يرصد الراوي تحولات الطبقة الوسطى التي ينتمي إليها وانعكاسات الجذور التي يمتد لها عبر جيلين تعود الجذور أصولهما إلى قرى النوبة في الجنوب والانتقال الطبقي الذي تحقق بالهجرة إلى القاهرة وصولا لجيل الراوي الذي يبدو منفصلا تماما عن هذه الجذور، فهو نشأ في حي عابدين بوسط القاهرة، وتلقي تعليمه بإحدى المدارس الفرنسية القريبة من باب اللوق، ثم انتقاله وعائلته بعد عودة الأب من الخليج للسكن في المعادي وللدراسة بمدرسة فرنسية أخرى بالحي العتيق.
الكتاب الصادر عن دار ميريت هو العمل النثري الأول لياسر عبد اللطيف، لكنه ليس أول أعماله، إذ سبق له إصدار مجموعة شعرية في العام 1995 بعنوان “ناس وأحجار”.
ويقول: “كتبت الشعر ربما لأن هناك تفاصيل أو لحظات صغيرة أردت ن أعبر عنها بكثافة، وهو ما يتيحه الشعر”.
اختيار ياسر عبد اللطيف لشكل السيرة الروائية نابع من ولعه بالكتابة اللصيقة بالفكرة، استخراج ماهو جمالي وفني في الخبرات الحياتية. بين سطور الرواية لفتت انتباهي العبارة التي جاءت على لسان الراوي: “لا أحاول أن أتملص من رومانسيتي، لكن أحاول تقليصها قدر الإمكان”.ويوضحها قائلاً إنها وعي الكاتب بألا ينساق وراء الحس الجمالي على حساب غياب الشرط التاريخي الذي يحكم الظاهرة جماليا لأن أبسط تعريف للرومانسية هي أنها إغفال التاريخ تماماً، التاريخ هنا بمعنى معايشة الواقع. والمستقر أن هذا الوعي انعكس على النص بشكل عام، فتكويني وثقافتنا الحديثة يختلط فيها المكونان بشكل ما. والتاريخ الأدبي الحديث هو تاريخ الأدب الواثعي بشكل أساسي، فلم نعرف أشكالا أدبية تستطيغ أن تتخلص من النزعة الواقعية في السرد ربما باستثناء الرومانسية الساذجة التي ميزت جيل الأربعينات وفي الجيل الجديد هناك محاولة مصطفى ذكري الذي يحاول أن يخلق أدباَ محضاَ، وأظن أنه الوحيد الذي يحاول كسر التقليد بهذه المحاولة.
ويوضح ياسر عبد اللطيف أن الراوي في هذه الرواية لا يبحث عن هوية، وإنما يبحث عن موقع محدد تداخلت في صنعه الجذور التاريخية بشكل أو بآخر مع عوامل أخرى كثيرة، وهذه مفارقة تظهرها الرواية عبر القطيعة الثقافية بين جيلين أو ثلاثة أجيال اختلف الوعي فيها بالعلاقة بالجذور، وهذا خاضع لرحلة الراوية وعائلته وحركة المجتمع كلها.
المنماذج الروائية على امتداد الرواية أغلبها من الرجال: الراوي ـالأب ـ الجدـ والاعمام وأصدقاء الطفولة والدراسة وتناول العقاقير المخدرة وحتى في الجامعة “القائمة على هيراركية الاحتقار”. كلهم من الرجال.
لماذا اختفت المرأة من هذه الرواية، أشعر كأن هناك فصلاً منزوعاً من الرواية؟ بحسب عبد اللطيف فهذا النص لا يحتمل وجود المرأة والتجربة التي تقدمها الرواية تنتهي عند هذا الحد، وربما يكون مكان المرأة في عمل آخر.
هناك اتهام جاهز لدى النقاد بأن الكتابة الجديدة غير مشغولة بالواقع الاجتماعي ـ ورواية ياسر رغم حياد رؤيتها تبدو معنية بهذا الواقع بشكل كبير، مما جعلني أسأله عن رأيه في القضية، وهو ما يستنكره على الفور قائلاً: ليس هذا صحيحا على الإطلاق بدليل أن النماذج الروائية على الساحة تقول عكس ذلك، أي أنها مشغولة بالواقع الاجتماعي، ولكنها تتناوله بشكل مختلف، وهي مسألة بديهية لتغير الظرف العام بالإضافة لاختلاف موقع الكاتب الآن عما كان عليه في السابق.
لا يعنيني إذا ما وصفت بأني مهمت بالواقع الاجتماعي أم لا، لكني أعتقد أن أكثر خدعة ساذجة يمكن أن يقع فيها كاتب هي أن يحاول الرابط بين العام والخاص بالشكل المباشر، فلا بد أن يكون ذلك مشروطا بالوعي، بحيث يتم التضفير بينهما بشكل يحقق توافر الشروط الفنية..
ولعل نجيب محفوظ مثال بالغ الأهمية، لأنه الوحيد وسط جيل الأربعينات الذي خرج من الرومانسية الساذجة التي كانت سائدة آنذاك وكتب رواية واقعية لأنه تميز بامتلاك الحس التاريخي وبمكانة الكاتب في حركة التاريخ والمجتعم ، ولا أعتقد أنه كان يتعمد هذا التمييز، لكن تكوينه الثقافي كان مختلفاً عنهم.
ياسر عبد اللطيف من خريجي قسم الفلسفة بآداب القاهرة، يعمل بالتليفزيون المصري وله كتابات حول الفنون والسينما ويعض الترجمات عن الفنون والسينما وبعض الترجمات عن الفرنسية انشرت في بعض الدوريات.