“وسمية ما بين النهرين” لريم الفيلكاوي.. الألم بطلا لرواية

وسمية
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. أحمد الدوسري
رواية “وسمية ما بين النهرين” للكاتبة الكويتية ريم الفيلكاوي فيها من كثافة الأحداث ما يشبه حربا عالمية حدثت كلها داخل عائلة. يأخذك كمّ زاخر من الأحداث الأليمة بما يشبه أيضا ملحمة إنسانية لامرأة وابنتها في تكثيف سردي مخيف. أظن بأنه تولستوي من قال: كل العائلات السعيدة تتشابه، لكن لكل عائلة تعيسة طريقتها الخاصة في التعاسة. وهذه العائلة التعيسة لديها طريقتها الخاصة في التعاسة. لكنها أيضا رواية بنكهة كويتية خالصة، خاصة في جزئها الأول.
ما يلفت النظر في هذه الرواية هو تداخل أصوات البطلة الأخيرة وسمية والراوية والكاتبة.
لم تستطع الكاتبة كما يبدو أن تتحمل وجود الجدران الإبداعية بين الشخصية والراوي أو الراوية وبينها ككاتبة. كأنها تريد أن تقول للقارئ الذي لم يعتد على هدم كل هذه المسارات في الحبكة الروائية عموما بأنها تصطف إلى جانب بطلتها وسمية. وأمها من قبلها والتي هي أساس هذه الحياة التعيسة لابنتها. يحاول الكثير من الكتاب أن يهدم هذا الوهم الجداري بين الكاتب والقارئ مثلما فعل إيتالو كالفينو مثلا في روايته: لو أن مسافرا في ليلة شتاء. وحاول مقاربته الكاتب خليل صويلح في روايته ورّاق الحب.

بشكل عام تعدّ الرواية من قبيل العصف الذهني ضد المجتمع الذكوري الذي يعامل المرأة بما يتناقض ومكانتها في الإسلام، وحتى في المجتمعات الأخلاقية المتقدمة. الرجل في الرواية يضع المرأة في مكانة وضيعة. فهي منتجة أبناء أو واجهة فقط لا غير. ولن ينتظرها إن خرجت عن هذا الإطار سوى التعذيب الوحشي كما حدث لهناء التي تزوجت من رجل يعمل ضابطا في مطلع الثمانينات من القرن الفائت. أحبته. لكن أمه وسمية العجوز وأختاه سلوى وسعاد لم تجد لديهن سوى الكراهية فقط لأنها تأخرت في الحمل. كما أن والدتها لطيفة هي كذلك مغلوب على أمرها أمام والدها محمد الذي لم تعرف معه حنان الأب أبدا. فكأنها ورثت عن والدتها ضعفها ولعنتها. وكذلك عن والدها بشاعة الرجال. لم يحنّ عليها سوى خالتها آمال. وبعد أحداث وحشية استطاعت أن تحمل عبر تقنية طفل الأنابيب في مصر الذي ذهب إليها الزوج في دورة تدريبية. بعد أن أقنعتها جارتها المصرية تغريد بذلك بمساعدة الخادمة حلاوتهم.
في هذا العمل تتجلى جدلية قسوة الرجل الشرقي الأب والزوج والحبيب مع عدم وجود أخ.
ومشاركة الأم والأخوات في الظلم على الرغم من أنهن في النهاية مثلها في مجتمع ذي نزعة قوية ضد المرأة.
نلاحظ أن هناء امرأة عاقلة متوازنة حتى عندما وقع الغزو العراقي للكويت اتخذت موقفا بطوليا واصطفت مع من يكرهها زوجها وعائلته.
أما ابنتها وسمية بطلة بقية القصة فهي متسرعة، عاطفية جدا، وتتصرف بوحي من عاطفتها. متعجلة. تحب وتكره بنفس درجة الإفراط . وهذا ما أوقعها بكل هذه التراجيديا. ويلاحظ أن المرأتين، هناء ووسمية، يعشقن زوجيهما، لكن الزوجين يكرهونهما.
هناك جدلية أخرى غير جدلية الرجل والمرأة الأزلية، ألا وهي جدلية الحياة والموت تتجلى بعنف. الموت من أجل الحياة. الحياة التي هي عبارة عن موت سريري. لا أجد تقريبا مثل هذه الشخصيات التي تجسد كل هذا العنف الا في الروايات الروسية. حيث نرى تتابع الأحداث على الشخصيات المحورية بشكل متدفّق ومتصاعد.
تبدو الشخصيات مأزومة. لديها مشكلة وجودية. تريد أن تثبّت مكانا لها في المجتمع, مكانا ومكانة. وسط كل هذا الظلم في مجتمع صورته الكاتبة بشكل ذكوري فادح. فالأب مثله مثل الزوج مثل الجار. كل الذكور يتصرفون بوحي أو بإيحاء من ذكوريتهم الطاغية. مناصبهم في المجتمع قوية. ضابط، ثم رجل دبلوماسي. أصحاب قوة ونفوذ زيادة على شخصياتهم الطافحة بالقوة والمفرطة بالقسوة واللاإنسانية. وكلهم بلا استثناء، حتى الطفل مجزع الذي كبر في الحي مع وسمية، فقد كبر ومارس القسوة نفسها معها.
في هذا البيت المليء بالكراهية والمؤامرات لم تجد التي لا تنجب سوى الخادمة الهندية لجمي. لم تحمل ربما بسبب عقم. لكنه مؤقت. وكأن هذا العقم يأبى أن تلد طفلا ذكرا. فتنجب بعد معاناة كبيرة من أهل زوجها أمه وشقيقاته، ابنة أرادت أن تسميها تغريد باسم جارتها وصديقتها في مصر، لكن الزوج زيادة في تعذيبها أسماها وسمية. حملت بها عن طريق تقنية الانابيب في مصر. لكنه لا يعترف بها ويشك بأنها ليست من صلبه. على الرغم من أنه يضطر في النهاية إلى تسجيلها باسمه.
يبقى الزوج سالم مضطربا تجاه الطفلة وسمية. ابنته من الأنابيب. فلا يشعرها يوما بأنها ابنته. على الرغم من أنه أسماها وسمية باسم أمه التي رحلت بعد أن مارست كل أنواع التعذيب على زوجته. منذ البداية سمُيت الطفلة باسم جدتها التي كانت السبب بمأساة أمها. وعندما كبرت شعرت بأن اسمها كانت لعنة. بل كان هو بداية كل لعنة لحقت بها.
الاطار المكاني بين الكويت ومصر ودولة أوروبية في الفترة منذ بداية الثمانينات حتى الحاضر. فترة تغطي جيلين ضمن العائلة نفسها. وتشمل فترة الغزو العراقي للكويت ومعاناة الأسر إبان هذا الغزو. واستشهاد هناء نفسها دفاعا عن شرف أخت زوجها سالم الذي كان متخفيا طوال فترة الاحتلال بحكم أنه ضابط، لم يشفع لها ولا لابنتها لدى زوجها أو عائلته. فواصلوا تعذيبها عبر تعذيب ابنتها التي اعتبروها امتدادا لها.
لغة الكاتبة جميلة. قاسية ومعبرة عن معاناة الشخصيات. لا سيما هناء ثم ابنتها وسمية. والمسافة في السرد نراها مرة تبتعد إلى درجة الحيادية ومرة تشتبك مع الشخص الأول ثم تتدخل الكاتبة وتكشف عن نفسها.
لا أعرف من الذي قال الشخصية هي كل شيء، وفي هذه الرواية تبدو كل شخصية هي كل شيء في هذا العمل الروائي. ولأن العالم القديم قد انتهى بعد ظهور النفط فأصبح لا شيء يدهشنا من أعمال العنف والقتل والنهب والسلب والقسوة. لكن الكاتبة تضعنا أمام كل هذه المتغيرات وجها لوجه مما جعلني كقارئ مصدوما ومندهشا ومتألما.
وسمية تذكرنا ببطلة رواية آنا كرنينيا التي قررت أن تواجه المجتمع وتترك زواجها الخالي من المشاعر. تختلف ظروف آنا كارنينا مع ظروف وسمية والمجتمع والحرب التي تخوضها. لكن التراجيديا واحدة. وإن كانت وسمية ترتكب أخطاء تتسبب لها في كوارث مثل علاقتها بابن الجيران مجزع.
تعرّي الكاتبة ريم الفيلكاوي بقسوة شديدة المجتمع الذي تعصف به قوانين لا إنسانية. الأفكار الشريرة محرّك رئيس في وتيرة حمم الرواية. والتي تريد ان تقول بأن الحياة ليست عادلة. لا دوما ولا في بعض الأحيان. هي دوما ليست عادلة.
وتبدو وسمية التي نعرفها منذ أن كانت طفلة تعاني من الاضطهاد الموجّه، ومن الجميع تقريبا، حتى تعلّقها بابن الجيران مجزع، ضعيفة ثم مقاتلة من أجل الخلاص الروحي. خلاصها الروحي الخاص، في رحلة بحث عن الذات وعن الحرية معا. حتى نيلها حريتها وعثورها على توأم روحها ناصر.
الزوج الثاني لوسميّة السفير سليمان غارق تماما في حياة الليل والمجنون تحت ستار من العفة، التي توفرّه له وظيفته الرسمية كدبلوماسي.
يقول تولستوي بأن: أقوى المحاربين هما الوقت والصبر. الصبر يصقل ويمنحذ، والوقت يعلم ويعطي النتائج المرجوّة. ويقول أيضا: الشخص الذي لديه فكرة خاطئة عن الحياة ستكون لديه دوماً فكرة خاطئة عن الموت.
البطلة تريد أن تكون هي لا تلك التي يريدها المجتمع أو والدها أو زوجها. حتى وإن تطرّفت في بعض الأمور. وتصرّفت بطريقة خاطئة. لكن تلك الأخطاء هي نتاج العثرات والتعاسة في حياة خادعة. حياة ظالمة هي خدعة من الجميع.
لم أر الجانب الروحي في الشخصية كما يركز عليه تولستوي مثلا، ومرتكز الجانب الروحي الدين وهذا قد يكون مأخذا على الشخصية. لكن الجانب النفسي بدا واضحا لدى وسمية، الشخصية المتمرّدة. كما في روايات دوستوفسكي، والذي يقول: اعلموا أنَّ هناك حدًا للغمِّ والقهرِ والنكَدِ الذي يُحدثهُ في نفسِ الإنسانِ شعورهُ بأنهُ لا شيء، وبأنهُ عاجزٌ، فإذا تجاوزَ الإنسانُ ذلك الحَد غَرِقَ في لذّةٍ خارقة.
لذا يبرز الألم النفسي بوصفه أيضا بطلا من أبطال الرواية القائمة على أحداث وشخصيات مركّبة منحت العمل الروائي فاعلية متانة وجمالا. ما يجعلني أقول في النهاية بأن رواية وسمية ما بين النهرين للكاتبة ريم الفيلكاوي والصادرة عن منشورات ذات السلاسل الكويتية من الروايات الجميلة التي تستحق الإشادة بها وبكاتبتها.

مقالات من نفس القسم