ياسر عبد اللطيف في قـانون الوراثـة

ياسر عبد اللطيف في قـانون الوراثـة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د‏.‏ صلاح فضل

تتدفق الأعمال الروائية في نهر الإبداع العربي في مصر بمعدلات متنامية تنافس فيضانات النيل الخصيب‏.‏ وليس بوسع الرصد النقدي مهما كان جادا ويقظا أن يشملها كلها بالتحليل والإضاءة‏.‏ بل يتعين عليه انتقاء بعض النماذج الدالة اللافتة من مختلف الموجات العمرية لسبر غورها ومعرفة مسارهاوكيفية تمثيل متغيرات الحياة فيها‏.‏ مع الإشارة إلي ما عساه أن يتجلي فيها من تطور الأساليب التقنية أو تبلور الرؤي الكلية‏.‏

وياسر عبد اللطيف كاتب شاب لا يكتفي فيما يبدو بتقديم نفسه بل يصر علي نمذجة الأجيال السابقة عليه لا يفعل ذلك بشكل مباشر وإن كان يحكيه بضمير المتكلم بل يبعث لنا راويا متخيلا موازيا له في العمر والشواغل يسند إليه جميع الأفعال والأقوال فيعفي نفسه من مسئوليتها ويطلق سراح شخوصه لتكتسب وجودا إبداعياكمخلوقات مستقلة عنه تعيش وتصنع كونها الأصغر الذي يوازي في نظمه وقوانينه هذا الكون الأكبر‏.‏ ولأن عنوان الرواية‏’‏ قانون الوراثه‏’‏ كان لابد للراوي أن يلمس العصب الحساس في تسلسل خارطة الأجيال دون أن يتوقف ذلك علي اللحظة التي جلس فيها علي مقعد طبيبة الأسنان وزاغت عينه باستراق النظر إلي منبت صدرهاقبل أن يسألها عن سر إصابة أضراسه بالعطب المبكر فتجيبه بأن ذلك من فعل الجينات الوراثية‏.‏

ولنبدأ بصورة الجد الذي يستحضره الراوي فيما يشبه بعث الذاكرة العائلية للأسرة وللعصر برمته في سطور مكثفة‏.’‏ كان قد بدأ حياته العملية‏’‏ كبارمان‏’‏ في أحد الأندية التابعة لأحد الأحزاب من هناك من خلف البار‏..‏ سمح لنفسه ذات مرة بالتدخل في حوار دار بين أحد الباشوات ووجيه آخر علي الناحية الأخري حول كتاب أحمد أمين‏’‏ فجر الإسلام‏’..‏ لم ينتبه الباشا إلي الرأي المحافظ الذي أبداه‏’‏ البارمان‏’‏ معارضا لهما ولا لتعارض ذلك الرأي مع كون قائله ساقيا للخمور إنما أثار انتباهه وجود‏’‏ بارمان‏’‏ نوبي علي تلك الدرجة من الإطلاع بحيث يكون قد قرأ كتابا ككتاب أحمد أمين حديث الظهور بل وكون عنه رأيا وإن كان رأيا رجعيا‏..‏ وهنا عرف منه الباشا أنه حاصل علي شهادة الابتدائية وقد كانت تؤهل حاملها تلقائيا للحصول علي لقب أفندي فقرر تعيينه في وظيفة إدارية بمقر الحزب بل ووعده بمساعدته علي استكمال تعليمه‏..‏ ربما لم يكن ذلك عطفا أرستقراطيا من قبل الباشا علي ذلك‏’‏ البارمان‏’‏ المثقف البائس بل كان تعاطفا ذا صبغة برجوازية صغيرة فالباشا في الأصل مدرس سابق ومتهم سابق في قضية اغتيال السردار الإنجليزي‏’‏ ثم يرصد الراوي ما طرأ علي حياة جده من تحول نتيجة لذلك حيث انتقل إلي صفوف الأفندية الموظفين وابتعد عن مهنة السقاية بما سمح له بإطلاق العنان لنوازعه الدينية فحف شاربه وأطلق لحيته وإن احتفظ بزيه الأوروبي وأهم من ذلك فقد تحركت الأسرة معه بفعل هذه اللفتة الكريمة تحركا طبقيا يسيرا حيث انتقل من مسكنه في عطفة الجنينة إلي شارع مصطفي كامل‏.‏ الأمر الذي أتاح له درجة من الرقي الاجتماعي سوف تستمر في حياة الأب‏/‏ الجيل الأوسط مع تغير الظروف وقيام الثورة وإفساح المجال لأبناء هذه الطبقة للدخول في الدائرة الوسطي عبر التعليم لا بسبب الصدفة التي رأيناها في حادثة البار بل من قبيل حركة المجتمع بأسره حيث يتخرج الأب في بداية الستينات من قسم ميكانيكا الإنتاج في هندسة عين شمس‏.‏

ويتابع الراوي في موقع آخر من سرده إيجاز حياة أبيه في كلمات تلخص مسيرة جيل كامل حيث‏’‏ تم تكليفه بالعمل في المصانع الحربية مهندسا من جنود حلم التصنيع الثقيل للعهد الناصري الطوباوي واضعي أسس غد لن تشرق شمسه إلا علي سواد مطبق‏.‏ وبعد انحسار موجة الهزيمة الطاغية عام‏67‏ ترك خدمة الحكومة ليجرب حظه في الأعمال الحرة‏..‏ ومن إخفاق لآخر هاجر في منتصف السبعينات إلي السعودية مع من هاجروا ليعود مع انتصاف عقد الثمانينات يجر أمامه عربة المطار التي تحمل بعض الأدوات الكهربائية‏’‏ وهكذا تبخر في عقد واحد من الزمان حلم التصنيع الثقيل وآل في مفارقة حادة إلي الاكتفاء بشراء بعض الأجهزة خلال الإعارة مما يجسد رحلة هذا الجيل المحبط بطريقة عينية تعززها أوصاف لاذعة مثل الطوباوية والغد الذي لن تشرق شمسه‏.‏ وتنتقل الأسرة مرة أخري إلي ضاحية المعادي في إشارة ذكية لانفصال البعد الاقتصادي عن تمثيل حركة المجتمع بشكل صحيح ويظل مناط التغيير مرتبطا بما يعبر عنه الراوي من رؤيته لميراث الجيلين السابقين حيث يشير إلي جملة من التحولات الخطيرة في الوعي والممارسة والسلوك لابد لنا أن نتفهمها بعمق ولا نقف عند حدود ما يجرح الحس المشترك فيها من ظواهر مقصودة للخروج عن مقتضيات الأعراف السائدة وتحريك منظومة القيم‏.‏ فإذا ما انتقلنا إلي وصفه خلال الأحداث لأبناء جيله أمكننا أن نعثر علي إيقاعه الضابط في مشهدين طريفين أحدهما في فناء جامعة القاهرة حيث شعر الراوي بالاغتراب الحقيقي إزاء النماذج الإجتماعية‏’‏ أمم من المستظرفين ومن المكتئبين‏..‏ ومن المسيسين ومن الملتحين ومن الفتيات المحجبات ذوات العيون الحزينة وأنصاف العاهرات‏..‏ وقلة من الفتيات الجميلات داخل مؤسسة مبنية علي‏’‏ هيراركية‏'(‏تراتبية‏)‏ الاحتقار فالأساتذة يحتقرون الطلبة والطلبة المسيسون يحتقرون غيرهم لأنهم قادة وأصحاب سلطة بالقوة‏.‏ والطلبة المثقفون يحتقرون الجهلاء طلبة قسم اللغة العربية ومعظمهم من الجماعات الإسلامية يحتقرون جاهلية القرن العشرين‏.‏ طلبة أقسام اللغات يحتقرون طلبة الأقسام الأخري علي أسس طبقية‏..‏ ونحن في قسم الفلسفة نحتقر كل هؤلاء لأننا أصحاب المعرفة الشاملة‏’.‏

ومهما كان رأينا في قسوة هذا المشهد الذي يصف به الراوي ساحة جامعة القاهرة لا حديقة الحيوان المجاورة لها فلابد لنا أن نأخذ هذه الرؤية بجد ونحن نبحث عن التناغم المفقود بين فئات الشباب ونحمد لأدباء هذا الجيل شجاعتهم في التعبير عن مظاهر الشذوذ التي ابتلي بها المجتمع في تطوره الضروري بل ونتسامح معهم في مثل هذا المشهد الثاني الذي يشير إلي تفاقم حالات النفاق والازدواجية وانفصام وعي الشباب في سلوكهم اليومي المألوف حيث يضطرون إلي إرضاء ذويهم فيما يرتدون من زي ويخضعون في الآن ذاته لنزوات أجسادهم فيما يمارسون من سلوك‏.‏ يقول الراوي عن نفسه واصفا رحلته في مترو المعادي إلي الجامعة وهو يرتدي‏’‏ سروالا بنطلونا وقميصا وبلوفر وسويتر ولا يخرج من الكم سوي يدك‏(‏ يخاطب نفسه‏)‏ لتمسك بالقضيب المعدني الموازي لسقف المترو وفي المحطة التالية يتضاعف الزحام داخل المترو أقف علي ساق ونصف ساقي المثنية تمتطي صهوتها فتاة والزحام ستار الفتاه ترتدي بنطلون جينز وحجابها فوق رأسها وكأن نصفها السفلي متحرر ونصفها العلوي محافظ‏..’‏ ولن أمضي في اقتباس بقية هذه الصورة التي لا يفيد استنكارنا لها شيئا‏.‏ ولا يغني عن ضرورة فهم إشارات الراوي الذكية لمراحل تعليمه السابقة في المدارس المختلطة حيث التسامي بالغرائز عبر التواصل الإنساني الجميل‏.‏

تجارب فارقة لهذا الجيل‏:‏

يتميز ياسر عبد اللطيف بتلقائية بالغة في سرده فهو يكتب بسلاسة وعفوية دون أن يعني كثيرا بتشكيل معمار محكم لروايته بل يترك لذاكرته أن تنهمر ببساطة ولأنه في مقتبل حياته الإبداعية فهو يجرب أكثر من شكل للتعبير سبق له أن أصدر ديوانا شعريا بعنوان‏’‏ ناس وأحجار‏’‏ لكنه لم يقع أسير وهم باهظ يرهق طاقته الأدبية كما أنه فيما يبدو متحرر نسبيا من عقدة الانتماء النوبي بل كثيرا ما يسخر مما يسميه‏’‏ الجيتو‏’‏ داخل كتابته وربما ترك للراوي أن يتماهي بقوة مع طيف المؤلف نتيجة لهذه الفورة العفوية‏.‏ وقد بسط في هذه الراوية المثيرة بعض التجارب الفارقة لأبناء جيله تستوقفنا للإشارة إليها من أخطرها تجربة الاحتجاج السياسي في مظاهرات الجامعة إبان غزو العراق للكويت في التسعينات حيث يقدم في الفصل الثاني من روايته رؤية تفصيلية لها مبرزا بعض جوانبها الطريفة التي لا يعرفها سوي من كابدها من الشباب فهو يحكي مثلا عن شاب التقي به علي باب معسكر‏’‏ خطوة السير‏’‏ بينما يقف منتظرا دوره ليحصل علي شهادة الإعفاء من الخدمة العسكرية إذ حدثه عن‏’‏ أيام خدمته التي قضاها مع الكتائب المصرية المحاربة بجانب قوات التحالف الدولي في عاصفة الصحراء‏..‏ وحكي أنه ألحق كسائق علي قوات الجيش السعودي وكيف أن شظية أصابت ساقه عاد بعدها إلي القاهرة ليرقد في المستشفي العسكري بلا جدوي من علاج وعندما انتهت مدة خدمته العسكرية خرج من المستشفي شبه مشلول نصحه أبناء الحلال أن يطلب العلاج علي نفقة الحكومة السعودية التي أصيب بجبهتها فبعث ببرقية يطلب ذلك استدعي للعلاج علي نفقة الحكومة الملكية بمستشفيات الرياض الفاخرة‏..‏ إلا أن الاستدعاء وصله علي عنوانه لدي الجيش المصري فأرسل إلي الرياض تحت ستار مهمة عسكرية وها هو يسير علي قدميه مرة أخري بالرغم من المسمار البلاتيني الذي يقوم ساقه‏..‏ قال إنه عولج من الباطن كما حارب من الباطن في حفر البا‏..‏هاهاهاه‏’.‏

المثير في هذا الحكاية لا يتمثل في روح المرح التي يتذكر بها الشباب حيواتهم وما تحفل به من المآسي بل يكمن علي وجه التحديد في أن سرد هذه الحكاية يأتي في نهاية الفصل الذي يصور فيه الراوي مظاهر احتجاج الطلاب علي هذه المشاهد الساخنة وباستئناء الفصل الرابع الذي يتطرق فيه الراوي لأحد أقرباء العائلة دون ضرورة فنية مما يجعله ملحقا كالشارب اللصيق بالرواية تأتي فصول الرواية متماسكة متنامية فهو يقدم في الفصل الثالث تجربة فارقة أخري في حياة هذا الجيل تتمثل في نتائج معاناته للبطالة وهروبه من المسئولية العامة التي تحجب عنه قسرا ولجوئه إلي عالم المخدرات وهلاوسها الطاحنة‏.‏ يحكي قصة مجموعة من شباب المعادي يتفننون في الحصول علي تلك المواد من الصيدليات بتركيباتها الكيماوية المختلفة حتي ينتهي بهم الأمر إلي مادة‏’‏ الباركينول‏’‏ التي لم تكن قد أدرجت علي قوائم الممنوعات لاستخدامها في علاج الشلل الرعاش‏.‏ ويصف ما حدث لهم بعد تعاطيها في رحلة مثيرة إلي العين السخنة وكيف استحالت خيالاتهم إلي كوابيس قاتلة تلعب فيها الزواحف والوحوش والحشرات السامة دورا رئيسيا‏’‏ وتيمة الحشرات تلك هي التي حدت ببعض متعاطي‏’‏ الباركينول‏’‏ من الحرفيين أن يطلقوا علية‏’‏ برشامة الصراصير‏’‏ تماما كما أطلقوا علي‏’‏ الكوميتال‏’‏ الجماجم وكما أطلقوا علي مخدر‏’‏ الأتيفان‏’‏ القوي‏’‏ قطر الصعيد‏’‏ استنادا إلي الحادثة الشهيرة التي خدر فيها أحد الصعايدة ركاب عربة قطار بأكملها عن طريق وضع‏’‏ الأتيفان‏’‏ في‏’‏ جركن‏’‏ لماء الشرب وسقايته لهم تطوعا وثوابا أثناء الرحلة ثم سرقته لمتعلقاتهم بينما هم يأكلون الأرز باللبن مع ملائكة‏’‏ الأتيفان‏’‏ الأزرق‏.’‏ ثم يعلق الراوي بخبرة يحسد عليها موضحا تاريخ انتشار أنواع المخدرات في أوساط الشباب قائلا‏:’‏كانت تلك الفترة بنهاية الثمانينات هي العصر الذهبي لمخدرات الكيمياء كانت دولة الحشيش في طريقها إلي الأفول فيما عرف بأزمة الحشيش الكبري والتي علي إثرها تم تدويل‏’‏ البانجو‏’‏ كمخدر محلي فتم توفير ملايين الدولارات التي كانت تبدد خارج الحدود جلبا للحشيش وبهذا ساهمت الأعشاب الخضراء بشكل أو بآخر في حركة الإصلاح الاقتصادي التي بدأت مع عقد التسعينات وانتهت بنهايته‏’.‏

وربما كانت هذه البيانات التي يتبرع بها الراوي بلهجته الساخرة العابثة وخبرته الموثقة بهذه العوالم الشبابية ضئيلة الأهمية من الوجهة الفنية لولا أنه يوظفها بطريقة جمالية ماهرة لرسم صورة حادة لملامح أبناء هذا الجيل وكيفية انصرافهم القسري عن المشاركة في الشواغل العامة بحجة الحفاظ علي السلم مما أدي إلي تغييب وعيهم وتعميق شعورهم بالإحباط ومن ثم فإن ما بدا لنا في الظاهر مجرد انهمار عفوي لخواطر الراوي الماكر وذكرياته البعيدة والقريبة قد أسفر عن منطق متماسك يفضي إلي رؤية متبلورة لواقع هذا الجيل الذي نسارع باتهامه دون أن نتأمل مواريثه وإحباطاته مع أنه يتميز بحكمة بليغة في وصف أحلامنا بالطوباوية وسعينا لنزوع فجر لن تشرق شمسه بحسن النية‏.‏ مما يجعل هذه الرواية الصغيرة كبيرة الأهمية في حوار الأجيال الأدبية‏.‏

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم