يحيى مختار حارساً روائياً للمكان النوبي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

تتواتر العناوين ذات الأسماء والمدلولات النوبية في نصوص الكاتب المصري يحيى مختار، على نحو ما نرى في أسماء عدد من نصوصه السابقة، مثل مجموعته « إندو ماندو» بقصصها الأربع ذات الأسماء النوبية، وفي عمله القصصي أيضاً «كويلا»، ثم في روايته «جدُّ كاب» ( «الكتب خان» للنشر)، والتي يحيل عنوانها إلى اسم البطل المركزي في الرواية، محمد سليمان جد كاب، النوبي المغامر، المسكون بحكمة أجداده وخبراتهم التي تراكمت عبر عشرات القرون، وبما يحيل إلى مملكة «كوش القديمة»، وحكامها الذين يصل إليهم سليمان جد كاب بخيط القربى والنسب.

وعبر تقديمة درامية مكثّفة، تدخل متلقّيها في أجواء النص، يستهل يحيى مختار روايته الجديدة «جد كاب»، فيحيل إلى التعلية الثانية لخزان أسوان عام 1933، وتأزم المكان النوبي الذي بدأ في التلاشي حتى كان التهجير النهائي للنوبيين من أراضيهم في عام 1964، واعياً بذلك الجدل بين ما يُعرف بـ «الثقافة الفرعية/ النوبية»، و «الثقافة الأم/ المصرية». ومن ثم يحضر النهر بوصفه حاوياً هذا الوصل التاريخي بين المكانين: الشمال والجنوب، وشاهداً على تراسل لا ينتهي بين سياقين متجادلين يشكّلان جدارية المشهد المصري على تماسكه وتنوّعه الخلاق.

الخاص والعام

في «جد كاب»، يتداخل الخاص والعام، ويتواشج الذاتي مع الموضوعي، وتتشكل الرؤية السردية عبر عيني السارد الرئيس، الذي يحكي بضمير الغائب، وعين البطل المركزي نفسه، وهو محمد جد كاب الذي يروي بضمير المتكلم، عبر توظيف الكاتب لآلية المذكرات الشخصية: «وما دوّنه جد كاب في إحدى كراساته الكثيرة: ترك «مدير صندوق الدين» مسكنه في «الكربة» بمصر الجديدة إلى فيلا في الزمالك، وانتقل بنا الخال بالتبعية إلى شقة في إمبابة ليكون قريباً من محل عمله في الزمالك، وكان لا بد لي من ترك العمل في محل «شكري»، الرجل الطيب الذي عاملني معاملة طيبة طوال عملي معه» ( ص 57).

تتقاطع الحكايات في النص، بحيث تصبح بؤرتها المركزية ممثلة في «جد كاب»، مركز الحكي وجوهره في آن، فعبره تستعاد الحكايات عن النوبة القديمة، ومن خلاله تحضر القاهرة بأحيائها المختلفة: مصر الجديدة، الزمالك، إمبابة، بولاق أبوالعلا.

يقدم الكاتب مكانه جيداً، لا سيما أنه خبر شبكة العلاقات الاجتماعية وتفاعلاتها داخله، تبدو النوبة حميمة لناسها، والصلات مباشرة، وتبدو القاهرة براحاً لفضاء مختلف، لكنه أقل حميمية.

هكذا، نجد هنا حضوراً مكثفاً للجدّ عوض نصر، والشيخ محمد دخيل الله، والأم ستة، والأخت سكينة، والصديق خليل تموش. وفي القاهرة، تجد حضوراً نوبياً آخر لكنه بلهجة عامية، تعينه على التكيف الاجتماعي، أبطاله فاطمة وزوجها حسن عبدالعال وأخوه صادق والذين يرعون «جدو كاب» في رحلته الكلاسيكية إلى الشمال بغية إكمال تعليمه في العاصمة. لكنّ جد كاب الذي يحاصره موت الأحبة منذ وفاة أبيه، يموت راعيه في القاهرة «صادق»، وتتبدل حياته بعدما تعود أخته فاطمة الى أدندان للبقاء مع أختها سكينة وفاء لموروث متمترس في رحم المكان/ الثقافة النوبية.

تنزوي أحلام الفتى وتضمر كثيراً بعد أن يصبح في معية الخال النوبي المرتبك، محمد عوض نصر، الذي يحيا تابعاً لزوجته البيضاء «البضة الرجراجة»، ليترك جد كاب التعليم ويعمل صانعاً للملابس «ترزي». لكنّ جذوة الأمل لا تنطفئ داخل الولد النوبي المحمّل بوصية الأهل كي يتعلم ولا يعمل خادماً أو بواباً، فتحيل الرواية إلى التسامح الطائفي عبر الترزيين القبطيين شكري ونيقولا صليب، اللذين يحتضنان جد كاب، ويحسنان إليه، وصولاً إلى انتقاله الى العمل مع ترزي جديد هو عبدالحميد، ثم ابن جلدته وصديق أبيه الحاج مصطفى عبدالقادر، والذي يمنحه أملاً جديداً في استكمال حلمه بالتعليم، بعدما تراجعت أحلامه كثيراً عند خاله وأصبحت أمانيه تنحصر في أن يأكل البيض بالسمن البلدي!

تحولات

ثمة جدل ما بين الإخفاق وتجدّد الأمل إذاً، يهمين على حياة الشخصية المركزية في الرواية، ويسيطر على فضائها العام، منشغلاً كاتبها بتوثيق بدا حاوياً نزوعاً خبرياً في مناطق عدة داخل الرواية. يستخدم فيها الكاتب صيغاً إخبارية تفيد بتحولات الشخصية الحياتية، من جهة، وسعيها الى الحفاظ على الذاكرة النوبية من المحو من جهة ثانية: «اجتمع نحو ثلاثين شخصية في جمعية الجنينة والشباك في شارع منصور بباب اللوق، حيث مكتب الكاتب النوبي محمود الشوربجي، ابن الديوان، الذي حوّل رواية «الشمندورة» إلى مسلسل إذاعي» (ص 108). وهذا الطابع الخبري/ التوثيقي، يبدو مهيمناً على فضاء القسم الثاني من الرواية، والذي تقلّ فيه مساحات التخييل.

يوظف الكاتب سرداً ذا طابع تحليلي، ينحو صوب قراءة سيكولوجية شخصياته واللعب في المساحات الفارغة داخلها، مثلما نرى في القسم الأول من الرواية، والذي تحضر داخله أيضاً مساحات من السرد ذي النزوع الشعري، تكسر حالة التوثيق من جهة، وتنحاز الى التخييل المهيمن على فضاء القسم الأول من جهة ثانية: «أقول لك يا محمد ياتيني مع ذكر (أدندان) روائح التمر والدوم، ووشوشات سعف النخيل. سبحات خيالي تزورني كل حين مسافرة بي إلى هناك… هناك ترقد طفولتي وحياتي التي كانت ساكنة سكون الماء، ها أنا ذا عائدة إلى هناك في أحضانها» (ص52).

وفي كل الأحوال، تبقى الكتابة معنية هنا بتوسيع مدارات النص وربطه بسياقه الأعم، فتصبح سيرة جد كاب ذاتها سيرة لجانب من الوطن ذاته، بآماله وإخفاقاته، بانكسار الحلم وتجدّده في آن في كتابة رهيفة ومشغولة بانحيازها الفكري، وواصلة صوب اكتشاف جمالياتها الخاصة.

كتابة تتماس مع رواية يحيى مختار السابقة «جبال الكحل» في جانبها التوثيقي، وإن حوت جبال الكحل مساحات تخييل أكثر اتساعاً، وتغايرها في كونها تراكم وعياً حاداً بالعالم، ومحاولة اختزاله في رواية قصيرة (120 صفحة) لم تغرق متلقّيها في أية ترهلات بنائية أو استطرادات مجانية.

في الرواية، توظيف لآلية السخرية والتعاطي معها بوصفها آلية توليد المعنى وإنتاجه تارة، أو للترويح الكوميدي تارة أخرى، ونرى هذا في مناطق مختلفة من النص.

ثمة حضور لشخصيات حقيقية وحوادث حقيقية: نور الدين جاسر، السيرلي ستاك، محيي الدين شريف، إدريس علي، حجاج أدول، حسن نور، يحيى مختار ذاته. ويأتي ذلك للإيهام بواقعية الحدث الروائي، والتأكيد عليه من جهة، وتمهيداً للنهاية الحاملة مراوغة فنية من جهة ثانية. فالبطل المركزي المولع بجمع التراث النوبي، وإحياء ثقافته النوبية، قد رحل عنه صديقاه اللذان اشتركا معه في الهم النوبي العام (محمد خليل قاسم والدكتور مختار كبارة)، ولم يكن من سبيل سوى كتابة سيرة جديدة يتشكّك السارد الرئيسي في قدرته على أن يراها بين دفتي كتاب في ما بعد!

يراكم يحيى مختار مشروعه السردي بمهارة واقتدار كبيرين، يحكي ببساطة وشغف بعوالمه، يقرّبها ويدنيها من متلقّيه، لكنه لا يمنحها كاملة، مستثمراً حالة التدفق السردي في وصل قارئه بحكاية يجعله شريكاً فيها منذ المفتتح وحتى الختام.

 

مقالات من نفس القسم