شـريف رِزق
يكشفُ الخطابُ الشِّعريُّ في تجربة رفعت سلَّام الشِّعريَّة عن حرصٍ واضح على تأسيس خطاب شعريٍّ خاصٍّ؛ تتكامل حلقاته الشِّعريَّة عبْرَ الدَّواوين المتتابعة؛ لتشكِّلَ معالم خطاب شعريٍّ يُشدِّد على البنية المجازية، وعلى طاقات اللغة، وعلى موقف المبدع المُفارق للجماعة سياسيًّا وشعريًّا، في حرص واضح على إنتاج خطاب شعريٍّ يتَّسم بالملحميَّة والدِّراميَّة والأبعاد البَصَريَّة داخل البنية الشِّعريَّة الغنائيَّة؛ مُستثمرًا أبناط الطِّباعة وفضاء الصَّفحة في التَّشديد على تشعُّب الخطاب وتعدُّد نبراته الشِّعريَّة.
وتُهيمنُ على منظور الذَّات الشَّاعرة رُؤى الخَراب والوحشة والصَّهيل في الأرضِ الخَراب، وتعلو نبرةُ التَّمرُّد ونبرة الهجاء في عواءاتٍ شعريَّةٍ حارَّة بين حطام عالمٍ منهار. ويتدفَّق الصَّوت الشِّعريُّ كثيفًا، ومُحمَّلًا بتاريخ التَّمرُّد على الجماعة؛ منذ تمرُّد جماعة الصَّعاليك في العصر الجاهليِّ؛ الذين خرجوا على الإجماع القَبَليِّ والشِّعريِّ، وصولًا إلى جماعات الثُّوار المُتمرِّدينَ والخارجينَ على الأُطُر والأنظمةِ القائمةِ، في نبراتٍ شعريَّةٍ مُتحوِّلةٍ، ومُتجسِّدةٍ بأشكال مختلفةٍ في فضاء الصَّفحة.
وقد اكتسب هذا الصَّوت الشِّعريُّ خصوصيَّته من اعتماده مجموعة آليَّاتٍ، ظلَّ يُرسِّخُ بها خصوصيَّة أدائه الشِّعريِّ، وتتمثَّلُ فيما يلي:
تخطِّي حدود القصيدة، وتوسيع رُقعة النَّصِّ الشِّعريِّ:
إنَّ الخطاب الشِّعريَّ هنا يتخطَّى حدود القصيد الشِّعريِّ الغنائيِّ، إلى رحابة النَّصِّ الشِّعريِّ المُتَّسع الآفاقِ والجهاتِ، المُنفتحِ على عوالم سرديَّة وبَصَريَّة داخل بنيته الشِّعريَّة الجامعة. انَّ رفعـت سلَّام – منذ “إشراقات رفعت سلَّام“، و”كأنَّها نهاية الأرض“، و”هكذا قلتُ للهاوية“، و”حجر يطفو على الماء“، وصولًا إلى “هكذا تكلَّم الكركدن” – يُشدِّدُ على تجاوزِ حدود “القصيدة” كشكلٍ شِعريٍّ، غنائيٍّ، مُكثَّفٍ، وقصير المساحة، إلى “النَّصِّ” بأشكاله المُتجدِّدة، وانفتاحه على الأشكال والأنواع الأدبيَّة والفنيَّة المُختلفةِ، في خطاب جامعٍ لآليَّات مُنتقاة منها جميعًا ومتضافرة، يتمدَّد بها الخطاب الشِّعريُّ، ويتنامى، وتتَّسع رُقعته.
وثمَّة حرصٌ واضحٌ، في هذه الخطابات، على تنويع بنية النَّصِّ، والتَّشديد على تعدُّدها وتعدُّد تجلياتها رأسيًّا وأفقيًّا في فضاء الصَّفحة. وقد تجلَّى توسيع رقعة فضاء النَّصِّ الشِّعريِّّ، في هذه الخطاباتِ، عبْرَ تقنية المونولوج الدِّراميِّ، المُتدفِّق، المُتنامي، في تصاعدٍ دراميٍّ موَّار، تتعدَّدُ فيه درجاتُ النَّبرة الشِّعريَّة، ويتحوَّل الصَّوت المركزيُّ فيه مِرارًا من المُناجياتِ الغنائيَّة إلى السَّرديَّات، كاسرًا رتابة الأُحاديَّة. كما يقوم أحيانًا، بتكثير أشكال الشِّعر، ضِمْنَ البنيةِ الشِّعريَّة المَركزيَّةِ الجامعة؛ ويقوم، كذلكَ، بتقطيعِ هذا التَّدفُّق المونولوجيِّ إلى وَحَداتٍ شعريَّة مُتتالية، بعناوين فرعيَّة صغرى، كما في “إشراقات رفعت سلَّام“، و”كأنَّها نهاية الأرض“؛ لتشبه شكلَ المتوالية الشِّعريَّة، أو الحلقات الشِّعريَّة المُتنامية، في تصاعُدٍ دراميٍّ، يظلُّ فيه النَّصُّ نصًّا مُتعدِّد الأبنية، وممثِّلًا لإحدى ظواهر الميتاقصيدة.
كثافة الصَّوت، واحتشاده بطبقات التَّناص:
يتشكَّل الخطاب الشِّعريُّ عبْرَ تدفُّق صوتٍ شعريٍّ هادر وكثيف، هو صوتُ الذَّات الفرديَّة المُنسلخةِ عن الجماعة، الضَّاريةِ، الجامعةِ في صوتها تاريخ المُتمرِّدين والمارقين والثُّوار. ويلعب التَّناصُ دورًا مركزيًّا في أداء هذا الصَّوت، وتكثيف نبرته الشِّعريَّة. ويتوسَّع الشَّاعر في التَّناص توسُّعًا لافتًا مع مصادر مُتعدِّدة، تتركَّز في التَّناص مع القرآن الكريم – التَّناص مع الحديث الشَّريف – التَّناص مع الشِّعر العربيِّ “كُليًّا وجزئيًّا” – التَّناص مع حوادث تاريخيَّة – التَّناص مع المسرح “آليةً وطقسًا” – التَّناص الذَّاتي، “وهو ما يحدث بين أشعار الشَّاعر المُختلفة الأخرى”.
التَّشكيل البَصَريُّ، المُتواشج مع التَّشكيل اللغويِّ، والتَّشكيل الدِّلالي للتَّجربة:
يلعب التَّشكيل البَصَريُّ دورًا مُهمًّا في بناء خطاب رفعت سلَّام الشِّعريِّ؛ حيثُ يتكامل دوره مع التَّشكيلات اللغويَّة والتَّشكيلات الدِّلاليَّة، ويقوم بتجسيد هذه الدِّلالات بصريًّا في فضاء النَّصِ المكتوبِ.
وتأكيدًا من الشَّاعر على إبراز تنوُّع الأصوات وتعدُّد مستوياتها، يعمدُ إلى التَّنويع البَصَريِّ، عبْرَ استخدام أبناط الطَّباعة المُختلفة، للدَّلالة على تعدُّد مستويات الصَّوت، أو تعدُّد الأصوات؛ كما في قصيدته: “تنحدر صخور الوقت إلى الهاوية“[1] في ديوانه: “وردة الفوضى الجميلة“، وفي: “إشراقات رفعت سلَّام” يعتمد شكلَ المتن والهامش، كما يعتمد في هذا الدِّيوان وفي ديوان: “هكذا قلت للهاوية” التَّنوُّع بين الكتابة الأفقيَّة والكتابة الرَّأسيَّة. ويُلاحَظ أنَّه – في الشَّكل الأفقيِّ – تُهيمنُ جماليَّات القصيد النَّثريِّ؛ بتدفُّقها وانفتاحها على السَّرد وعلى البناء المونولوجيِّ؛ بينما – في الشَّكل الرَّأسيِّ – تُهيمنُ جماليَّات الشِّعر الحُرِّ الغنائيِّ المُقفي غير الموزون، كما تلعب الفراغاتُ دورًا مُهمًّا في إنتاج الشِّعريَّة هنا. وتُسيطرُ هذه الجماليَّات كذلك في ديوانه: “هكذا تكلم الكركدن“. امَّا ديوانه: “حَجَر يطفو على الماء“، فيكشفُ عن انعطافةٍ أكبر في بناء النَّصِّ البَصَريِّ في خطاب رفعت سلَّام الشِّعريِّ؛ حيثُ بدا المتنُ الشِّعريُّ مَحُوطًا بكتاباتٍ شعريَّة على جوانبه، وبأشكال مختلفةٍ داخلَ المتنِ الشِّعريِّ، وظهرتْ رسومٌ وأشكالٌ عديدةٌ بين الكتاباتِ الشِّعريَّة المُتعدِّدة.
تقدُّم شعريَّة المونولوجات الدِّراميَّة المُتدفِّقة في نبرةٍ شعريَّة مُتمرِّدةٍ وجهيرةٍ ومُتعدِّدةِ الدَّرجات الصَّوتيَّة:
إنَّ النبرةَ الشِّعريَّة المُهيمنةَ في بناء المُتخيَّلِ الشِّعريِّ في خطاب رفعت سلَّام هي نبرةٌ حادَّةٌ، جهيرةٌ، كثيفةٌ، لكنَّها جَهَارةٌ تنتمي إلى طبيعةِ القصيدِ النَّثريِّ؛ فهيَ جهارةُ الأعماقِ الصَّاخبة الضَّارية، لا جهارة الحنجرةِ الخطابيَّة الحماسيَّة التي عُرفتْ قبلَ عصرِ القصيدِ النَّثريِّ؛ نبرة تُجسِّدُ صوتَ الأنا الدَّاخليِّ، موقفها من العالمِ، ومن ذلكَ قوله في نصِّ “مراوغة”، في ديوان: “إشراقات رفعت سلَّام“:
«هَكَذَا أجِيْئُكُمْ عَاريًا بِلا نُبوُّةٍ وَلا شِهَادَةٍ ولا رِسَالةٍ تَدَّعِي قَدَاسَةً مَا كَمَا يَدَّعِي الشُّعرَاءُ عَادَةً أوْ تَدَّعُونَ هَكَذَا أجِيْئُكُمْ رصَاصَةً أوْ خِيَانَةً أو فضِيْحَةً وَأسَمِّي نَفْسِي انْتِهَاكًا وَالوَطَنَ مُسْتَنْقَعًا وَالبَحْرَ قُبَّرَةً وَأنْتُمْ القَتَلةَ لِي أنْ أجِيء عَاريًا مِنَ الصِّفَاتِ وَالخُزَعْبَلاتِ وَالتَّواطُؤاتِ وَمِنْ نَفْسِي وَأقُولُ هَأنَا هَاويةٌ بِلا قَرَارٍ تَقْطَعُ الطَّريقَ دُونَ شَارَةٍ أوْ بِشَارَةٍ أُسَمِّي الأشْيَاءَ بأسْمَائِهَا الأُولى وَأمْضِي في اتِّجَاهِ البَحْرِ رأسيًّا بِلا اسْتِئْذَانٍ فَمَالَلأسَى يَسْتَوطِنُ القلبَ على رَحِيْلِ الطَّائرِ البَحَريِّ نَحْوَ غَابَاتٍ لا تَرِدُ الحُلْمَ وَأقْواسٍ كَمَا الغَابَات هَكَذَا أجِيءُ عَاريًا مِنَ الخَليلِ وَالجُرْجَانيِّ وابْنِ قُتَيْبَة حَتَّى آخِرِ وَغْدٍ عَصْرِيٍّ يَنْبُحُ في الصَّفَحَاتِ الأدبيَّةِ عَارِيًا مِنِّي أكْثَرَ مِنِّي يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أمُوتُ فلا يَبْقَى إلَّا جَسَدٌ قَوْسٌ جَسَدِيٌّ يُوْصِدُ أبْوَابَ الهَرَبِ السِّريَّةِ في اللحَظَاتِ الفَاصِلَةِ فَلا لَوْمَ عَليَّ وَلا تَثْرِيْبَ إذَا عَثَرَتْ قَدَمِي بِالحُفْرَةِ فَهَوَيْتُ إلى هَاوِيَةٍ دَونَ قَرَارٍ وَأنَا أتَشَبَّثُ بِالخَيْطِ المَقْطُوعِ وَأهْتُفُ يَا قَاتِلَتِي المَأجُورَةَ الخَيْطَ الخَيْطَ فلا تَسْتَجِيْبُ لِي.. »[2]
هكذا يُشدِّدُ هذا الخطابُ الشِّعريُّ المونولوجيُّ على التَّجرُّدِ من التَّواصُل مع الجماعةِ شكلًا ومحتوى، عبْرَ شكلٍ شعريٍّ يُجسِّدُ بحضورِهِ الشَّكليِّ الخاصِّ وبمحموله الدِّلاليِّ خطابًا بديلًا ومُوازيًا.
الانتقالُ من شعريَّة المونولوج Monologueإلى شعريَّة الدَّيالوج Dialogue، والعكس:
وهو ما يحدُثُ معه التَّحوُّل من الحوار الدَّاخليِّ إلى حوار خارجيٍّ، يكون فيه المروي له مُشخصنًا في متنِ الخطابِ، وهو ما يتمُّ معه تحوُّلٌ من عوالم الدَّاخل إلى عوالم الخارج، والعكسِ، على نحْوٍ دائمٍ، وهو ما يُمكنُ رصدُهُ في تحوُّلات الخطابِ الشِّعريِّ في قوله في مُستهلِّ نصِّه “مكابدة”، من: “إشراقات رفعت سلَّام“:
“مرحًا دونَ مناسبةٍ أمضي مُتوهِّجًا بالغموضِ الغريبِ عابثًا بالمُحرَّماتِ التي تطولُها يدي في سَورةِ المَللِ اللئيمِ تلكَ عادتي في ليالي الشِّتاءِ حينَ تُمطرُ السَّماءُ سُمًّا ومطرًا وحجارةً فينفطرَ القلبُ انفطارًا فأمضي في الشَّوارعِ الخاليةِ أُراودُ الأشجارَ النَّديَّة عن نفسِها والإسفلتُ لامعٌ صقيلٌ أوشوشُ الأعشابِ بما لم يخطُرْ في البالِ فتُوشوشني بما خطرَ في البالِ فيا أيُّها الأوغادُ لستُمْ قضاتي ولستُ غيرَ زنيمٍ فاتَّئدوا اليوم الذي لا يعود مضى كسيرتي الشَّهيرة ولكنِّي باقٍ أعوي في وادٍ غير ذي زرعٍ مُتوهِّجًا بالغموضِ الغريبِ تارةً فما للأرضِ تستلقي وتُعطيني ظهرَها المجلودَ بالسِّياطِ ما للفجيعةِ طائرٌ يُحلِّقُ ولا يحطُّ ما لي أنا وقد دنتْ دينونتي دونَ انتباه فانظروا يا عابري الطَّريق هل مَرَح غريب كمرحي العابر أم ظلٌّ على وجهي يموجُ ولا ينجلي حين تهربُ الفئرانُ من السَّفينةِ الغارقةِ رويدكَ أيُّها القلبُ الحرامُ لماذا تهربُ الفئرانُ من القصيدةِ الأخيرةِ وتجتاحُ الشَّوارعَ بغتةً وأنا مرحٌ دون مناسبةٍ أصرخُ في البريَّة يا قومُ قد زهقَ الحقُّ وجاءَ الباطلُ إنَّ الباطلَ كان فعولًا وأنا لستُ الفاعلَ بلا ندمٍ أو تذكارٍ ذهبيٍّ أو فضيٍّ دون ذريعةٍ ما وأُشهدُكُم هاهيَ الزُّرقةُ مُحاصرَةٌ بغابةٍ من المآذنِ المسنونةِ الضَّارعةِ فلمَنْ أشكو والمالُ مالُ اللهِ والبيتُ بيتُ الله فتبرعوا من مالِ اللهِ إلى بيتِ اللهِ فلستُمْ سوى حشراتٍ بلهاء والسَّماءُ مبقورةٌ في مدينةٍ بلا مساءٍ هيَ الظَّهيرةُ والظَّهيرةُ والظَّهيرةُ والتُّرابُ والصُّراخُ والعفونةُ المَلْسَاءُ والبنوكُ والظَّهيرةُ ولا أحد لا ينتابني الغناءُ ولا الرَّثاءُ.. “[3]
التَّركيز على شعريَّة التَّجريب اللغوي:
تُعدُّ تجربة رفعت سلَّام الشِّعريَّة واحدةً من التَّجارب الأساسيَّة التي أكَّدتْ رفضَ الواقع المعيشِ، بإقامةِ واقعٍ لغويٍّ بديلٍ، جنحَ أحيانًا إلى التَّشكيلاتِ اللغويَّة والمجازيَّة، والاستفادة من الطَّاقات الصَّوتيَّة للحروف؛ وذلك بتكرارِ حروفٍ مُعيَّنةٍ في الكلماتِ، بشكلٍ مُتواترٍ ومُتتابعٍ. ومنْ ذلكَ قوله، في ديوانِ: “كأنَّها نهاية الأرض“:
“تسوقُ السَّراطين إلى سردابك السِّري ساعة الخُسر، رسوكٌ سائغٌ، ساغبٌ له السُّؤال المستحيل وسورة الحسدِ الحسير، اغرسْ سِهامكَ في السَّديم السَّهل سيسبانًا وبانًا يسلبُ السَّبيل من السَّائرين.. سرْ إلى السِّر سريعًا سافرًا لا بأس مستوفزًا، سردابٌ سابغٌ سؤالٌ عسيرٌ لا تستدرْ واسحبْ من الأسفارِ سيفكَ السَّامريَّ، واستلبْ السَّرابَ إلى سربٍ من النِّسور السَّائمة تغسلُ السَّريرة في السَّعيرِ المريرِ المُرِّ. “[4]
وللأداءِ اللغويِّ عنده مستوياتٌ مُتعدِّدةٌ؛ يتداخلُ فيها البدويُّ القديمُ بالتَّداوليِّ المعاصرِ، في جديلةٍ شعريَّةٍ جامعة. وعلى الرَّغم ممَّا للُّغةِ من أدوارٍ جماليَّةٍ في مشهدِ الخطابِ الشِّعريِّ؛ تلفتُ النَّظرَ إلى حضورِها التَّشكيليِّ والإيقاعيِّ، وتحوُّلات كلٍّ منهما، فإنَّها لم تُوغلْ في القطيعةِ المعرفيَّة، كذلكَ فإنَّ كثافةَ الإزاحاتِ اللغويَّةِ لم تعُقْ تدفُّقَ التَّجربةِ أو تحجُب ملامحَها.
التَّشظي والبناءُ المُونتاجي:
يعمدُ الشَّاعرُ، أحيانًا، إلى بنية التَّشظي؛ ليجمعَ لقطاتٍ مُتواليةً ومتداخلةً، يقومُ بالتَّوليفِ بينها، عبْرَ آليةِ المونتاجِ الشِّعريِّ، في بناءٍ بَصَريٍّ يقوم على التَّتابع لإحداثِ سرْدٍ شعريٍّ بَصَريٍّ دراميٍّ، يُحقِّقُ مجازًا سينمائيًّا، في الخطابِ الشِّعريِّ، ومن صورِ المونتاجِ في عملِ رفعت سلَّام:
المونتاج المُتسارِع Accelerated Montage:
وفيه تتوالى اللقطاتُ، في إيقاعٍ سريعٍ ولاهثٍ، وأداءٍ مكثَّفٍ، ومُتجرِّدٍ من السَّرديَّة أو الغنائيَّة، ومنه قوله في قصيدة: “منية شبين“:
“القطاراتُ، الرَّحيلُ، اللوعةُ، الأبناءُ للحربِ، مناديلُ الأمَّهاتِ، الصِّبيةُ، الفتياتُ، السَّوادُ، الرَّصيفُ المُقفرُ الخالي، نشيجٌ، بائعُ الكولا، مواءُ القطَّةِ الحامل، نظرةُ الدَّهشةِ من عينِ المدينةِ، المحطَّةِ، الأوراقُ طائرةً من السَّلَّةِ للإسفلتِ، صوتُ الرِّيح يأتي من بعيد، دقَّةُ السَّاعةِ، رُعبٌ، دهشةٌ، صفَّارةُ البدءِ، صوتُ العجلاتِ، بكاءٌ.
الغبارُ، الجلابيبُ، الطَّواقي، رحلةُ العودةِ، صرخةٌ مكتومةٌ، سِربُ الحمامِ يطيرُ للشَّرقِ البعيدِ، سنابلُ القمحِ، الصِّغارُ، حوائطُ الطِّين، النَّخيلُ، التُّوتُ، صمتٌ صارخٌ، ظلمةُ القريةِ، الحارةُ، البابُ الخشبيُّ العتيقُ، الجرَّةُ المقلوبةُ، الصَّمتُ، السَّوادُ، الطَّرحةُ الباليةُ، بكاءٌ“[5]
المونتاجُ السَّرديُّ Marrative Montage:
“قطاراتٌ تعوي، قبائلُ مُدجَّجةٌ، جرَّةٌ مقلوبةٌ، صمتٌ يهوي على حجرٍ، خِنجرٌ مُعلَّقٌ في سماءِ الذَّاكرة، ليلٌ قرويٌّ، صبيٌّ يهربث خوفًا من الخميسِ، طائرٌ يلوحُ من نافذةٍ غامضةٍ قاعدٌ على حافةِ وقتٍ من رماد، مرأةٌ تمضي إلى قبرٍ ومرأةٌ تجيءُ، يارا غابةٌ من الضَّحكِ، طبولٌ تقرعُها الرِّيح من زمنٍ” [6]
إنَّ تجربة رفعت سلَّام الشِّعريَّة واحدةٌ من التَّجاربِ الشِّعريَّة الأساسيَّة في مشهد الشِّعريَّة العربيَّة الجديدة التي تُرسِّخُ لنوعٍ شعريٍّ جديدٍ وخاصٍّ، مُتشعِّبِ البناء ومتكاملِ الحلقاتِ داخل دائرة القصيد النَّثريِّ؛ نوع شعري يخرجُ على تفاصيل الواقع المعيشِ، بإقامةِ واقعٍ لغويٍّ بديلٍ، يُجسِّدُ تجربة الاستقلالِ عن الجماعةِ، ويحتفي بالاستبطاناتِ الرُّوحيَّة قدرَ احتفائه بالتَّشكيلات اللغويَّة الدَّالة، في خطابه الشِّعريِّ الخاصِّ.
……………………………………………..
[1]وردة الفوضى الجميلة، الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، 1987، ص ص: 41، 85.
[2]إشراقات رفعت سلَّام، الهيئة المصريَّة العامة للكتاب، 1992، ص: 13.
[3]السَّابق، ص ص: 36، 37.
[4]كأنَّها نهاية الأرض، مركز الحضارة العربية، 1999، ص: 18، 19.
[5]وردة الفوضى الجميلة، سابق، ص ص: 6، 7.