د. حمزة قناوي
تظل أحد أهم أدوار الناقد الأدبي في المنظور الحديث تحليل النص، وتقديم وصف حقيقي له يتجاوز مستوى نحو الجملة إلى نحو النص([1])، ذلك أن كل نص له تركيبه الخاص به الذي يميزه، وله دلالته، وأدواره الوظيفية في سياقاته الداخلية والخارجية، وعبر بِنيته الكلية وتراكيبه النحوية وعناصره الجزئية، يكتسب كل نص خصوصيته المميزة له([2])، ومع تطور النماذج السردية، ومحاولة الأدباء تحقيق التكثيف الدلالي بهدف تقديم خطاب يحقق علاقة اتصال قوية مع المتلقي، ليصبح المؤلف أو الراوي أو بطل الحكاية مرسلاً يرسل رسالة إلى القارئ([3])، ويتبدى لنا في نص “أبحر معي” للكاتبة (هند الظنحاني) أن هناك وعياً واضحاً بتلك المتغيرات الحديثة، ومن ثم فقد صاغت نصها بطريقة تراعي هذه الاشتراطات التي تلعب فيها على عامل التشويق، وتحاول جذب القارئ إلى أقصى درجة ممكنة، وسنرصد هنا عوامل الجذب والتشويق التي تضمَّنها النص.
البداية الأولى مع العنونة، تلك العتبة النصية ذات الوظيفة الجمالية، والمدلول الرئيس لقراءة أيّ نصٍ إبداعي سواء أكان شعراً أم نثراً، ووسيلة القارئ أو المتلقي للدخول إلى عالم النص الإبداعي، ودليله لفهم دلالاته اللغوية والرمزية، فالعنونة تحمل بعداً إشارياً إيحائياً للنصِّ الأدبي ([4])، وقد جاءت العنونة “أبحر معي” تحقق الكثير من هذه العناصر، حيث العنوان يثير الفضول، وهو يبدأ بفعل أمر، لكنه مع ذلك يستحث الطلب من القارئ، فمنذ الوهلة الأولى تعمل المؤلفة على اجتذاب وعي المتلقي، ومحاولة إدخاله في بِنية النص ليكون شريكاً في إنتاج المعنى، وفي خضم ذلك تتوخى البساطة، واللغة السلسة المفهومة.
إن الإبحار يمثل عملية ارتيادٍ لمجهول واكتشافٍ له؛ فكثيراً ما ترتبط فكرة الإبحار بروح المغامرة، وروح البحث والتجريب والتحدي، فهنا ثمة إيحاء بأن مغامرةً عقليةً تنتظر القارئ في قراءته لهذا الكتاب، ننتقل بعدها لنوع من تصعيد التشويق، حيث المَوقَعة الزمانية التي تبدأ منها المؤلفة بالإشارة إلى شهر أغسطس، وهو أشد الشهور حرارةً من العام، في بلادنا العربية، وكنوع من صناعة الراوي الداخلي، أو الراوي الموازي، تشير المؤلفة التي تقدم لنا نفسها بوصفها بطلة النص والمحرك الأساسي له، في خطاب مباشر منها تجاه القارئ، تصنع هنا صوتاً إضافياً هلامياً يتداخل مع الحكي، ذلك الصوت الذي تحيله إلى عقلها الباطن، في إشارة إلى حوار داخلي بينها وبين نفسها.
لا نعلم حقيقة سبب إشكالية شهر أغسطس مع المؤلفة، لا ندري ماذا وراءه، ما الذي يحتاج إلى التماسك لمواجهة هذا الشهر؟ لكن ثمة إشارة إلى وجود كم ضخم من المشاعر المتعددة، والتداخلات المختلفة في نفسيتها، يمكن لنا هنا تصوُّر عشرات الأحداث التي يمكن أن تكون قد حدثت من قبل وسببت هذه الإشكالية، لكن لا يمكننا تحديد إحداها ، غير أن الكاتبة تقرر مواجهة هذه التحديات والضغوط عبر الكتابة، لكنها تحدد هذه الكتابة بأنها موجهة لكل شخص يشعر بالضعف والضياع، ويحتاج لكلمات بسيطة في تركيبها، وقوية في أهدافها، وتشير الكاتبة أن ذلك ما تقدمه هنا في كتابها، وبذلك تكون قد حددت لنفسها أسلوبها الذي ستمضي به في التأليف، بساطة التركيب، مع قوة الهدف، في رسائل موجهة لكل من لديه ضعف أو يشعر بالضياع.
هل ثمة أحداث ومواقف سابقة على النص تعرَّضت لها الكاتبة شعرت فيها بهذا الشعور الصعب، وأنها قد استطاعت تجاوز ذلك، ومن خلاله فهي نوعاً ما تنقل لنا هنا خبراتها في هذا الأمر؟ لا شيء في النص يمكن أن يجيبنا عن ذلك أو يحيلنا إليه، لكن الشاهد هنا أن النص يحيلنا إلى نص آخر خارجي له علاقة بهذا النص لكنه غامض ومشوق، هناك قصة أخرى وراء هذه الأسطر اليسيرة التي قدمتها المؤلفة هنا، لكننا لا نعرفها! نتوقع ونخمن لكن لا يمكن لنا أن نصل لتأكيد محدد، من ثم فإن هذه المقدمة السردية الصغيرة تحقق لنا عاملاً كبيراً من عوامل الجذب والتشويق، وتجعل القارئ يطرح كثيراً من الاحتمالات الموجودة خارج سياق النص، لكننا مع ذلك لا نستطيع أن نؤكد أو ننفي شيئاً.
يهدف الأديب دائماً إلى كسر الحواجز والعوائق بينه وبين الجمهور المحتمل لأدبه، وبمقدار نبوغه في توصيل رؤيته للجمهور، بمقدار ما تتحقق له إبداعيته([5])، ومن هذا المنطلق نجد أن المؤلفة قدمت مقطعاً تحت عنوان “لنتفق يا قارئ السطور”، لتقدم حواراً مباشراً مع القارئ، تحدد فيه أن كل ما ستذكره في كتابتها هنا هو من قبيل وجهة النظر، ومن ثم تعطي للقارئ الحرية في الاتفاق أو الاختلاف، ثم تبدأ في دعوته للإبحار معها، لنجد أن العنونة هنا تكتسب معنى إضافياً بجانب كونها النص الموازي للكتابة، إلا أنه فعل أمر تأمل فيه أن ينفتح أفق القارئ على ما هو موجود من كتابة، ثم تبدأ بعدها في تقديم كتابتها، التي تتخذ طابعاً ما بين السرد والتوجيه والإرشاد النفسي في خضم تجارب الحياة الصعبة، فعبر مقطوعة نثرية تحمل عنواناً خاصاً بها، تصنف مادتها بهذه الكيفية مفتوحة الأبعاد، التي يمكن من خلالها أن نعيد ترتيب المقطوعات دون أن تتأثر.
وقد جاءت العناوين الفرعية عبر اثنين وعشرين عنواناً – أو بالأحرى موضوعاً فرعياً – تتوزع العنونة فيها ما بين الكلمة الواحدة والجملة أحياناً، وكلها موضوعات تتعلق بالنواحي النفسي والشعور الداخلي للإنسان في مواجهة صعوبات الحياة، ما يؤكد أن وجهة نظر الكاتبة أن تولي أهمية كبيرة لدواخل النفس البشرية، وأن الهزيمة أو الانتصار تبدأ فعلياً من داخلنا، والحياة التي صرنا نعيشها في عصرنا الراهن معقدة، ليست بالقدر اليسير ذاته من الاحتياجات البسيطة التي كنا نعيشها في الماضي، وإنما هي لها أبعادها النفسية، ولها ضغوطاتها وأعراضها التي يمكن أن تؤدي إلى أعراض جسمانية خطيرة، بفعل العامل النفسي والشعور الداخلي، لتزيد من معاناة الإنسان، ومن ثم فإن الكاتبة هنا تقدم نصائح بها قدر كبير من الحكمة، وفي أسلوب سلس وبسيط، وتطعّمه في أحيان كثيرة بآيات قرآنية وأحاديث شريفة، وتميزت بسلاسة اللغة وبساطة التركيب، وقرب توصيل المعنى المراد إلى المتلقي.
تقدم لنا الكاتبة “الخاتمة”، بشكل مباشر مستخدمة فعل الأمر في مواجهة المتلقي، محاولة حثه على إعطاء أهمية وأولوية للمتلقي نفسه، “ابدأ بنفسك” هذا شعارها في الخاتمة، وإذا لاحظنا أن الخاتمة يتم فيها استخدام صيغة “ابدأ” فإننا إذاً أمام محاولة لعدم انتهاء الكتاب، ليبقى أثره في نفس المتلقي حتى بعد القراءة، فالخاتمة هي آخر العتبات النصيَّة في الكتاب، فضلاً عن وجود خاتمة، هو يحيلنا بقدر ما إلى الناحية المدرسية والبحثية في الكتب، وهو ما يجعل تصنيف الكتاب متراوحاً بين السرد الذي بدأت به الكاتبة في حوارها مع نفسها، والصوت الذي استيقظت عليه، ثم في حوارها مع المتلقي المتخيل، ثم تأتي خاتمة من دون أية محاولة سردية وإنما حوار مباشر، ليس به انحراف في استخدام الدالات اللغوية، ربما يتناسب ذلك مع رغبة الكاتبة في أن يكون الكتاب يسير اللغة قريب التناول عند القارئ، وتأتي آخر نصيحة وآخر ما يقرأه المتلقي من الكتاب وفق ما اختارت المؤلفة: “كن محباً لنفسك؛ فأنت تستحق الأجمل دائماً”، ومن ثم فهي دعوة أساسية لمحاولة تقدير الذات، والخروج من عقد النقص، ومشاكل عدم السواء النفسي وعدم القدرة على إدراك واقع قيمة الإنسان في المجتمع المعاصر الذي كثيراً ما يظلم الإنسان، هناك قدر كبير من محبة الخير في هذا الكتاب، ومن الرغبة في حصول القراء على السعادة والسلام النفسي، وشعورهم بها، مهما كانت العقبات التي تواجههم، وهناك أيضاً بوادر موهبة سردية قادرة على أن تقدم عملاً سردياً كاملاً أو على الأقل مجموعة قصصية، فنحن في “أبحر معي” أمام كتاب جديد في مقصده، رقيق في لغته، يسير في مخاطبته للقراء، استطاع أن يحقق متعة جمالية، وتجربة قرائية تفاعلية.
.…………………………………
[1] – منذر عياشي: الأسلوبية وتحليل الخطاب، مركز الإنماء الحضاري، حلب، سوريا، 2002، ص 9
[2] – حسين خمري: نظرية النص من بنية المعنى إلى سيميائية الدال، الدار العربية للعلوم، بيروت، 2007م، ص 226
[3] – انظر: حميد لحمداني: بنية النص الروائي من منظور النقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1991م، ص 33-35.
[4] – د.إبراهيم سند إبراهيم أحمد: بنية العتبة العنوانية، مجلة الرافد، يوليو 2024م، متاح على الموقع الالكتروني (شوهد يوم 4/8/2025): https://arrafid.ae/
[5] – انظر: مصطفى سويف: الأسس النفسية للإبداع الفني في الشعر خاصة، دار المعارف، القاهرة، ط4، 1981، ص341.





