محمد الفخرانى
فى وقت لم يكن فيه فيسبوك، وربما وسائل التواصل الاجتماعى، ولا تتوافر بشكلٍ كافٍ أماكن لقضاء وقت مع الكتابة، كانت ندوة الأستاذ «محمد جبريل» يوم الخميس، كنّا مجموعة من كتّاب وكاتبات شباب، فى مرحلة مبكرة من رحلة الكتابة، يجمعنا الطموح والحماس، ولا تنقصنا الشراسة فى نقد أعمال بعضنا بعضًا، كان الأستاذ «جبريل» يسمح بهذه الشراسة، الحرية، فى حدود، كانت هذه طريقته فى إدارة الندوة، لا يتدخّل إلّا بكلمات قليلة، فنتمادى فى شراستنا، وعندها يتدخّل بهدوء وحسم، وأحيانًا عندما نُصرّ على التمادى يُصِرّ هو على التوقّف عند نقطة معينة، ربما كنّا نمارس شراستنا لأننا نعرف أنه سيتدخّل فى الوقت المناسب، هذا أسلوبه السَّلس السهل، المراقبة وضبط حالتنا وحالة الندوة، لم تكن علاقتنا به فقط كتّاب وكاتبات شباب وكاتب كبير، إنما تلك المساحة الإنسانية التى تُنْسَج على مَهْل وبسرعة وعمق وبشكل حقيقى.
كانت شراستنا ضد بعضنا بعضًا خالية من الضغينة، إنما هو الحماس، كنّا «واخدينها جدّ»، هذه الشراسة هى ما جعلت علاقاتنا حقيقية وقويّة، ثم بعدما تنتهى الندوة ننزل ونقعد على قهوة «التكعيبة»، ونكمل «عَرْكتنا»، وقتما كانت «التكعبية» مكانًا يجمع شباب الكتّاب، والطاولات والكراسى متلاصقة حتى يبدو وكأن الجمع يتكلّم إلى الجميع.
ندوة الأستاذ «جبريل» كانت فرصة للجميع لقضاء وقت مع الكتابة، وأيضًا لتكوين صداقات، وفيها تعرّفْت إلى مجموعة من الأصدقاء، بعضهم من أقرب أصدقائى.
فى العام 2020، وقت «كورونا»، ومع بداياتها كانت هناك عاصفة شهيرة من رياح وأمطار شديدة، فى هذا التوقيت كان الأستاذ «محمد جبريل» بالمستشفى، وكنت أزوره بانتظام، أظنه بانتظام، وفى يوم تلك العاصفة كنت حريصًا أن أتواجد معه، وأيضًا لمتعتى الشخصية، فلم أكن أبدًا لأبقى فى البيت وأترك العاصفة والمطر بالشارع ولا أخرج لهما وأستمتع بهما، لم أكن لأفوِّت هذا اليوم، وبالفعل حصلْت عليه، خرجت والشوارع شبه خالية، ومشيت مسافة من الطريق إلى المستشفى بسبب المياه التى تراكمت فى الشوارع، وصلْت المستشفى، طرقْت باب غرفة الأستاذ «جبريل»، ودخلْت، كان فى سريره، وبجواره على كنبة جلدية تستلقى زوجته السيدة المحترمة الدكتورة «زينب العسال»، فى وضْع شبه جنينى ورأسها ناحيته، طلب منى أن أُحضر له نوت بوك وقلمًا، فخرجت واستمتعت من جديد بالمطر والعاصفة، حتى عثرْت على مكتبة فى الشوارع الصغيرة حول المستشفى، وعدْت ومعى عدّة نوت بوك وعدّة أقلام، قدّمتهم للأستاذ «جبريل»، فسألنى على سبيل المزاح: «بكام؟»، قلت له على سبيل الجدّ: «كفاية الشايات اللى شربناها على حسابك فى الندوة»، ثم بدأ يُخربش بالقلم فى النوت بوك.
فى الفترة الأخيرة، وكعادتى، يفوتنى أن أتصل بأشخاص أحبهم، فيمرّ وقت دون أن أهاتف الأستاذ «جبريل»، أكتشف ذلك فأقول لنفسى: «تأخَّرْت..»، ثم أردّ على نفسى: «طيّب، هتتأخّر أكتر ولا تتّصل؟»، فأهاتفه وأقول له: «أنا جاهز، مستعد أسمع أى كلام»، فيرُدّ أحيانًا بطريقة، لا أقول بها عتاب لطيف، لم يكن يعاتب، إنما طريقة «اسكندرانى» بها طرافة أحبها منه، أضحك وأقول له: «ماشى يا أستاذ، الطريقة الاسكندرانى دى..»، أو فى معظم المرّات يقول: «المهم إنك بتتصل»، وفى نهاية المكالمة يقول: «لمّا تتأخّر وتفتكر اتصل..»، الجميع يحب هذا الرجل، حتى منْ شَغَلْته الحياة منّا عن التواصل معه، كلنا يحمل له هذا الحب والتقدير، وهو كان يعرف ذلك، وحبّنا وتقديرنا له سيبقيان.
هذا الرجل، الأستاذ «محمد جبريل»، منَحَ الكثيرين الفرصة ليقضوا وقتًا مع الكتابة، وبرأيى أنه حصل على كل ما كان يرغب فيه ويريده بشكل حقيقى، حصل لنفسه على: «وقت مع الكتابة».