الخنزير المجوَّف
جَوَّف جزارٌ خنزيرًا ليصنع لنفسه ثوبَ خنزير. فصارت لديه كومةٌ من أحشاء الخنزير.
وبينما كان يزحف داخلا الخنزير الأجوف، حاول أن يفكِّر مثل خنزير ليكتمل له ثوبه، وفي نفس الوقت كان يفكِّر ماذا يفعل بأحشاء الخنزير.
فكَّر أن يجوِّف خنزيرا آخر ويحشوه بأحشاء الخنزير الأول. ولكن ماذا يفعل عندئذ بأحشاء الخنزير الثاني؟ يجوِّف ثالثا؟
لا، لا، فما أن يبدأ هذا حتى يصير عليه أن يجوِّف كلَّ خنازير العالم، وسيبقى أيضا دون أن يجد مكانا لأحشاء الخنزير الأخير ….
***
يصعب دائما الكلام بعد أن ينتهي راسل إدسن من الكلام. ولعل سبب ذلك أن من ينهي قصيدة له يكون مشغولا بمحاولة العودة إلى العالم من جديد، فيكون آخر ما قد يهتم به هو أن يعرف المزيد عن ذلك العالم الذي يودّ الرجوع منه، العالم الذي يكتبه إدسن قصيدة بعد قصيدة، أو يبدِّله من قصيدة إلى قصيدة.
غير أنك نادرا ما ترجع من قصيدة لإدسن خالي الوفاض، دائما ما تكون جرثومة ما قد علقت بك بطريقة أو بأخرى. ونحن نستخدم الجرثومة هنا بالمعنى الطيب للكلمة. الجرثومة التي يحتاج كل جسم أن يجربها ليكتسب نوعا من المناعة ضدها وضد جراثيم أخرى لا نعرف بوجودها شيئا. غير أن ثمة سببا آخر لصعوبة الكلام في قصيدة لإدسن. تتمثل هذه الصعوبة في خوف المرء أن يوصم بالجنون.
تقول الشاعرة الأمريكية “إليزابث بيشب” إنها تستخدم الخيال لاكتشاف الواقع. قد لا تكون هذه عبارتها بنصها، ولكن هذا هو المعنى. ولعل من الممكن قراءة شعر إدسن كله من هذا المدخل.
بدون أي دوافع، يحاول جزار في هذه القصيدة أن يجوف خنزيرا. عفوا، هناك دافع واحد، وهو أن يتخذ لنفسه ثوب خنزير. دافع عبثي طبعا، ولكن ذلك آخر ما يشغل الشاعر. نحن الآن بصدد مشكلة عبثية هي الأخرى. مشكلة التخلص من أحشاء الخنزير. وعلى الرغم من أن لهذه المشكلة حلولا عديدة يعرفها الجزارون الذين يتخلصون من أحشاء آلاف الخنازير والأبقار كل يوم، إلا أن المشكلة بدت لهذا الجزار بالغة التعقيد.
لم لا تجربون أن تجيبوا إجابة منطقية على هذا السؤال: ما المكان الطبيعي لأحشاء دجاجة، أو خنزير أو إنسان؟ الحقيقة أن المنطق يقول إن المكان الطبيعي لأحشاء الخنزير هو الخنزير. هكذا رأى الجزار، وهو ما جعله يفكر في تجويف خنزير آخر ليضع فيه أحشاء الخنزير الأول، ثم يجوف ثالثا لأحشاء الثاني، وهكذا حتى تبقى أحشاء آخر الخنازير قاطبة. أغلب الظن أن الخنزير الأخير هذا لن يكون إلا الجزار نفسه، الجزار الذي ارتدى ثوب خنزير، والذي سيتحتم عليه بقوة المنطق الذي اتبعه لحل المشكلة أن يجوف نفسه ليضع بدلا من أحشائه البشرية أحشاء الخنزير.
الواقع يقول إن الخنازير تأكل الأحشاء. وإن الجزار في اللحظة التي كان يزحف فيها ليدخل ثوب الخنزير، وهو يحاول أن يفكر بطريقة خنزير، كان أبعد ما يكون عن الخنازير. فلو أنه فكر مثلها فعلا لشرع على الفور في أكل الأحشاء التي عثر عليها. وبذلك يكون هو نفسه مستقرا لأحشاء هذا الخنزير. وهي تقريبا نفس النتيجة التي ستحدث لو شرع في حله العبثي الذي يعتمد على تجويف سلالة بأكملها حتى ينتهي إلى أن يكون هو نفسه مكانا لأحشاء آخر الخنازير.
والآن، لماذا كل هذا الكلام المثير للغثيان؟ ماذا يريد إدسن أن يقول من كل هذا؟ أشياء كثيرة في الحقيقة، منها مثلا أنه لا يكفي لكي تكون إنسانا، أن تسير على قائمتيك الخلفيتين وتتبادل الكلام والضحك مع بقية الواقفين على قوائمهم الخلفية. ومنها، ربما، أن من يقتل إنسانا، فكأنما قتل آخر إنسان، وأنه كمن قتل نفسه. ولا يمكن هنا أن نتجاهل التوازي بين حيرة الجزار/الخنزير مع أحشاء من قتله، وحيرة قابيل الذي حمل جثة أخيه بعد أن قتله ولم يدر ماذا يفعل في جثمانه. ومنها، ربما، أنك لا يمكن أن تكون في غير مكانك، وهنا نفتح الباب لرواية طويلة غير مكتوبة بعد، عن رجل لا نعرف عنه أي شيء، لكننا نراه وقد قرر في لحظة أن يمحو إنسانيته، ويصبح خنزيرا.
***
ولكن، هل كان يتنكّر لإنسانيته فعلا؟ هل كان يمحوها لحظة أن قرر ارتداء ثوب خنزير؟ أم تراها كانت لحظته الأولى كإنسان؟ تلك اللحظة التي قرر فيها أن يضع نفسه في موضع ذبيحه اليومي؟ وهل كان يتنكر لعقله إذ أراد أن يفكر كخنزير؟ أم أراد أن يثري هذا العقل؟ وهل يريد إدسن، مثلا، أن يقترح علينا امتحان أفكارنا؟ أن ينظر الواحد فينا إلى كل فكرة تخطر له فيسألها أو يسأل نفسه: هل هذا تفكير إنسان؟ هل هذه فكرة تليق بإنسان؟ ولو صعب هذا مع كل فكرة، فهل مع الأفكار المهمة فقط، هل مع الأفكار المفصلية على الأقل، هل قبل أن ينطق الواحد منا موضحا لابنه “الصواب” و”الخطأ”؟ هل قبل أن يرفع الإنسان سلاحا على مثله، أو غيره؟ هل قبل أن يحيل أوراق شخص إلى المفتي؟ أو مئات الأشخاص؟ هل يفكر فعلا بما يلائم الثوب الذي يرتديه: ثوب الإنسان؟ أم تراه لا ينقصه غير ثوب آخر؟
***
المذهل أنه جزار. المذهل، لي أنا على الأقل، أنه جزار. ليس فيلسوفا مثلا، أو شاعر نثر، أو مصلحا اجتماعيا محبطا، إنما هو جزار. ليس هذا مذهلا وحسب، إنه بطريقة ما مرعب، وبطريقة ما واعد، لماذا؟ لأن جزارا، يفترض به أن يذبح كل يوم خنزير أو كل ساعة، يفترض أن الذبح عنده روتين يمارسه وهو شارد في ما يشرد فيه الناس، لكنه لأمر ما يقرر في لحظة أنه هو نفسه خنزير؟ أو يرى أنه خنزير لا ينقصه إلا ثوب خنزير لكي يكتمل. جزار، واحد من الناس، مثلي ومثلك، ولكن إدسن يعلمنا أنه قد لا يكون بيننا نحن العاديين، المتزنين، وبين خطوة كهذه أي شيء، يعلمنا إدسنأننا الآن مثلا قد نكون على شفا شيء لا يمكن لنا أن نعرفه، يعلمنا أن اللحظة القادمة هوة ساحقة لن نعرف قرارها ما لم نهو إليها مندفعين أو مدفوعين، من يبالي؟