ولقلبي سواده الفاتن

ولقلبي سواده الفاتن
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ممدوح رزق

… وبعد أن أخبرهم بكل ما ينبغي عليهم معرفته عن ذلك الرجل؛ طلب من طلاب ورشته الاشتراك في كتابة قصة قصيرة تبدأ بعثوره على المصباح السحري وخروج المارد التقليدي الذي بإمكانه أن يحقق له أمنية واحدة فقط.. طلب منهم تخيّل أن تكون هذه الأمنية هي عودة الرجل إلى عمر الثامنة عشر حيث الوقت الذي بدأت فيه طموحاته أو “أحلام الهيمنة” تتحوّل بحسم مثابر إلى خطط عملية محددة، يتلاحق تدوين خطواتها وتعديلها واستدراك هزائمها في دفاتر وأوراق تأملية أشبه بخزائن سرية للأمل.. أكد على طلاب الورشة بأنه سيعود ثلاثين عامًا إلى الوراء دون أن تتغيّر طبيعته، ودون أن يتبدّل الواقع؛ إذ كان يحتاج ذلك التحوّل قطعًا إلى تحقيق أكثر من أمنية واحدة.. عاد الرجل ثلاثين سنة حاملًا الدفاتر والأوراق المغايرة تمامًا، الرجاءات المتحسرة التي تمنّى لو كانت بديلة لخطط الماضي، ولم يعد ثمة زمن يكفي لتنفيذها أو روح تلائم وجودها إن تحقق شيء منها.

بعد انتهاء الوقت المحدد؛ بدأ كل طالب منهم قراءة ما كتبه:

“وجد نفسه مرة أخرى عاجزًا عن التقرّب إلى الفتيات أو النساء، كما ظلت كل الظروف التي تحاصره كما هي؛ لا تمنحه أدنى معاونة في هذا الأمر، ولأنه وصل مجددًا إلى ذروة عدم القدرة على تحمّل البقاء في بيت العائلة، أو العيش بدون جسد امرأة، ولأنه لم يكن قادرًا على الاستقلال بحياته في منزل آخر، ولأنه لم يعرف في حياته سوى ابنة الجيران التي أحبته منذ الطفولة بالرغم من كل شيء؛ فقد وجد نفسه مضطرًا للزواج بها ثانية”.

“حاول أن يكون له المزيد من الأصدقاء، وأن يتجنب أي ضغينة بينه وبينهم طمعًا في توفير أدوات مساعدة أكثر لتحقيق رغباته المستعصية في المتعة والعمل، وامتلاك خيارات صالحة لتكوين فريق مغامرات كوني لا تُخدش صلابته الحميمية، تجنبًا لتراكم الضرورات الانتقامية التي لن يتمكن تنفيذها.. لكنه ظل منعزلًا، بصداقات محدودة، وانكماش مرتبك أمام الغرباء، يصطاد كل ما لا يستطيع منعه من نظرة أو ابتسامة أو كلمة تستهدف غفلته، ويحتفظ بها داخل السواد الفاتن لقلبه.. لهذا لم تتسع تلك المساحة الهزلية الشاحبة لما يسميه مضطرًا لذة جماعية، ومكسبًا مهنيًا عن تلك البقعة القديمة التي تحنّطت داخلها خطواته.. لم ينجح نتيجة لذلك في تكوين جماعة المغامرين الطفولية التي حلم بها.. مرة أخرى لم يكن هناك إلا توسلات متجذرة لثأر لا يتم”.

“حاول أن يكرّس وقتًا أساسيًا لقراءة كل ما يتاح له من تاريخ الأدب البوليسي، والقصص المصوّرة، وأدب الطفل، والخيال العلمي، والرعب، ووثائق الغرابة والغموض على مدار الزمن، وأن يعيد خلق كل نص كُتب في هذه المجالات، وأن يشاهد جميع كلاسيكيات المسرح والسينما والدراما والكارتون، ويستمع إلى كل الموسيقى والأغنيات والمسلسلات الإذاعية القديمة التي أرادها، وأن ينغمس تمامًا في طفولة الثمانينيات.. لكن ما حصل عليه من ذلك الأمر لم يزد عن مقدار قبضة يد يائسة داخل بحر، حيث ظل أغلب وقته منقسمًا بين كتابة القصة القصيرة والتفكير في كتابة القصة القصيرة”.

“حاول أن يجعل من ضمن مشاغله الرئيسية البحث في تاريخ مدينته، لكنه لم يكن يريد أن يعمل وحده، كما ظل يتسلل ضجرًا خارج أي مجموعة بحثية يكوّنها، فضلًا عن عجزه الاحترازي عن التقرّب من شخص لا يعرفه حتى لو كانت لديه ذكريات ثمينة عن ماضي المدينة.. ظل يلتقط الأطياف الباهتة لذلك التاريخ ويختزنها في مخبأه البعيد وحسب”.

“حاول أن يحفر بصلابة في تاريخ عائلته.. أن يعرف كل المعلومات والحكايات التي يجهلها عن أصولها وماضيها، لكنه لم يكن قادرًا على أن يسأل أحدًا من أسرته أو أقاربه عن أي شيء يتعلق بالأمر إلا في النطاق البائس الذي لم يتجاوزه من قبل، ولهذا لم يعرف عن ذلك التاريخ إلا القشور الغائمة ذاتها”.

“حاول أن يحصل على النقود التي تتيح له امتلاك المتعة التي طالما تطلع إليها، وأخفق في الوصول إليها مستقبلًا.. حاول أن يجرّب الطرق والحيل الشائعة التي تؤدي لذلك لكنه فشل.. ظل يراقب من حوله وهم يبرعون في كسب النقود والاستمتاع بها، ومراقبة نفسه وهو يحاول بقروشه القليلة التشبث بأي ظل تعيس ومخادع لتلك المتعة”.

“حاول أن يكون صديقًا للجميع في الوسط الأدبي، كي يُعوّض من خلالهم بقائه خارج مهبل العاصمة، وكي يُخرّب بصورة أكثر لطفًا ما تمنحه لهم من يقين زائف بالتفوق.. لكن صداقاته بقيت قليلة للغاية، وظل منفصلًا عن أي تعويض، ويضاجع ـ حتمًا دون تهذيب ـ البلاهة المتعالية للمحشورين داخل المهبل المركزي”.

شعر ببهجة الاطمئنان وهو يستمع إلى ما كتبوه بعدما اتفقوا جميعًا على أنه طالما لم تتغيّر طبيعته، ولم يتبدّل الواقع فإنه سيكرر بدقة محكمة ما عاشه من قبل.. كان متبقيًا طالبة واحدة فقط راحت تقرأ مشاركتها:

“عاش الرجل مرة أخرى نسخة مطابقة تمامًا لحياته السابقة.. لكنه حينما وصل في عمر الأربعين إلى اللحظة التي يجب أن يعثر خلالها على المصباح السحري؛ صادف بدلًا من ذلك فتاة عشرينية في ورشته القصصية.. كاتبة تبدأ خطواتها الأولى وفقًا لإرشاداته، ولا تعرف حقًا هل يرى التشوّق المستقر في عينيها تجاهه أم لا.. هل يشعر بحبها له في كل كلمة تخاطبه بها؟.. هل يدرك إشارات رغبتها في تعويضه عن كل شيء والمنبعثة دومًا من جميع أفعالها أمام عينيه؟”…

لم يصّدق ما يسمعه.. كانت دقات قلبه التي تلاحقت بقوة الارتباك والسعادة أقرب إلى طوفان من الشك في حقيقة وجوده داخل ذلك المكان وأثناء تلك اللحظة وأمام هؤلاء الأشخاص اجتاح دماءه فجأة.. حاول أن يبدو متماسكًا تحت ثقل الرجفة الفردوسية التي لم يختبرها جسده أبدًا من قبل.. أكملت طالبة الورشة:

“كانت تريده أن يرى ويشعر ويدرك كل هذا حتى يبدأ معها الحياة التي لن يحققها له أي مارد.. الحياة التي لا تُقاس بتوقيتها أو بالزمن الذي ستستغرقه، وإنما بما ستكون عليه اللحظة الواحدة منها حيث كل لحظة هي تلك الحياة كاملة.. حياة لا تنجز صياغة حاسمة للماضي فحسب، وإنما للتواريخ المجهولة كافة التي ظلت تحاصر ذلك الماضي وتطبق عليه وتنتجه أيضًا.. سيكون ذلك هو نهاية الطموح، والموضع الأخير للرجاء، والانطفاء التام للحسرة.. ستكون الحياة التي لا تسمية لها سوى (الذروة العادلة للغموض)”.

كان التساؤل الذاهل الذي يدوي في رأسه حول ما وراء هذا التحقق المثالي للمعجزة التي حلم بحياته تنتهي في سرها؛ كان ذلك التساؤل يفتت عظامه بنعومة لا تُحتمل.. شعر بدوار المفتون حين لا يستوعب خلاصه الذي تجسّد أخيرًا فيراه هلاكًا محتومًا.. كان يحلق بألوهة مستحقة كأنها قصاص الغيب من روح الشيطان التي تسكنه.. تواصل الفتاة:  

“نعم.. كانت تريد طالبة الورشة أن يرى ويشعر ويدرك أستاذها كل هذا بوصفه إحدى مكائد القص التي تعلمتها على يديه.. أن يعرف إلى أي مدى أصبحت بارعة حين تكتب أن كلمات الغرام التي وجهتها إليه كانت تقصد بها في حقيقة الأمر زميلها في الورشة الذي يجلس دائمًا بجوار النافذة، ويحمل حقيبة قماشية زرقاء، ويحب يوسف إدريس أكثر من نجيب محفوظ.. بهذا تتوّج الحياة المهينة لذلك الرجل بالختام المثالي اللائق”.

أنهت الفتاة القراءة ثم غمزت بابتسامة ولهانة إلى الشاب الجالس بجوار النافذة، والذي التفت إليه مشرف الورشة فوجده يبتسم بخجل متباه بينما تصاعدت ضحكات زملائهما الممتزجة بنشوة تصفيقهم الاحتفالي.

لم يبتسم الرجل حقًا إلا في صباح اليوم التالي.. حينما انتهى من تخيّل كل ما حدث في الورشة، ثم بدأ في كتابة هذه القصة.

…………………….

*من المجموعة القصصية “ولقلبي سواده الفاتن” الصادرة مؤخرًا عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع بالعراق

مقالات من نفس القسم