ينس بيورنبو: الكتابة.. الخمر.. الانتحار

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد الشريف

مشهدان نبدأ بهما رحلتنا مع هذا الكاتب الاستثنائي:

المشهد الأول؛ عندما كانت هناك حفلة ولقاء في بيت أبويه فأخذ قنينة خمره وذهب خارج البيت وتذوق الكحول لأول مرة، كان آنذاك في الثانية عشرة.

المشهد الثاني؛ وهو في الرابعة عشرة عندما حاول قتل نفسه، لكن فرع الشجرة الذي أراد أن يشنق نفسه عليه انكسر. هذان المشهدان سيظل تأثيرهما عليه حتى آخر لحظة في حياته.

ولد ينس بيورنبو في التاسع من أكتوبر عام ١٩٢٠ في مدينة “كريستيا نساند” جنوب النرويج. العائلة هاجرت من ألمانيا في القرن السابع عشر، معظم أفراد العائلة كانوا سلسلة طويلة من ضباط السفن، وقد ذهب ينس بيورنبو نفسه في جولات بحرية عدة مرات.

كان والده مالك سفينة وقنصلًا وسياسيًّا محافظًا. وكانت الأسرة مزدهرة اقتصاديًّا، لكن و-بحسب تصريحات الكاتب- فلم يتمتع بطفولة جيدة وعانى جسديًّا ونفسيًّا. كان عمر الأب أربعين عامًا والأم أثنين وعشرين عندما تزوجت. وصارت العلاقة بينهما باردة والأب كان بعيدًا. مع ذلك فقد ساعد الدعم المادي بيورنبو وجعل حياته ككاتب وشاعر ومسرحي إلخ ممكنة. أصبح مهتمًا بالأدب الكلاسيكي والفلسفة في وقت مبكر، وبحلول الخامسة عشرة كان قد قرأ معظم كتب نيتشه.

 قبل الحرب العالمية مباشرة في العام ١٩٣٨ توفي والده، ويقال إن كلماته الأخيرة لابنه كانت:” أنت فتى طيب ياينس، ولكن ماذا يمكن أن يخرج منك”، ذهب بيورنبو ووالدته في جولة في أوروبا بعد وفاة والده وأكمل امتحانه الفني كطالب خاص، بعد ذلك بدأ في المدرسة النرويجية للفنون والحرف ليصبح رسامًا، وفي ذات العام صار عضوًا وجزءًا من المحيط الأنثروبولوجي في أوسلو، جنبًا إلى جنب مع ابن خالته “أندريه بيركه” الشاعر المعروف فيما بعد.

ويقول كاتب سيرته “تورا ريم” إن بيورنبو عندما كان شابًا، كان شخصًا غير سياسي ولم يكن يهمه مقاومة الاحتلال النازي في النرويج ولا الحرب المستعرة في أوروبا في ذلك الوقت. بعد ذلك أدرك بيورنبو أن فن الرسم وحده لم يكن كافيًا لحاجته إلى التعبير، لذلك قرر أن يصبح كاتبًا.

عمل بيورنبو لمدة سبع سنوات في مدرسة في أوسلو، كان أحد تلامذته “Odd Nedrum” الرسام النرويجي الذي يقيم في باريس الآن وتباع لوحاته بمبالغ طائلة، وبلغت ثروته الملايين. قال نيردروم إن التلاميذ استفادوا من طريقة تعليم بيورنبو التخيلية الرائعة. غير أن بيورنبو لم يستمر في العمل، فالأجر كان منخفضًا والعمل شاقًا، ولم يكن هناك سوى القليل من وقت الفراغ، في النهاية تخلى عن مهنة التدريس. لكن التجربة ألهمته روايته “يوناس” ١٩٥٥ التي أحدثت ضجة كبيرة وطبعت عدة طبعات، وأدت إلى واحدة من أكبر المناقشات العامة في النرويج، ويقال إن الرواية ساهمت في تغيير أسلوب وطريقة التعليم فيما بعد.

في عام ١٩٥٦ غادر النرويج مكتئبًا للغاية ومدمنًا للكحول، وتجول في جميع أنحاء أوروبا. في عام ١٩٥٩ عاد بيورنبو إلى النرويج،  كانت تلك العودة بمثابة بداية جديدة وكثف إنتاجه: شعرًا، رواية، مسرحًا، مقالات إلخ واستمر بإثارة تساؤلات حول الشر والقسوة والعدالة الإنسانية، ولم يتخل عن مهاجمة أو نقد الشرطة والقضاء والأخلاق الجنسية حتى جاء عام ١٩٦٦ وأصدر رواية بعنوان “عاري” فتم إدانته لنشر رواية غير لائقة ونشر مواد إباحية، ثم رفعت القضية من محكمة المقاطعة إلى المحكمة العليا التى حكمت عليه بالغرامة وصادرت الشرطة الرواية والمطبعة وجرت مناقشة واستجواب في البرلمان.

ويقال إن سبب تخفيف الحكم، عثور الشرطة على مجلات ومواد بورنو في أماكن بيع رواية بيورنبو، وقد أشار هو نفسه إلى ذلك، لكن المحكمة حملته مسؤولية أخلاقية كونه كاتبًا.

وقد ذكر بيورنبو أثناء المحاكمة عددًا من المؤلفين المشهورين الآخرين الذين اتهموا بكتابة أعمال بذيئة. بعد حظر الكتاب في النرويج نشر في الدانمارك وتحول إلى فيلم. أما عن الرواية فتدور حول فتاة تبلغ من العمر تسعة عشر عامًا، تعاني كبت ومشكلات جنسية،  تستشير طبيبًا متخصصًا في هزة الجماع،  فينجح علاج الطبيب وتذهب في جولة في أوربا، حيث تكشف عن حياتها الجنسية في العديد من المواقف والسياقات المختلفة. لقد وجد بيورنبو جمهورًا جديدًا من جيل الشباب في الستينيات والسبعينيات الذين اعتنقوا نقده للسلطة وتعاطفه المبدئي مع المتمردين والمنبوذين. عززت مجموعة المقالات التى جمعها في كتاب تحت عنوان (الشرطة والفوضى) مكانته الجديدة كمفكر لا سلطوي وكاتب وشاعر متمرد.

في تلك الفترة كان قد انتهى أيضًا من ثلاثيته الشهيرة (تاريخ الوحشية) التي كتبها ابتداء من الستينيات، لكن قبل التوقف عند هذا العمل الكبير، يجدر التمهل قليلًا عند أسلوب وطريقة بيورنبو في الكتابة، فلا يمكن بحال أن يصبح بهذه المكانة من خلال تمرده ومواضيعه الجريئة وانحيازه  للمهمشين والمظلومين في العالم رغم نبل التوجه والجهد المبذول، إذن هناك شيء أو أشياء أخرى ذكرها النقاد والباحثون وجمهور قراء بيورنبو، أهمها أنه كان أستاذًا عظيمًا في فن الكتابة، وأنه ضمن مجموعة في هذا المجال نذكر منهم “كنوت هامسون”، وأن بيورنبو يكتب الجملة الطويلة ومع ذلك لا تحس إنها طويلة أو مملة أو بها عثرات، تشعر كذلك إنك في حلم وأنه يأخذك معه صوب عالمه ويجعلك تتورط وتتعاطف معه ومع شخوصه دون اعتساف وبلا إدعاء.

خصيصة أخرى في أعماله قد لاحظتها على المستوى الشخصي عند قراءة نثره وشعره ومقالاته، أنه قريب منك، يهمس لك، يسألك، أنه طازج ولا يزال حيًا. هذا يقودنا إلى سماع صوت بيورنبو نفسه ومعرفة رأيه في الكتابة وفي رؤيته وقناعته عن علاقة الأدب بالواقع بصفة عامة وعلاقة الشعر بالحياة، يقول: “الصدق الذاتي هو أمر مركزي تمامًا، الشاعر يعطي من أعماقه دون تحفظ من خلال التعامل بأمانة تامة مع الحقيقة الداخلية يمكنه المساهمة بشيء “جديد” أن ينقل شيئًا مشتركًا بين البشر، شيئًا يمكن أن يشاركه فيه الآخرون.

 وهكذا تتحول الحقيقة الذاتية إلى “حقيقة موضوعية” باختصار هناك تجديد في العلاقة بين الذات والواقع المحيط، بمعنى آخر أنه لكي يكون الكتاب مكتوبًا بشكل جيد يجب أن يكون مشبعًا بالواقع،  بغض النظر عن شكل الواقع، بحيث إن ينسى القارئ المؤلف والمعايير والأساليب التي استخدمها.” (من مقال الأدب والواقع ١٩٧١، المقال موجود مع مجموعة مقالات آخرى وصدر في كتاب ١٩٧٥ بعنوان : الشرطة والفوضى. كما ذكرت سابقا).

تاريخ الوحشية

ثلاث روايات مستقلة لكنها مرتبطة في نفس السياق، وصدرت الروايات الثلاث أو هذه الثلاثية تحت هذه العناوين، ١- لحظة الحرية، ١٩٦٦، ٢- برج البارود، ١٩٦٩، ٣- الهدوء، ١٩٧٣. هذا العمل بخاصة في الجزء الأول، يحتوي على العديد من السمات المشتركة الخارجية مع المؤلف، فالراوي لديه ماضٍ خاص باعتباره ابنًا لمالك سفينة في بلدة ساحلية،  لاجىء في استكهولم ورسام وكاتب متجول في أوروبا الوسطى وإيطاليا. “هنا في هذا الوادي الألبي أنا – البحار والمتجول، المغني وعازف الكمان – أنا من بين كل الناس، أصبحت خادم المحكمة”.

في الجزءين الثانى والثالث، يحكي الراوي عن تاريخ الوحشية والفظائع التاريخية وانحراف الإنسان وقبحه وشره، مع التركيز على التاريخ الأوربي بدءًا من ذبح الناس على يد الغزاة، مرورًا بمحاكم التفتيش وقطع الرؤوس والإعدام حتى ستالين وهتلر. هو لا يدين فقط من قاموا بهذا بل حتى الجماهير التي كانت تشهد عمليات الشنق وقطع الرؤوس كنوع من التسلية.

الروايات الثلاث عبارة عن موكب حزين ومؤلم من سجلات الشر والقسوة والفكاهة السوداء وتأملات في الفن والحياة مع صياغة كل هذا بلغة بيورنبو الشاعرية المحلقة وواقعيته المتداولة، ولقد قال إن هذا العمل بمثابة بحثٍ عن الحقيقة، “أن الحقيقة شرط أساسى للحرية” ولنقرأ هذه الفقرة من الجزء الثاني: “لقد تأخر الوقت بعد الظهر وبدأت رائحة المساء تظهر. تمتد المناظر الطبيعية وتتثاءب بعد هذا اليوم المشمس الكبير. الهواء أبرد، والأوراق معلقة على الأشجار كأنها بلا حياة. هذه الساعة قبل غروب الشمس مليئة بروائح التراب والنمل. النحل الصغير والنحل الكبير الطنان صارا غير موجودين، بتلات الزهور تنغلق رويدًا، بعد فترة قصيرة سيتلون كل شيء بهذه الغلالة الرقيقة الزرقاء الرائعة غير المألوفة. كل شيء ساكن، لقد هبط الليل. “

عديد من النقاد قالوا إن هذه الثلاثية هي العمل الكبير للكاتب، لكنَّ هناك الكثيرين ممن عارض هذا الرأي، فأعمال بيورنبو المسرحية والشعرية ومقالاته على ذات الأهمية الإبداعية والتاريخية، والحقيقة ليست فقط أعماله الشعرية والمسرحية ومقالاته، بل حتى رسائله تحولت إلى أعمال عالية القيمة على المستوى الفني وحتى التجاري، لقد تم بيع بعض من هذه الرسائل مرتين أو ثلاث، كما أن الرجل استمر في الكتابة بعد وأثناء كتابة هذه الثلاثية واستمر بمساعدة ومؤازرة المظلومين، واستمر كذلك في شرب الخمر وفي علاقته العاطفية المضطربة أيضًا، فبعد زواجين وانجاب ثلاث فتيات ازداد إدمانه الخمرة، وبدأ يعيش مثليته الجنسية، لقد بات يشرب كثيرًا، في أي وقت وأى مكان، وأى شىء لدرجة أن أحدًا ممن كانوا معه في أيامه الأخيرة قال إنه، أي بيورنبو، لم يجد شيئًا يشربه فشرب المطهر الذي يستخدم بعد حلاقة الذقن.

 زادت حالته الجسدية والنفسية سوءًا وتمكن منه الاكتئاب حتى جاء يوم التاسع من مايو ١٩٧٦ وهو في كوخ صغير بمكان شرق أوسلو، فوضع الفصل الأخير لحياته ومات منتحرًا.  وهناك من قال إن بيورنبو عانى من مرض عضال قبيل رحيله، وقد كشف عن ذلك ابن أخ بيورنبو “سفن كاروب بيورنبو” في كتاب سيرة ذاتية بعنوان “اونكل ينس” وبالتالي لم يكن لديه وقت طويل ليعيشه. 

هذه المعلومات أثارت لغطًا خاصة أن هناك من كان ينظر إلى انتحار بيورنبو على أنه عمل ذو إيحاءات رمزية قوية، ويضعه الكثيرون في سياق كتاباته التي يمكن وصفها بأنها احتجاج جامح على لا معنى الحياة: “كيف يمكن لشخص قادر على رؤية شر الناس الذي لا يمكن تصوره، ويكون لديه الطاقة لمواصلة الحياة؟” بحسب تعبير الصحفى والكاتب “سيمون شنسبرج”، وقد صدر كتاب بعنوان “ينس بيورنبو الرجل والأسطورة والفن” في عام ١٩٨٤ للكاتب والصحفي “فردرك واندروب” تكلم فيه عن مرض بيورنبو قال: “أعلم أن بيورنبو قد دخل المستشفي في الصيف قبل أن ينتحر، لكنني لا أعلم أنه كان يعاني من مرض عضال. إذا تمكن سفن كاروب من توثيق ذلك، فهى إضافة مثيرة للاهتمام إلى سيرة بيورنبو الذاتية، ومع ذلك لا أعتقد أن ذلك سيغير فهمنا لكتابات بيورنبو”. على أية حال وكي لا نذهب بعيدًا في ما حدث قبيل رحيل بيورنبو فلا شك  أن الخسارة كانت كبيرة لأسرته وأصدقائه وقراءه والأدب النرويجي والإسكندنافي والإنساني بصفة عامة، لكن قُضى الأمر ورحل هذا الكاتب الشاعر المسرحي والإنسانى الفريد، وليس هناك أفضل من كلماته كي اختتم بها هذا المقال: “تسألني عن الذنب، إنها كلمة قاسية، كل واحد منا مذنب في كل ما يحدث على الأرض، خجلًا تدير وجهك بعيدًا، ما ارتكبه أحد من أثم قد فعلنا جميعا”.

 

 

مقالات من نفس القسم