ياسر عبداللطيف والموسيقى التي لا يفهمها أحد

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 49
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هدي حسين

تعرفت على ياسر عبد اللطيف في السنة الجامعية الأولى لي، ضمن المجموعة التي أطلق عليها لاحقا “جيل التسعينات” أو “كتاب الجراد (نسبة إلى مجلة الجراد التي أنشأناها بمساعدة الشاعر السبعيني الصديق أحمد طه)”، والذين هم في الحقيقة كانوا جميعا رواد قصيدة النثر الحديثة في مصر وهم من أثروها بمعطياتهم وجرأتهم وعمق تناولهم في آن واحد.

كان ياسر في قسم فلسفة في كلية الآداب التي تجمعنا فيها كلنا حتى من كان منا لا ينتمي لأي قسم من أقسامها. وكنت في قسم اللغة الفرنسية وآدابها. وكثيرا ما كنت أجد صعوبة في استيعاب التعبيرات الشبابية لهذا الجيل الذي أنتمي له، بسبب خلفيتي الفرانكفونية الراهباتية، وكان ياسر يضحك ويشرح لي ماذا يعنون بما يقولون. وأصبح ياسر من أقرب شخصيات المجموعة إلي قلبي، ربما لأننا نتشارك الخلفية الفرانكفونية (هو ابن الليسيه وانا بنت الميرديديو)، فلم أكن أشعر بغربة كبيرة معه. فمثلا أتذكر ذات يوم كنا نجلس عند سور المكتبة الجامعية ومرت فتاة تضع كيلو ماكياج وملابسها ضيقة جدا وشكلها من محدثي النعمة، فقلت: مالها مشدودة بأربعة دبابيس هكذا!.. لم يفهمني أحد طبعا وضحك ياسر، لأنه وجدني ترجمت حرفيا التعبير الفرنسي الذي يعني “عايقة ومتضايقة” فأخبرني بالمعادل الدارج له. ومن يومها كنت أجلب معي نوتة وأكتب فيها المعادل الدارج للتعبيرات التي لم أكن أعرفها إلا بالفرنسية.

لذا فيمكنني أن أقول إن ياسر كان بالنسبة لي بمثابة المفتاح أو الضوء الذي ينير لي هذا العالم الغريب عليّ والجديد والذي أحبه، لكنني لا أعرف كيف أتواصل معه. وكان ياسر متفهما جدا لذلك.

من الأشياء التي ربطتني أيضا بياسر زيارتي لبيت أهله. فأنا لي فرع جنوبي (نوبي) أسمر لا أعرف عنه شيئاً. وكنت أتمنى أن أعرف لكن لم يقدر لي ذلك. ولياسر نفس هذا الأصل. لذا فقد كانت زيارتي لبيته من الأشياء المحببة لي. أن أعانق أمه الطيبة التي لا تنفك تهديني خشب الصندل للبخور وطحينة السوداني اللذيذة ودفئها وابتسامتها الطيبتين فينشرح قلبي وأحس أنني لم أفوت على نفسي بعد فرصة أن أتماس مع هذا العالم الأسمر الحنون. وكذلك لقاء أخته الشعنونه الذكية التي شعرت أنها تشبهني كثيرا في الروح. وأصبح ياسر بخلفيته الفرانكفونية وعائلته السمراء بمثابة صديقي الصدوق في الجامعة وخارجها.

كذلك من الأشياء المحببة لدي والتي وجدتها لدى ياسر فربطتني به أكثر، حساسيته الشديدة تجاه الأصوات. لا أقصد هنا علو الصوت وانخفاضه. بل أقصد تواتر الأصوات وتكراراتها الإيقاعية. ليس فقط في الموسيقى ولكن أيضا في الكلام والتعبير والشعر. طوال حياتي وإلى الآن أعتبر إن النظام الذي يحكم الكون هو نوتة موسيقية صارمة ومحكمة، وأن ما نعيشة داخل هذا النظام من أحداث تجري علينا ما هي إلى النغمات، التطبيق الصوتي لهذه النوتة، الذي يمكن التنوع في تأويله وفهمه لكن لا يمكن ابدا لمسه والقبض عليه. لذا فإنني كنت أفهم ياسر جيدا عندما يقول شيئا فجأة وسط الكلام، ليس علاقة له بالكلام، لكنه تركيب صوتي متكرر ما من قصيدة هنا أو قصة هناك، أو مجرد تعبير أو جملة اخترعها في آنها. كنت أفهم ما يعتمل بداخله وقد خرج في شكل هذه الصوتيات بغض النظر عن معنى التعبير او الجملة أو الكلمة. كان ياسر شديد الرهافة للصوت. وشديد الدقة في إخراجة والتأكيد على هذه المقطع الصوتي أو ذاك.

لا يمكنني مع كل ما كتب ياسر أن أنسى قصيدته: “لا أحد يفهم الموسيقى”. وأقول لك يا ياسر، هناك بالفعل من يفهمها. لست وحدك.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم