مهند الكوفي
يُقال أن هناك قرية بعيدة ، يمر فيها نهرٌ يسقي كلُ شيء تقريبا، ذات ليلة جف النهر ومات الجميع وهم يقتلون بعضهم. نزلت الحيوانات والطيور والأُناس إلى النهرِ للبحث عن الماء، لم تجد هذه المخلوقات ما تريد، تقاتلت ما بينها وتلطخ البشر بدماء الحيوانات والطيور بدماء الأسماك، صارت الدماء السائل الوحيد الذي يسد عطشهم، مات الجميع وسط النهر، الدماء والغرين والجثث المشهد النهائي لهذه الرسمة المؤلمة للقرية. بعد سنة عاد النهر لما كان عليه، وغمر هذه الرسمة العظمية، وكأن الحياة بدأت للتو.
قررت الأشجار والنخيل والأعشاب النهوض، وأخذ النهر يفيض على القرية في الأشهر الأولى من السنة، تاركاً الطحالب الخضراء في كل مكان. الأسماك والطيور لا تمر بهذه المنطقة، تعتبر منحوسة، حتى الحيوانات هناك، كانت تتكلم فيما بينها عن الكارثة التي حلت بالقرية. لا توجد أوقات هنا، في الصباح صوت النهر والأشجار يحدثان بعضهما، وفي المساء كذلك. لا شيء يتغير في القرية سوى أشعة الشمس.
في أحد المساءات، شاهد رجلٌ وهو على مرتفع من الأرض هذه القرية، قرر أن يقضي ليلته فيها، وصل القرية، فكانت قدماه تتركان آثارًا على الأرض الممتلئة بالطحالب. تفاجأ عندما رأى كل شي مكانه، ولا توجد سوى أصوات الأمواج والشجر، صرخ بصوت عالٍ، لم يجبه غير صداه، تمالك نفسه ودخل احد البيوت المهجورة، كل شيء مكانه، الأواني والملابس، الأكل اليابس وهيكل عظمي لطفل في سريره الصغير. خرج مسرعًا، دخل البيت الآخر، رأى جثة عجوز وشعرها الأبيض قربها، ويدها في بطن حمار متعفن. خرج وهو يصرخ، دخل في بيتٍ آخر رأى فيه ثلاث جثث لعائلة شنقت نفسها بذيول الحمير!
لم يدخل إلى البيوت الأخرى فقام بغلق أبوابها، وقرر أن يسكن إحدى البيوت المهجورة ويقطن المكان، ويتخلى عن أي شيء.
في اليوم التالي فكر أن يبني محرقة كبيرة، ويتخلص من الموتى، استيقظ مبكرًا، خلال بحثه عن أدوات البناء، حيث كان مخولًا للدخول لأي منزل يشاء. شاهد منزلاً يصلح أن يكون محرقة كما أراد، المنزل على هيئة قاعة وغرف صغيرة، ربما استخدم معبدًا مسبقًا!! جمع جثث القرية متجاهلًا أنواعها وجنسها! وضعها في المحرقة –المعبد مسبقًا- وحرقها، استغرق ذلك خمسة أيام.
تجمع الناس والحمير والكلاب والقطط والذئاب والطيور دخلوا البيت وضعوا حبلاً في رجلهِ اليمنى وقاموا بجره في الشوارع الترابية، قضمت الكلاب جهازه التناسلي وهو يصرخ بجزعٍ، وشرب الأطفال دمه ولعقت النساء عرقه، وأكل الرجال شعر رأسه والعانة. وصلوا المحرقة، وكان هناك حمار أبيض يقرأ تعاويذًا قبل حرق الجثة، والجمع يتلو كلمات غريبة، ضربه الحمار بقدميه ضربة أسقطته في اللهب. إستيقظ وهو يصرخ لا لا لا !
ظلت الأحلام تراوده كل يوم تقريبًا، فكر أن ينام في النهر وهو لا يعلم أن النوم بجوار الجثة أفضل من النوم في مكان قتلها! رأى في منامه حوتًا بلعهُ وتقيأهِ في الوقت ذاته، الحيوانات أيضًا تميز رائحة البشر العفنة!
أخذ يتكلم مع نفسه وغالباً ما يذهب يكلم رماد الجثث المتنوعة التي جمعها في إناء كبير من الفخار، وخلط معها قليلًا من التراب، وحاول كثيرًا تمييز الحيوانات عن البشر، من خلال وضع كميتين من الرماد ،وزَرع فيهما أعوادًا من الزهور ليرى في أي منهما ينمو الجمال!! بقى هذا الرجل قابع في بيته المهجور، يحاول وضع نظرية موازية “لأصل الأنواع”.
ذات يوم سمع أصواتًا في الخارج، لم يتحرك من موضعه وبقي يزاولُ عمله.
في الخارج صارت الناس تعبث في القرية، إنتشرت الحيوانات والطيور والأطفال في كل مكان، وفي الليل أخذت أصوات الأغاني والضحك يملئان المكان، إنه حفل كبير نظمه هؤلاء الغرباء، عندما استولوا القرية المهجورة. سكنوا البيوت، فصادوا الحيوانات المهاجرة، صنعوا السفن والأسلحة،وجهزوا المقاتلين للدفاع عن القرية التي أصبحت ملكًا لهم.
دخل ثلاثة رجال على بيته ذات ليلة، تفاجئوا بوجوده ونشر خبر: بأن شخصًا غريب الأطوار، شعره أبيض وطويل، بدون لباس، رائحته كريهة، وعيونه بارزة للأمام، أطلقوا عليه تسمية المجنون، أخذوه إلى كبيرهم ، وطلبوا منه التحدث إليهم لكنه لم يفعل بالمطلق، أرادوا منه أن يسرد تاريخ القرية ومصيرها. لم يتحدث فتركوه، ظل يركض في القرية، حتى أيقنوا أنه مجنون.
لم يكن مجنوناً قط، لكنه تخلى عن كل شيء يساعده للعيش برفاهية،لا يهمه سوى الوعاء الفخري الذي يحتوي على قرية كاملة! أحيانًا، يكمنُ العالم كله في خصية، وأحيانًا يكون في وعاء!! هكذا يتحدث مع نفسه. كانوا ينعتونه بالمجنون فيبتسم.
أكمل النهر عدته وفاض على القرية فرح الجميع متجاهلين معنى ذلك، نزلوا إليه فشربوا منه وسبحوا، إستيقظ الجميع يعوون في ليلةٍ كمل فيها القمر، على أثرها جن الجميع ،عدا الرجل الذي سموه مجنونًا.
جلست في إحدى مقاهي مدينتي، ويجلس قربي داود الرجل المجنون كما يعرفه الناس. سمعته يكلم المارة، ولكني لم أعرف، عمَ يحدثهم هل كان ينصحهم؟ هل يحذرهم من خطر قادم؟ هل يعطيهم دروساَ في الحياة؟ تذكرت حينها عبارة لجبران خليل جبران “المجنون يحكي والعاقل يستمع”. لا أحد يسمعه يا جبران!
هل ينتفض المجانين يومًا !!
اقتربت منه أكثر، وكان يبتعد، يضع أصابعه في فمه، أتجاهل تمامًا لذة طعم الأصابع في أفواه المجانين!! أعتقد أن الجنون هو الطريق الأول نحو التجرد!
لا يجالس الناس بسهولة، إنها خصوصية أتمنى معرفتها. نقلت هذه القصة لداود، الإنسان الحقيقي، وهو يدندن مع نفسه ويبتسم ، ولكن بلا جدوى شعرت أنه لا يريد أن يشاطرني الرأي، ربما هو مشغول بأفكارٌ أخرى .
أصابني اليأس وداود لم ينطق بعد، سمعت صوت صاحب المقهى ينادي: داود أعطني هاتفك أريد أن أتصل، ضحك الجميع وضحك الأخير متجاهلًا معنى ذلك، ربما، العقل الجمعي يحرض الجالسون على الضحك. ولكن هل ينتمي المجانين لنظرية العقل الجمعي؟
صار يردد كلمة الهاتف بإستمرار، قبل رحيله قال لي: اتصلت أحلام البارحة على هاتفي وبصقت علي، أنا ذاهب لأغسل وجهي !
………….
*كاتب من العراق