البشير الأزمي
فتحتُ عينيَّ على ضوءٍ باهتٍ متسللٍ عبر خصاص النافذة، اقتربتُ وأطللْتُ.. الماء يغمر الطريق.. أمي تصيح:” أمطرتِ السماءُ وحلاً.. أمطرتِ السماءُ وحلاً..”.
قلتُ لنفسي:” أحتاج إلى ركوة قهوة لأعدل مزاجي.. مرة أخرى أمي تهذي..”.
جدتي تستغفر الله وتصيح أنِ ابتعدوا عن النوافذ ولا تقتربوا من باب الدار. جدتي مَناحَةٌ دائمة.. أبي قاعدٌ يرشف من كأس شاي ويعب نفساً عميقاً من سيجارته، وجههُ خالٍ من أيِّ تعبير.. لم يعد صراخُ أمي ولا مناحةُ جدتي يُثيرانه.
جلسنا لتناول وجبة الغذاء، أبي يكره أكل السمك لأنه مليء بالحسك، ألقى بالصحن بعيداً وأمطرنا شتائم وطفق يصرخ. لا تعير أمي شتائمه اهتماماً. عندما نفد صراخه قام، نفض سرواله وخرج. ظللنا صامتين. قالت أمي:” ليس حسك السمك هو ما يدفعه للخروج، الحسك الذي يخز أسفل بطنه ما يرغمه على الخروج”. ضحكنا وأخفينا ضحكاتنا. ما كنا نتوقع من أمي أن تتلفظ بمثل ما تلفظت به. فطنت لما فاهت به وغيَّبت عن وجهها الابتسامة؛ ابتسامة كنا نقطف منها باقة فرح.
نظرتْ إلينا بطرف عينيها، احمرَّ خدَّاها وضاعت نظراتُها بين سقفِ وجدرانِ الغرفة. شدت جدتي على يديها برفق وكأَنها تزودها بطاقةٍ من الصبر. قعدتْ أمي تبكي، تركها أبي لدموعها، تركنا وخرج.. أطلُّ من النافذة أراه يمشي، تخاذلت خطواته. تمسح أمي دموعها، تنهض تتجه نحو الباب وتغلقه خلفه بقوة. يسير وشتائم أمي تلاحقه، أسنانها تصطك من الغضب. أتطلع إليها؛ هيئتها حزينة تطفح بالألم وقلبها يغمره الحزن والأسى.
خرج أبي غاضباً، أو تظاهر أنه غاضب، اتجه نحو الحضيرة، أكيد أنه سيخصي عجلاً آخر، هي ذي عادته كلما راود امرأةً من نساء القرية ورفضتِ الاستجابة لرغبته يخصي ثوراً. حضيرتُنا أضحت حضيرةَ ثيران مخصاة.. الثيران تبتعد عن أبي كلما هَمَّ بالاقتراب منها، فقط النعاج والبقر والثيران المخصاة تظل في مكانها غير عابئة به وكأنها استسلمت لقدرها ولتهوره.
أمي تغدو مرغادة عندما يغضب أبي ويغادر المنزل، تعرف أن خروج أبي من الدار يعني أنه ستركبه لعنة ملاحقة نساء القرية. اشتكت نساء القرية أبي إلى أمي، بَلَّغْنَها امتعاضهنَّ من سلوكه المشين، قالت إحداهن كلما مرَّ من قرب منزلها وكانت عند الباب يطيل التحديق في وجهها، ينظر إليها بشهوة ويفك سحابة سرواله، يدخل يده ويفرك أُصبع أسفل البطن ويبتسم. جدتي لا تعير لشكواهن بالاً، تعرف أن مضاجعة أبي النساء تعفي الثيران من الخصي.. وأنه كلما رأى أنثى اشتعلت شهوته. وفقد عقله، وهل لأبي عقل حتى يفقده. ثور هائج يذرع أزقة القرية.
تمد أمي يديها وتشد شعرها بعنف، يرتطم رأسها بالجدار، تحسُّ بالدم ينزف من رأسها، توسعُ حدقتَيْ عينيها في فزع..
الليل يلفظ ما تبقى من سواد ويُشرعُ حضنه لاستقبال أولى تباشير الصباح.. أمي قاعدة في فناء البيت تردد:
” ماتت نفسه.. ماتت كرامته.. عقله كان دئماً ميتاً.. مقبرة متحركة تعيش بيننا”.
اقتربتُ من النافذة، الثيران تتحرك وتصدر خُواراً متواصلاً، ومناحةُ جدتي تضيف إلى الخوار نغمة حزن، لا تتوقف عن الكلام، كلامها لا يفهمه أَحدٌ، كان يخرج كانه نشيج، وأنا أنثر أشواقي ولواعجي؛ وأغمض عيني باحثاً عن عالمٍ يفيض فرحاً وحبوراً، عالمٌ افتقدته أسرتنا.. لم يتبق منه غيرُ وحلٍ ومناحة.