيو 1906، يجفف الهلباوي بعصبية شديدة حبات العرق المنسابة على جبينه، هو إبراهيم الهلباوي المحامي الذي لم ينل محامٍ شهرته بتاريخ المحاماة في مصر، لن تعجب حين تسمع في أحد أزقة مصر القديمة من يساوم على شروة لحم لسان وساقط، حين يتعجب أحدهم من مغالاة التاجر فيقول :- ولمه وهل سأشتري لسان الهلباوي ؟، أو يهدد أحدهم غريمه في صعيد مصر فيقول :- أقتلك و أبيع فدان أرض و أوكل الهلباوي؟!..
يخبره سكرتيرة أن القطار المتجه من طنطا إلى البتانون حيث حضور التحقيقات مع فلاحي حادثة دنشواي سيتخلف عن ميعاده وأن عليهم انتظار القطار التالي، ينظر الهلباوي إلى سكرتيره بضجر وضيق شديدين، لن تخرج إجابة الهلباوي عن إجابتين إما الانتظار والإصرار على موقفه في الدفاع عن فلاحي مصر المساكين، و إما الرجوع للقاهرة، وتنسم عليل الهواء بحديقة قصره المنيف.
لم أعرف من عظماء التاريخ أحدًا توقف مصيرة على قرار منه بانتظار قطار أو عدم انتظاره، كما توقف مصير الهلباوي، لنستنتج معًا وبالتدريج كيف سيكون قراره، وذلك بتصفح تاريخه، ولنعلم في النهاية أن للصدف في التاريخ دورًا لا ينكر، مع الاعتذار مقدما لكارل ماركس الذي لا يرى ذلك.
ولد الهلباوي لأسرة مستورة الحال، قادرة على توفير احتياجاتها الأساسية، على غير عادة الكثير من تلك الأسر القاطنة في دلتا مصر وصعيدها، تحديدًا قرية “العطف -البحيرة”.
وككل تلك الأسر كانت على شفا جرف هارٍ من الفقر والإملاق، ولم يكن من ضمانة لأولادها تحول دون الوقوع بهوة الجوع سوى إرسالهم رحاب الأزهر الشريف حيث حلقات العلم الشرعي واللغوي و حصص الجراية الضامنة لحد أدنى من سد الرمق، لينالوا بعد تخرجهم مهنة كتابية أو تعليمية أو قضائية.
يرى الهلباوي، ابن الاثني عشرة عامًا، القاهرة تموج، في أخريات عهد الخديوي سعيد، بأفواج من أجانب شتى ومن كافة الجنسيات الأوروبية، زحف جرار من أبناء الفلاحين والصعايدة يحلمون بما يلوح في خيالهم من أمنيات وأمال، يتلقى الهلباوي أصول الفقه على المذاهب الأربعة تمهيدًا لتخصصه في إحداها، يشغب على مشايخ المالكية فيطردونه من حلقاتهم، فيلجأ للحنفية فلا يقر له قرار فالفتى مجادل، ذلق اللسان، لا يفتأ من طرح السؤال تلو السؤال، والإشكال تلو الإشكال، فتأخذه دروس النحو والمنطق والبلاغة، فيجوب الأعمدة ويتتبع مشايخها .
وبعد أربع سنوات يلمع في سماء القاهرة العامرة نجم، كيف جاد الزمن الشحيح بمثله؟ هي الصدفة حيث يُنفى من الأستانة إلى القاهرة، وعلى قهوة متاتيا تحديدًا بميدان العتبة، يتحلق جيلٌ كامل سيكون له شأنٌ مبهر حول هذا الشيخ الموسوعي، غريب الأطوار، باهر الكاريزما، الداعي للثورات حيثما حل، قَلِقًا، مُقلِقًا لكل حاكم، ناشرًا الفلسفة، ومبشرًا بحياة تتحول الشعوب فيها من رعايا إحسانهم إلى مواطنين متساوي الحقوق والواجبات، قادمًا من المنافي البعيدة لمستقر لن يطول به كعادته، جمال الدين الأفغاني، ليجد الهلباوي ككل جيله بغيته وضالته، يلتقي الهلباوي بمحمد عبده وعبدالله النديم وسعد زغلول ولطفي السيد وغيرهم العشرات ممن سيكونون من أعلام عصر قادم، تمر به السنوات يتعلم الفلسفة و السياسة ونظم الحكم الأوروبي الحديث على يد الأفغاني، ينشغل بتلك العلوم عن العالمية الأزهرية التي اقترب منها، يؤجل امتحانه عامًا بعد عام، إلى أن يعصف بالوطن زلزال خلع الخديوي إسماعيل وتولية الخديوي توفيق و زيادة التدخل الأجنبي في الشأن الداخلي المصري، يسند الخديوي الجديد الوزارة لرياض باشا، فتكون أولى قراراته نفي جمال الدين الأفغاني .
تسند رئاسة تحرير جريدة الوقائع الرسمية، لسان حال الدولة لمحمد عبده ألمع تلامذة الأفغاني على سبيل ترضية الرأي العام الغاضب من جراء نفي الأفغاني، فيشكل هيئة تحرير من مريدي الأفغاني هم عبد الكريم سليمان و سعد زغلول و إبراهيم الهلباوي و على إثر خلاف حول الراتب الذي ميز فيه سعد زغلول، فيقرر لسعد راتب شهري قدره سبعة جنيهات، والهلباوي خمسة جنيهات، يترك الهلباوي الجريدة ساخطًا، خاسرًا كل شئ، فاتته العالمية و خسر وظيفته، ورجع قريته ليتاجر في القطن، منافسًا محتكري التجارة اليونان، وعينه لا تلتفت أبدًا عن غريمه و منافسه سعد زغلول، تلك المنافسة التي ستحدد الكثير من الإجابات، تضمن له تجارة القطن حدًا أدنى من المعيشة، يعيش بجسده فقط في القرية بينما عينه و قلبه و عقله هنالك في القاهرة، منتظرًا فرصة للانقضاض عليها، سيريها من هو الهلباوي التي فضلت غريمه سعدًا عليه .
يقضي شهورًا حتى يدهم قريتهم طوفان النيل، وكانت قريبة من إقطاعية خاصة برياض باشا، وكان وكيل إقطاعيتة على عداوة مع كبار بعض العائلات فما كان منه سوى إرسال أبنائهم للعمل بالسخرة في إصلاح الجسور و إعمار ما خربه الطوفان بأملاك رياض باشا رئيس وزراء مصر .
فيكتب الهلباوي لجريدة “التجارة” مقالة يصب فيها جام غضبه و سخطه على الوكيل و سيده، ويسبب هذا المقال حرجًا كبيرًا لرياض باشا، فما كان من الوكيل إلا الأمر بالقبض عليه، وأرسل إليه مقيدًا في السلاسل، مهددًا إيَّاه بخراب بيته، فما كان منه إلا أن رد عليه بأنه لا يقدر هو ولا سيده، إلا أن الهلباوي فطن لكلمته الأخيرة وأنها لجديرة بإلقائه في السجن، فرياض باشا كان شديد العصبية، قاسِيَ العسف حيال هذه الأيام المضطربة، فأراد الهلباوي أن يخفف من حدة الموقف، وما كان منه غير الدفاع عن نفسه بالمنطق مستدركًا، “وهل لي بيت حتى تخربه ؟!، والقدرة لا تتعلق بالمستحيلات!”، فخرج من ورطته، وكانت أول مرافعة يدافع فيها الهلباوي عن نفسه مستعينًا بمنطق الحجاج .
تعصف الثورة العرابية بكل شئ، ينسى الهلباوي كل شئ، ينضم لرفاق الأمس القريب، يطير للقاهرة ينضم لأستاذة الإمام محمد عبده، و عبد الله النديم، ينسى ما بينه وبين غريمه اللدود سعد زغلول، يسهرا اللياليَ الطوال يدبجون المقالات والمنشورات الثورية، يحللون الأحداث، و موازين القوى، آمالًا عريضة بخلق وطنٍ حر حديث، وطنٌ لا يفرق بين مواطنيه كما علمهم الأفغاني، ولقنهم.
وتحدث الخيانة و ينكسر العرابي و تنكسر الثورة ويتفرق شمل الرفاق، و تتبخر الأحلام، ويحاول الرفاق النجاة في كل صوب وحدب، يهرب من يهرب، و يحاكم من يحاكم، ويعدم البعض، ويسجن البعض، ويُُنفي البعض، و يحتل الوطن.
وتُكتب المقالات تكيل الاتهامات للثوار،وتتهمهم تارة بالخيانة و تارة بالفوضوية، وفي النهاية كونهم هم السبب الرئيسي لنكبة مصر وخرابها، فتهتف الجماهير مطالبة بالويل و الثبور لمن كانوا يهتفون يومًا ورائهم، ويل للمهزوم يا هلباوي، ويكون السجن من نصيب الهلباوي، مع وجبة صباحية من جلد السياط، هنا يمعن الهلباوي التفكير، يفكر عميقًا فيما كان وما سيكون، يفكر بعيدًا عن أي اعتبار سوى نجاته و خلاصه الفردي، و ماذا فعلت له الجموع التي هتفت معه ضد الطغيان، أين هي تلك الجموع؟ أين تبخرت في لحظة عين؟!
يكتب الهلباوي عريضة استرحام للسير محمد سلطان باشا، نعم سيذكرك بلا ريب فهو كان من رفاق الثورة يومًا، ثم، ..ثم باع الثورة وباع عرابي، وأنعمت عليه الملكة فيكتوريا بلقب سير، وأنعم عليه الخديوي بعشرة آلاف جنيه ذهبي، وبرئاسة مجلس شورى النواب، حتمًا سيذكرك سلطان باشا سيذكرك، فهل سينساك الجميع ؟ .
لم ينسه سير محمد سلطان، بل و يعينه كاتبًا في المجلس، يتدرج الهلباوي في المناصب، ليصبح رئيسًا لكتاب المجلس براتب شهري قدره أربعين جنيهًا .
لم يجد الهلباوي ذاته في حياة الموظفين، يكثر شغبه و جداله وتمرده، فيفصل من المجلس، فيرفع قضية تعويض، ويترافع هو عن نفسه لتهتز قاعة المحكمة بصوته الجهوري، و تنصاع لمنطقه المُحكم، و تقضي له بتعويض كبير، ليجد الهلباوي نفسه أخيرًا في ساحات المحاكم، ويحترف المحاماة وهو بعد في الثامنة والعشرين من عمره.
وكانت مهنة المحاماة في ذاك الزمن مساوية لمهنة “مزور منمق!”، وفي نفس العام 1886 يحترف سعد زغلول -الذي نجا من محاكمات الثورة العرابية بفضل علاقاته القوية – المحاماة، ليقابل سعد الهلباوي في ساحات المحاكم، وتتجدد المنافسة مع غريمه اللدود، لتتصارع أقدارهما بلا هوادة، وكأن مصير سعد و الهلباوي يتشابك كلاهما بفعل قدر لا يغفل عنهما، يحلو له أن يشاهد هذا الصراع الذي لايهدأ ولا يفتر.
يقول سعد زغلول لاحقا ” إني اشتغلت بالمحاماة متنكرًا عن أهلي و أصحابي، وكلما سألني سائل : هل صرت محاميًا؟
أقول : معاذ الله أن أكون كقوم خاسرين .”
يستأجر الهلباوي غرفة بطنطا، لتصبح مكتبًا له، لتأخذه حمى العمل المستعرة، لا يكل الهلباوي ولا يمل ليجوب مدن مصر، يجلجل بصوته في ساحات محاكمها ما بين القضايا الجنائية و المدنية والشرعية لا يخسر قضية واحدة، يفوق الهلباويُ سعدًا في عالم المحاماة ليصبح في فترة قياسية محامي مصر الأول.
هل تهدأ المنافسة بين الرجلين، يقر سعد زغلول بهزيمته، ولكنه يبحث عن باب آخر للمجد، ليس في ساحات المحاكم هذه المرة ولا في الصحافة، لا و لا في السياسة، بل في قصور هوانم مصر و بشواتها، تحديدًا قصر الأميرة نازلي فاضل، تتردد الإشاعات بغرام الأميرة المتقد بهذا الفلاح الأسمر ممشوق القامة، ثم تتوسط لسبب ما لدى مصطفى فهمي باشا، ليتزوج سعد زغلول بكريمته صفية هانم، لم يكن مصطفى باشا فهمي- رئيس وزراء مصر التركي الأصل- ليقبل بهذه الزيجة لولا تدخل الأميرة نازلي، يتزوج سعدٌ صفيةَ.
ماذا سيفعل الهلباوي حيال هذه الضربة، يحاول هو الآخر الارتباط بإحدى الهوانم، ولكنه لم يفلح هذه المرة بوجهه الصارم و جديته الشديدة و منطقه القوي، لا تحتمل هانم ذلك، فضلًا عن أصله الفلاحي المتواضع، و قبل ذلك كله من أين له بوساطة أميرة مثل نازلي هانم فاضل ؟!
لا بأس يا هلباوي، إن لم تتح أميرة، فوصيفة متاحة، وليكن، فليتزوج من تركية أو شركسية، فجارية بيضاء متاحة من قصر الأميرة فاطمة بنت الخديوي المخلوع إسماعيل، يتزوجها الهلباوي و يعود بها إلى طنطا .
لا تتعجب من هذا المسار البرجماتي الصارخ، ولكن هذا الجيل كان ابنًا شرعيًا لثورة مهزومة، مغتصبة، مذبوحة، كان أيضًا جيلًا مهزومًا، مغتصبًا، مذبوحًا!
يقول صلاح عيسى ” ذلك أن الجراح التي عانتها الأمة بهزيمة الثورة، كانت تطرح نفسها على الجيل، وبدا لمعظم عناصره وخاصة المثقفين أن شيئًا لا يمكن أن يصلح ما أفسده الدهر، وإذن فلا أمل في شئ، كان معظمهم ينتمون في كتلتهم الكبرى إلى الطبقة الوسطى الصغيرة في المدينة و الريف، وفي رحلة الصعود الشاق من أسفل السلم الاجتماعي إلى قمته – حيث النجاح و الثروة و الجاه – تحللت إنسانيتهم، بل و عاشوا في ذلك الانفصام المرعب بين ما يؤمنون به، و مايفعلونه، كانوا جميعًا ينتمون لجيل يؤمن بالحرية والديمقراطية والقومية، ويسخرون مواهبهم في خدمة الطغيان الفردي أو ممالأة الاحتلال أو السكوت عنه ..” يتعلم الهلباوي الفرنسية مع غريمه اللدود سعد زغلول، ويحصلا على ليسانس الحقوق . فمع بداية تشكل المحاكم المدنية بهيئتها الأوربية، كانت تتطلب وجود من يدافع عن المتهم من محامين، فتساهلت في بداية الأمر، فقبلت كل من لديه مؤهل، ولم تشترط الحصول على ليسانس الحقوق، وعلى هذا دخل الهلباوي وزغلول عالم المحاماة بدون ليسانس حقوق، حتى حصلا عليه في وقت متأخر من تاريخ احترافهما المحاماة.
يعلو نجم الهلباوي في قصور الخاصة الملكية بفعل علاقات زوجته وصيفة ابنة الخديوي إسماعيل، لينتقل من طنطا إلى القاهرة، مستشارًا لديوان عموم الأوقاف، والخاصة الخديوية، وصديق الخديوي عباس حلمي الثاني و نديمه المقرب.
يتوه سعد زغلول في دروب الارستقراطية و مساراتها الفخمة، و يدمن القمار والشراب، ويخفت صيته في عالم المحاماة، ينتظر فرصة ما، بل صدفة ما .
يملك الهلباوي بعد عشرين عاما الإقطاعيات الشاسعة والقصور المنيفة، يقتني أفخم الملابس من باريس و لندن و نيويورك، يزور كل صيف أرقى الشواطئ الأوربية، وكل أسبوع يقضي إجازته في البحيرة متفقدًا أملاكه كأي أمير من الخاصة الملكية الخديوية، الغريمان يطلان على عامهما الخمسين كل في دربه ومساره، يتقابلان من الحين و الآخر في حفلة هنا أو هناك في أرقى أماكن المحروسة، إلى أن يطل فجر أول يوم من عام 1906 كحريق ينهض للوثوب على المصائر، فيبدل و يغير كما يريد متخفيًا في رداء الصدفة العابرة اللعوب .
” يتبع ان شاء الله ..”
المراجع .
1-حكايات من مصر، صلاح عيسى.
2- الثورة العرابية، صلاح عيسى.
3- مذكرات سعد زغلول.
4-مذكرات إبراهيم بك الهلباوي.