يسير على السكة حافي القدمين

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد بلقاسم

ذات عطلة مدرسية وأنا طفل صغير، سررت كثيرا لمّا قرّر والدي (رحمهما الله) أن يصحباني معهما في زيارتهما لأقاربنا في العاصمة العلمية فاس. سررت كثيرا لأنني سأسافر، وسررت أكثربوسيلة النقل التي ستقلني إلى وجهتي، إذ سمعت أبي يقول لأمي: ( غادي نمشيو في المشينة) هذه الوسيلة لم يسبق لي أن ركبتها قطّ في حياتي، إنها وسيلة جديدة بالنسبة لي، فهي تختلف عن سيارة الأجرة التي استمتعت بركوبها أكثرمن مرة أثناء تنقلي من دوارنا إلى المدينة رفقة والدي طبعا. كما أنها تختلف عن الحافلة التي أقلتني من بركان إلى مدينة وجدة.
ونحن نلج محطة القطار عبر بوابتها الكبيرة، أحسست أن ريشا قد نبت في ذراعي وصارا جناحين، والفرحة تقتلعني من الأرض. توجه أبي نحو شباك التذاكر، فسأل عن موعد انطلاق القطار ثم حجز التذاكر في الدرجة الثانية، وعاد ليخبرنا أن موعد الانطلاق سيكون في الساعة الواحدة زوالا. بينما كنت منهمكا في قراءة الإعلانات وأسماء المدن التي سيمر بها القطار، ذهب أبي إلى أحد الدكاكين، ثم عاد يحمل كيسين ورقيين، أحدهما فيه موز وتفاح، وآخر فيه خبز وعلبة جبن. سألته: لماذا أحضرت هذا يا أبي؟ حتى إذا ما جعت تملأ به بطنك، أجابني. أنا لن أجوع، أنا سعيد جدا، لأنني سأركب القطار وأن الفرح يملأ بطني، لن أجوع أبدا. ابتسمت أمي وقالت لي سنرى إن كان الفرح سيغني معدتك عن الأكل، ثم سألت أبي إن كان قد أحضر قنينة ماء، فأومأ لها بإشارة من رأسه أن نعم. تذكرت شيئا مهما وصحت:
– السكة؟ أين هي السكة يا أبي؟
– أي سكة؟ السكة التي يسير عليها القطار.
– ستراها عندما نخرج إلى الرصيف.
– كيف هو شكلها؟
ابتسم أبي وقال:
– إنها أخت تلك القطع الحديدية التي شُيِّدَ بها سقف منزلنا.
– سمعت أن القطار يسيرعليها حافي القدمين، عفوا العجلات، أعني أنها لا تشبه عجلات السيارة والحافلة.
– نعم عجلاته هي الأخرى من حديد، ولا إطارات لها.
كنت أتحدث إلى أبي وعيناي على الحائط الذي علّقت عليه ساعة كبيرة، عيناي تترصدان عقاربها متى تدنو من الرقم واحد. لم أكن أبالي بالوافدين على المحطة الذين يجرجرون حقائبهم، أو بمن تقوست ظهورهم بما يحملون عليها من متاع، ولابشيء آخر. كلّ اهتمامي كان منصبّا على الباب المفضي إلى حيث يربض القطار وهو يلتقط أنفاسه بعد رحلة شاقة وطويلة، جاب خلالها مداشر وقرى ومدنا، وعبر وديانا وأنهارا، وسهولا، واخترق جبالا. وإذا ما تعب توقف في محطة هنا ومحطة هناك لا ليستريح فحسب، وإنما ليملأ جوفه ببعض المسافرين، هذا ما أوحى به إلينا معلّمنا ذات حصّة من حصص المحادثة. فجأة سمعت رنّة جرس، أعقبه صوت يقول: الرجاء من المسافرين المتجهين نحو المدن التالية، العيون، تاوريرت، كرسيف، تازة، فاس،…،…، الاتجاه نحو الرصيف كذا. لملم أبي وأمي أمتعتنا وخرجنا من البوابة المفضية إلى الرصيف المذكور، بعد أن أدلى أبي بالتذاكر لأحد المراقبين. هناك شاهدته عن قرب، ثعبان طويل من حديد، سكته تماما كما قال لي أبي، إنها لا تختلف عن تلك التي استعملناها في سقف منزلنا إلا من حيث الطول والحجم. كان جاثما عليها بعجلاته الحافية، الحديد فوق الحديد لا شيء يفصل بينهما.تسارع المسافرون في صعودهم لولوج جوف الثعبان، كذلك فعلت بمساعدة أبي مستعينا بمقبض باب العربة، وكذلك فعلت أمي ثم أبي. بعد البحث عن مقصورة فارغة، عثرنا عليها في وقت وجيز، وضع أبي أغراضنا فوق الرف، إلا الأكياس التي حوت الزاد. بخفة جلست قرب النافذة لأتملى بمنظر أعمدة الكهرباء والأشجار وهي تركض في الاتجاه المعاكس لوجهة القطار. أعطيت إشارة الانطلاق، أطلق القطار صفّارته نغمتها تختلف عن نغمة أبواق السيارات والشاحنات، انطلق القطار بطيئا، وشيئا فشيئا بدأ يتناهى إلى أسماعنا، صوت احتكاك عجلاته بالقضبان الحديدية، لاسيما ذلك الصوت الناتج عن الفراغات بين القضبان، في البدء كان يأتي متباعدا، وعندما زادت سرعة القطار صار متقاربا تماما كما لو كان ناتجا عن دوران عقرب الثواني في ساعة عملاقة، لم يكن مزعجا بقدر ما كان بمثابة نغمة موسيقية ألفتها آذان السامعين بسرعة.
بعدما أشبعت نهمي بمشاهدة تسابق الأشجار، وأعمدة الهاتف والكهرباء. عنّ لي خاطر بأن أخرج إلى رصيف المقصورة حيث النوافذ كبيرة تتيح للعين أن تسرح بعيدا. نبهتني أمي بأن لا أبتعد كثيرا حتى لا أضل، طمأنتها بحركة من رأسي بأني سأبقى في الجوار.
بينما أنا واقف مستغرق في مشاهدة الحقول الفسيحة وهي تُسحبُ مثل بساط من تحت عجلات القطار، ومبتهج بمنظر الهضاب وهي تعلو تارة وتهبط تارة أخرى، ويا لروعة منظر التفاف القطار حول نفسه في المنعرجات، ما أشبهه بثعبان حرك رأسه نحو ذيله. وتبدو القاطرة وهي تنفث دخانها الأسود كأنها تلهث، وسباقة للوصول إلى عبور أحد الجسور، قبل معظم العربات. وقف شخصان بمحاذاتي، لدرجة أنني كنت أسمع كلامهما بوضوح، كان أحدهما في حوالي الأربعين سنة، طويل القامة بالمقارنة مع رفيقه، لقد أثار انتباهي ليس بقامته المديدة، وإنما لكثرة ما كان يضمّن كلامه من عبارات فرنسية وهو يتحدث، أما الآخر فكان يبدو شابا مازال في ريعان الفتوة والشباب. من مكاني على الرصيف كنت أطل على والدي لأطمئنهما بأنني قريب منهما. مضى بعض الوقت وأنا في غمرة السعادة والانتشاء برحلتي، أتماهى مع حركة القطار فأميل حيثما مال ويدي متشبثة بمقبض الرصيف، سعيد بالتهامه للقضبان الحديدية دون كلل ولا ملل. فجأة ظهر المراقب راقب تذكرتي الشخصين الواقفين بجانبي، قبل أن يسألني عن التذكرة، سأل الشخصين إن كنت أرافقهما، فحاول الشاب اليافع أن يدله على والدي بإشارة بيده إلى المقصورة التي خرجت منها، حيث يجلس والدي. لكن الرجل مديد القامة منعه بهمهمة مصحوبة بحركة من رأسه، فهمت أنه يريد أن يقول له وللمراقب نحن لا نعرفه. بعدما أدلى والدي بالتذاكر للمراقب، عدت إلى مقعدي، وظللت واجما لا أبالي بشيء. لا حظت أمي فتوري وقلة حركتي، فقالت لي وهي تمسح رأسي لعلك تعبت جراء الوقوف؟ أم تراك جعت؟ قبلت يدها وقلت لها لا هذا ولا ذاك. ما الذي فجأة أخمد جذوة نشاطك، وأطفأ توهج فرحك وسعادتك؟ استغرقت لحظات في وجومي وفجأة اغرورقت عيناي بالدمع، وقلت متحشرجا: إن الشخصين اللذين كنت واقفا بالقرب منهما هما السبب. هل أساءا إليك؟ قال أبي وقد تغيرت ملامح وجهه، وانقبضت أساريره. قلت نعم. ماذا قالا لك؟ أحدهما لمّح للمراقب بطريقة لم ترقني. ماذا قال له؟ قال: on ne le connait pas هل فهمت معنى هذا الكلام؟ سألتني أمي. بعدما شرحت لها مضمون العبارة ضمتني إليها ضمة قوية وكفكفت براحتها الدمع الذي غمر عيني، وقالت لي باسمة: أجنحتي وأجنحة أبيك تغنيك عن أجنحة العالمين. قبلت يدها ويد أبي بحرارة. وشيئا فشيئا استعدت نشاطي، وبدأت نشوة الفرح تملأ نفسي، وماهي إلا لحظات حتى استأنفت السماع لنغمة عجلات القطار وهي تقفزمن قضبان إلى آخر، ولم تشبع من ازدرادها.
في كلّ محطة تدب الحركة في أرصفة المقصورات، دبيب النمل حول جحره. يصعد أناس وينزل أناس، أوجه مكدودة وأخرى مستبشرة، هامات مرفوعة في زهو، وأخرى منكسة في بؤس. أشخاص يحملون حقائب لماعة، وآخرون يتأبطون خرقا بالية.
مع أفول الشمس وصلنا إلى فاس، نزلت أمي أولا ثم أنا فأبي. ما إن خرجنا المحطة حتى نادى أبي بصوته الجهوري طاكسي، فإذا بها حمراء مكللة بتاج أصفر من خشب، كتب عليه بخط أسود طاكسي صغير. وضع أبي الحقيبة فوق سطح السيارة، ركب أبي جنب السائق وأنا وأمي في الخلف. دون أن يلتفت السائق إلى أبي سأل أبي إلى أين بالسلامة؟ حانوت العمراني طريق عين الشقف. من هنا ساحة فلورانسا، وبعدها لا فياط، ومن ثم النزول إلى باب فتوح قالت لي أمي بصوت خفيض. ولماذا سميت فاس بفاس؟ اسأل معلّمك ياولدي.

 

مقالات من نفس القسم