يا شجن القاهرة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لا يمكنك أن تتخيّل "القاهرة" شابة صاخبة، أو عجوز راكدة، إنما هى أُمٌ نضجت مشاعرها بلا تهور أو ترهل، وينبع جمالها بالأساس من شرفها، ونُبلها.

 سرّها العذب، هو تلك الغلالة الرهيفة من الشجن التى تحيط بها طوال الوقت، حتى فى أوقات الفرح.

أحب فى “القاهرة” شجنها، يمكننى أن ألمحه سارحًا فى أبسط تفاصيلها، ربما زجاج نافذة بعيدة، يهتز خلفه ضوء خفيف، أو عتمة لطيفة، رفيف قطعة ملابس وحيدة على حبل وحيد فى شرفة وحيدة، سرب حمام يطير فى سماء قريبة، لا تعرف إن كان مرتبكًا أم أنه يلعب لعبة جديدة لم يعتدها بعد، وجه عابر يمر بجوارى أو أمرّ بجواره، فيحرك كلٌ منا فى قلب صاحبه شجنًا رهيفًا.

سأرى هذا الشجن فى مقاهٍ بسيطة متناثرة حول محطة السكة الحديد، تلك المقاهى التى أقضى فيها عدة ساعات بانتظار القطارات الليلية، خلال هذه الساعات سيدخل المقهى الكثير من الكائنات الشجية، بائعات مسافرات يفترشن مساحة من الأرض فى انتظار القطار، أو الصباح، مسافرون ينتظرون قطارات رخيصة، أو كائنات ليس معها حتى ما يؤجرون به سريرًا فى لوكاندة فقيرة، فيقضون ليلتهم بالمقهى مقابل جنيهين يدفعونهما ثمنًا لكوبين من الشاى، ثم حالات الشجن التى يجود بها الليل دومًا، بعضها يمر أمام المقهى هائمًا فى عالمه، أو يتوقف لدقائق يؤدى فيها شيئًا مفاجئًا قد يكون رقصة، أغنية، أو غضبًا عارمًا يُطلقه فى الهواء، بعضهم يدخل ليشرب كوب ماء، أو ليحدق فى شاشة التليفزيون عن قرب لثوان، أو يتطلع فى وجوه الجالسين، وعندما يأتى موعد قطارى البطىء، سأغادر حيث أقضى الليل كله مسافرًا مثلما أحب، وأصل مع بدايات النهار إلى المدينة التى أقصدها، وستكون “الإسكندرية” فى أغلب المرات، أنا لا أتوقف عن السهر فى المقاهى الفقيرة، والسفر الليلى.

“القاهرة”، شجن صافٍ لأُم طيبة، هى لا تصل بفرحها حد السعادة البلهاء، ولا تصل فى حزنها حد الكآبة، لها طريقة لا يمكن وصفها بأنها حالة وسط، وإنما حالة محبوبة، فلا تخلو سعادتها من مسحة حزن، ولا يخلو حزنها من ابتسامة رهيفة، ومثلها فى ذلك كل بيوتها وشوارعها وكائناتها الأصيلة، كأنك تمشى فى مزيج من الفرح العذب والشجن النبيل.

أدخل حوارى “القاهرة” ليلاً، وأُسلّم نفسى لها، فتسلّمنى لبعضها بعضًا، بأرضها الترابية التى أحيانًا ما تكون على شكل مطالع ومنازل غير حادة، بيوتها المتلاصقة، ضوءها الخافت، عتمتها، ظلالها، ومفاجآتها الصغيرة، أُلقى نظرات هادئة، وغير جارحة،  فى كل اتجاه، فأرى أبواب البيوت مفتوحة، والعتمة بالداخل رائقة، حيّة، أستقبل بحواسى جميعها كل ما فى الأثير، ستبدو لى نهاية الحارة مفتوحة أحيانًا، وعندما أصل أجدها مسدودة، أو تبدو لى مسدودة وعندما أصل تُفضى بى إلى غيرها، أو أجد نفسى فجأة بمواجهة باب مفتوح، تجلس فى عتَبَته أسرة، أو أفراد من أُسَرٍ عدة، فأتوقف، ربما أبتسم لأصغر طفل أو طفلة، أو أتصنّع أنى تُهت، وأرجع، سأفكر حينها أن أغادر، لكنى لا أفعل وأترك نفسى من جديد للحارات، وكأنى أدور داخل حضن من شجن رهيف، ربما أُفاجأ وقد عدت بعد قليل للبيت نفسه، فتسألنى إحدى الأمهات إن كنت أحتاج شيئًا، أو أبحث عن أحد.

أحيانًا، تُلخص “القاهرة” نفسها فى واحد أو واحدة من أهلها الأصليين، أو بيت من بيوتها، أو شارع، فبينما أتسكّع ليلاً، سأراها امرأة تجلس فجرًا، فى ميدان صغير تحت عمود إنارة مطفأ، تصب الشاى الساخن لعمال يستعدون لاستقبال الصباح، وأسمعها أثناء تسكّع آخر وهى تغنى أغنية بالأبيض والأسود من راديو مجهول المكان، أذكر كيف كان البرد فى الميدان الصغير، وكيف بدت المرأة فى العتمة الشاحبة مثل كيان رهيف طيب، والدخان الدافئ يتصاعد من أكواب الشاى التى تصبّها لأشباح طيبون يجلسون حولها، ويتدفئون بها، بينما شجن لطيف يلفّهم جميعًا، أذكر أيضًا كم كان صوتها مُطَمْئنًا ومؤنسًا وهى تغنّى لى من ذلك الراديو مجهول المكان، مع وشيش حميم فى خلفية الأغنية.  

حتى أسواقها الصاخبة، عندما تنظر إليها من بعيد، أو من سطح مرتفع بعض الشىء، سترى غلالة الشجن تربت على أهلها، ترى الزحام مثل كائنات تستمد حياتها من بعضها بعضًا، وتدرك أن الوحش الذى كان يبتلعك بالأسفل، ليس إلا كائنًا طيبًا يبحث لنفسه عن طريقة للحياة، أو النجاة أحيانًا، سترى بنفسك نظرة الشجن فى عينيك وأنت تنظر هناك، أيضًا لو أنك نظرت إلى فرح شعبى من نفس هذا السطح، سترى كل هذا الصخب مجرد خيط من فرح يحاول أن يفلت من الحزن لبعض الوقت، لن تعرف كيف استطعت أن ترى الشجن فى قلب كل هذا الفرح، وكيف يكون الشجن نفسه مُفرحًا، ألأنه يحوى بداخله أسباب السعادة والحزن معًا، أم لأنه بالأساس ليس حزنًا أو سعادة، وإنما إحساس أكثر رُقيًا منهما؟ 

“القاهرة”، تمارس مشاعرها بشرف، وكرم، تبقى نظرتها الشجية طافية دومًا على ماء القلب، وفى سمائه، ويظل كل شىء فيها نبيلاً، ونقيًا، داخل غلالة عذبة من الشجن.

مقالات من نفس القسم