يوميات الجراحة الأولى /الغرفة ٣١١
شعرت ببعض الألم في جانبي الأيمن، ظننت إنها أملاح الكلى كعادتي وتكاسلت عن زيارة الطبيب، حتى نصحني طبيبًا لم أره من قبل عبر محادثة الفيس بوك أن أزور المستشفى فورًا، شكوتي تشير إلى احتمالات إصابتي بالتهاب الزائدة الدودية وهو أمر لا يحتمل الانتظار.
كان الطبيب الافتراضي كالرسول الذي جاء يبشرني بالجراحة، طيبًا عطوفًا يطمأن عليَ كلما سنحت له الفرصة بأدب الأنبياء.
استجبت له وزرت أقرب مستشفى ،كان طبيب الطوارئ يجلس على مكتبه في العيادة وقد أخفى جسده العملاق تحت المكتب، أمرني بالاستلقاء على السرير،انتصب ماردًا عملاقًا يشبه "هالك" الرجل الأخضر الذي يخشاه الأطفال، أمسك بسماعته ووضعها على قلبي، شعرت إنها خرطوم لفيل تايلاندي يعمل بدوام جزئي في تلك المستشفى، حدقت في عينيه فعاد لهيئته كمارد طبيب.
أمر المارد بإجراء بعض الفحوصات والتحاليل، المعمل في الدور الأول هكذا أوصى.
صعدت السلالم لاهثة، وأمام باب مغلق سألت عابرًا : الباب المقفول دا ادخله ازاي؟
_ عايزة تدخلي العمليات ليه؟
_ لا أنا عايزة المعمل
عندها فقط، شعرت أن هذا الباب المغلق لن يصمد أمام قَدر فتحه، سأدخله قريبًا وستنتهي تلك الدورة الروتينية به
في معمل التحاليل، قال الطبيب أن كل شئ على ما يرام، وأمام جهاز الأشعة ، أكد زميله الأمر نفسه، وثقتي في حدسي لا تهتز لم يفعلها من قبل.
عدت للمارد بنتائج التحاليل، كانت ساحة الطوارئ قد ازدحمت بالمرضى المفاجئين، لفت نظري رجلًا أربعينيًا يكح دمًا يرتدي جبيرة على يده وكأنه يسند صدره المريض بالجبس خشية الزلزال، اطلت النظر له وظننت أن مع كحته القادمة سينهار الجبس أو يميل الرجل كعمارة الإسكندرية ويمشي بزاوية مائلة في أرجاء المستشفى.
على يمينه رأيت فتاة حمراء، سيدة عشرينية جاءت بصحبة زوجها للتو من المصيف، ترتدي نظارة شمسية ليلًا، وتظهر علامات "المايوه" على كتفها الأحمر، وجهها ورقبتها حمراوان ككيكة الريد فيلفت التي كست كل الحلوى في مدينتنا، وقفت لترد على التليفون ،رأيتها من زاوية أخرى ،قلت إنها أحد ضحايا قناديل البحر أو أن زوجها العملاق الذي يرتدي الشورت القصير قد حاول طهيها في مقلاة زيت ليسد رمقه في إحدى قرى الساحل الشمالي، ثم جاء ليكفر عن خطأه هنا في المستشفى.
جاء دوري بعدهما وعدت للمارد، فقال أن تحاليلي سليمة ولم يتعرف على سبب الألم ولكن على العودة في الصباح لإجراء الأشعة التلفزيونية.
في الثانية عشر ظهرًا، جاءتني زميلة جديدة لتأخذني للمستشفى، انتظرنا في غرفة السونار، ودخلت للطبيب اللامع، كانت أذناه تبرقان وكأنه انتهى من غسلهما بسائل الأطباق للتو، نظرت إلى وجهه فوجدته يلمع، وشعرت أن عاملة النظافة التي قابلتها في الخارج قد أتت على الغرفة كلها متضمنة وجه الطبيب.
وضع الجهاز على جسدي وأمرني بالشهيق والزفيز عدة مرات بعدما ملأ بطني بسائل لزج يستخدم عادة في الأشعات، كان السائل المطاطي يعلو ويهبط فوق معدتي وأحشائي كلعب سمك الزينة، ومن وقت لأخر كنت أنظر للجهاز الذي تحبه الحوامل، فأجد رحمي خاليًا وكل ما يحيطه جديد بغلافه الخارجي، نظرت مرة أخرى للجهاز فقال أن المبيضين سليمين، ضحكت وقلت له: وايه اللي هيبوظهم يعني كل حاجة هنا جديدة لانج، ضحك الطبيب وهو يؤكد أن أمراض النساء منتشرة لدى الآنسات أكثر من المتزوجات خاصة تكيس المبيض مرض العصر.
أنهى الرجل اللامع تصوير أحشائي وجفف السائل اللزج فماتت أسماك الزينة، وارتديت ملابسي وهو يقول "كله زي الفل بس لازم تشوفي جراح يقولك هتعملي الزايدة ولا لأ"
تركته، وسألت عن أقرب موعد للجراح فقالوا إنه على وصول، استغليت الفرصة وفعلت فعلتي حتى حضر.
بعد نقاش دام دقائق مع الجراح، وفحص سريع، أشار لمساعده لكي ينقذ زائدتي من الانفجار
وابتسم متسائلًا: آخر مرة اكلتي امتى؟
_ بصراحة أنا كنت عارفة انك هتعملي عملية فأكلت شاورمة اول ما عرفت إنك وصلت
ضحك الطبيب وهو يؤكد أن الشاورما لا تكفي للحماية من مشرطه
****
هاتفت ماما وأخبرتها بنبأ الجراحة، ففزعت وقالت إنها ستأتيني قبل الصباح، غادرت المستشفى دون فزع وذهبت لصحيفتي لأنهي بعض إجراءات شركة التأمين وأخبر مديري أنني سأغيب عنه لفترة.
رأيت من أحبهم ومن كنت أحبهم وتوقفت ومن تبين لي إنني ما زلت أحبهم حتى إنني نظرت إلى إحداهن بتوسل وسألت نفسي هل ستٌسلم عليَ قبل الجراحة أم سنظل صامتين للأبد فنظرت إليَ بتوتر وانشغلت فيما تفعل.
قابلت زميلة بصحبة أخرى انقطع الكلام بيننا منذ سنوات ولكنها ابتسمت وبادرتني "تقومي بالسلامة" فشكرتها وأخذت أوراقي وغادرت المبنى وأنا أبحث عن الخوف فلم أجده
عدت للبيت وطلبت من أخي أن يعد لي الغذاء الأخير ،بالغ في إطعامي وهو يضحك كعادته ويذكرني بالمشرط والبنج وما تبين إني لا أخشاه فعلًا
ثم قررت أن أذهب للمستشفى في كامل أناقتي، حتى إنني بعدما ارتديت ملابسي سألني أخي "انتي رايحة تعملي عملية ولا رايحة النادي"، وحضرت حقيبتي ونزلنا
بمجرد وصولي للمستشفى كان أصدقائي قد جاءوا ليطمأنوا علىَ ويطمأنوني، تسلمت معهم غرفتي ووضع الممرض أول لبنة في جلدي، الكانيولا التي تصير بديلًا عن فمي وتأكل ما نستعيض عن الغذاء به.
دقائق وهاتفني صديق وقال إنه في الطريق، قلت للباقين إنه سيأتي بصديقتي السابقة وأن قلبي يحدثني عن ذلك، وبعد ربع ساعة جاء بصحبتها فعلًا
احتضنتي بصدق وعرفتها على الحاضرين، وحكت لي عن تجربتها في الجراحة الأولى، وتبادلنا نظرات ذات مغزى، شعرت إنها تحبني وأنا أعرف إني أحبها ولكن ما جرى بيننا يقطع احتمالات الإفصاح عن تلك المحبة، نحن من تبادلنا الإيذاء بقصد أحيانًا وبعفوية مرات كثيرة، نما بيننا جبل ضغينة هائل، أذابت تلك الزيارة فوهته على الأقل
حين تقرر المغادرة ستحضنني مرة أخرى، وأربت على كتفها تلك الربتة التي نعرفها معًا ولكن صوت طبول الحرب حولنا سيحول بين تبادل الهمس، الهمس اللازم لإذابة منتصف الجبل، نقرر الصمت والاكتفاء بما انصهر فعلًا
تأتي أختي الصغيرة، وتشيع تلك البهجة التي يفعلها الأطفال في البيوت الراكدة رغم إنها لم تعد طفلة ولكنها ستظل كذلك في عيني، حتى تزورنا صديقة في أيام حملها الأخيرة بصحبة زوجها فيتواصل الضحك على الفتاة العنود في رحمها تلك الصعيدية التي ترفض الانضمام لنا في موعدها نغرق في الضحك حتى تحذرنا المستشفى "موعد الزيارة انتهى" فنودع أصدقائنا وننام.
***
قبيل التاسعة بقليل، جاءت الممرضة وسلمتني ملابس التعقيم مصحوبة ببعض التعليمات، بعدها سيكون عليَ أن أقفز فوق النقالة تلك التي لم أحبها
"سأذهب للعمليات ماشية" يرفض المسعف المكلف بنقلي لأسباب لها علاقة بالنظافة،، لست عاجزة لكي ينقلني رجلان لإجراء جراحة بسيطة على طريقة من يستعدون ليلقون حتفهم
وبعد مفاوضات امتثل لمطلبه وأصعد
أرقد فوق النقالة مصحوبة بضحكة أختي ورهبة أمي، وعلى باب غرفة العمليات احتضنتني ماما عدة مرات وفي عيونها كل الأمومة الممكنة، وأنا ابتسم وأردد آية الكرسي وأقاطعها "ماما متعمليش دراما" ، فتساءل ماما الجراح متوسلة:عايزة ادخل معاها
يغلق الجراح باب الغرفة على عيونها القلقة ويقول" بنتك قوية متقلقيش"
في غرفة العمليات سيتناوب الأطباء على وضع الاجهزة وهم يتحدثون إلى حتى يعمل التخدير في دمي،سألت الطبيبة " ماما قالت اللي بيشيل الزايدة بيتخن بجد ولا أساطير مصرية؟"
قالت "لا طبعا مش بيتخن وهي تضحك
قلت لها والله العظيم لو بتتخن هسيبكم واجري وكانت آخر جملة قلتها قبل الاستسلام للمخدر حيث كنت أعلق عيوني بالكثير من الملابس الزرقاء المنتشرة حولي وكأنها سماءًا جديدة نعلق عليها آمالانا في الشفاء
****
افقت من التخدير فرأيت الطبيب يخلع عنه قناع الجراحة كبطل فيلم القناع وانتظرت أن يتحول إلى وحش فظل طبيبًا كما هو وقال غاضبًا "زايدتك وحشة أوي يا سارة"
كانت الغرفة تضج بالأطباء وكان أحدهم يهتف متوترًا قيصرية في عمليات تلاتة، بعدها بدقائق سمعت صوت طفل يشق رحم أمه نحو الحياة فظننت إنه وليدي، وفزعت كيف يكون لي ولد ولم يضاجعني رجل، ثم جاء المسعف وحملني كغنيمة على نقالته ثم القاني على سرير حيث كانت ماما تجلس عن يميني مع اثنين من صديقاتي
شعرت بنصف وعي، وألم في حلقي جعلني غير قادرة على الكلام ولكني ميزت صديقاتي بسهولة حتى إنني توليت تعريفهم لماما التي كانت تعرف إحداهن بالفعل كصديقة طفولة
بعد عدة محاليل تناوبت على جسدي، ونوم وإفاقة، تمكنت من الكتابة فعرفت إنني عدت للحياة
جاء أصدقائي كلهم ليلًا، ولم تنقطع الاتصالات عن هاتفي، واجهت عاصفة من الحب لم اتخيل وجودها ولو للحظة واحدة، حتى إنني كنت أغلق الخط لأن شخص أخر يحاول الاتصال وثالث في المستشفى يسأل عن رقم الغرفة، الممرضات في استقبال الدور الذي أقمت به قالوا أن كل الزيارات لي فكرروا عبارة ٣١١ كلما رأوا أحدًا
هاتفني من قابلته مرة عابرة في الحياة وزارني من لم أعده يومًا، وتكلف عناء رؤيتي من لم أفكر به لحظة، وغاب كثير ممن انتظرتهم فدربت نفسي على اللامبالاة والاكتفاء بهذا الرصيد، رأيت من جاءني قلقًا، ومن اتاني محبًا، ومن زارني حفاظًا على ماء وجهه رغم إنه غير مضطر لذلك، كان قلبي خفيفًا بالشكل الذي جعله يسمع دبيب قلوب الحاضرين، همسهم ونميمتهم، حبهم وخوفهم وحتى الضغينة.
تعلمت درسًا جديدًا عن معاودة المرضى يجعلني أسرع للاطمئنان على كل من أعرف، فليس من ذاق كمن سمع، ينتظر المريض الزيارة، تدخل على قلبه السرور وتشعره أن رحلته في الحياة ليست شقاءًا فحسب بل عطاء ومحبة
تعلمنا التجربة ألا ننتظر أحدًا، وألا نعاتب مقصرًا، وألا نتكاسل عن نيل صدقة زيارة المرضى، فربما نعود للغرفة نفسها ننتظر من يمر بنا ونحن عنه غافلون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ