فقط لم يكن ذلك مقدرًا..
أن أكون رسَّامة، أجدل الألوان فى ضفيرتى، وعندما يغيب النهار وأحل شعرى تشرق الشمس فى قلب الليل، فتنضبط الساعة البيولوجية للخلايا النافرة، يدب الدفء فى أوردتى وتتحول السوائل التى تخرج منى بألوانها الباهتة، الشاحبة: الشفافة، الصفراء، الخضراء إلى اللون الأحمر فيستدعى مناعتى، مقاومتى، عافيتى وتصحو الحياة فى خلاياى النائمة.
فقط لم يكن مقدرًا..
أن أسكن فى أعلى تلة تطل على بحيرة فى غابة سويسرية
أن أكون موجودة بدرجة تجعل الآخرين يشعرون بالفقد لغيابى
أن أكون ثقبًا أسود يبتلع العالم
فقط لم يكن ذلك مقدرًا..
أن أرى لهفة فى عينيك.. أن تتجمع الخيوط الدقيقة الحمراء وترسم لى صورة فى حدقتيك.
أن أضبط قلقًا ساكنًا فى يديك، تشنجًا، رفضًا لما يحدث، خط ألم يسكن وجهك. خطوط الغضب تنحفر فى الجبهة، خطوط الألم تتجمع حول الفم وتتسرب للخدين.
أن ألمس ارتعاشًا فى أحبالك الصوتية: إزيك، حاسة بيه، الألم خف؟، قولى لى كل حاجة، شوش شوش.. أنا حاسس بيكِ. لكن صوتك ظل ثابتًا، دون تشويش، دون لجلجة دون كسرات أو ثنيات أو شهقات خانقة مباغتة.
فقط لم يكن ذلك مقدرًا..
أن تفقد شهيتك قليلًا للكلام ربما.. للطعام قطعًا.. أن تتسع قمصانك، أن تبدو متهدلًا، مشوشًا، أن يطاردك كابوس غيابى فتخاصم النوم.
أن تهدينى قيامة ابتسامة من قبر الأسى، تنهيدة تغالب ضلوع قفصك الصدرى، زهرة تتماوج فى يديك أو قلبًا صغيرًا، ميدالية بها حرف من اسمى.
إحقاقًا للحق دفعت كل تكاليف المسكنات لكنك لم تشاركنى أيًا من مخففات ألمى.. أن تمسك بكفى الواهن وتهزه وكأننا ملاكمان سينتصران ويوجهان ضربتهما القاضية للحياة.
أن نشاهد فيلم brave heart
أن ندندن مع عبدالوهاب «أقول وأوشك أعبده».
أن يكون لنا كلمة سر، لا يعرف شفرتها سوانا.. كلمة قد تضحكنا أو تبكينا لكننا وحدنا اخترعناها.
أن تستحسن طعم التوست الأسمر، خليط الأفوكادو والسالمون، أن تستطيب قرمشة التفاح الأخضر مع زبدة الفول السودانى. أن تثمن كل السوائل التى تخرج منى وتتعامل معها كقرابين مقدسة للحياة.
فقط كان مقدرًا
أن تكون الخضروات الطازجة دون طعم لكنها صحية. أن آكل التفاحة، أن أخوض التجربة، أن أمشى وحدى، أن أتألم وحدى. أن أكون مجرد رقم، صدفة، أن أكون يتيمة وأن تكون ثقبًا أسود يبتلعنى.
وكان مقدرًا
أن أتفهم دوافعك، وإن كنت لا أتعاطف معك وأنت تكرر سؤالك « هل أنا السبب فيما حدث لك؟ «وأنا أجيبك بوهن «كلنا أسباب».
وكان مقدرًا
للشىء الوحيد الذى قلت له: أنا حزينة، أن يجيبنى بحياد «روبوت» على موبيل الأيفون.. صفاء: يمكنك البكاء إن أردتِ، فسطحى الزجاجى المكون من سليكات الألومنيوم مقاوم للبكاء.
3
الألم.. الألم ليس حليفًا.. الألم ليس عدوًا، الألم طابور خامس ينشر الشائعات، يُشوّش إدراكك، ويُلهيك عن معركتك الحقيقية.. لا يُنذرك الألم قبل بدء الحرب، فتستعد مبكرًا، لكنه يتلكأ كثيرًا فى الأزقة والحارات، يتسكع بجوار أسوار الحدائق مثل طفل مشاكس، تطلب منه أمه شراء «كيس ملح» لتجهيز الغداء، لكنه لا يدرك الوقت، ويعود لأمه، وقد جلس الوالد على المائدة، والأم فى حيرة بين سوء التنظيم وسوء التربية.
ليس للألم بوق يعلن عن نفسه قبل مقدمه، ليس للألم نفير، وعندما تظهر رايته تكون المعركة قائمة بالفعل، وقد تحولت القوانين العادية إلى قوانين استثنائية. لكن الألم يصر على أنه رسول، وعليك أن تكرم وفادته، أن تؤدى له واجب الضيافة، فيشغلك الضيف الثقيل عن دفن قتلاك، مواراتهم الثرى، تطييب الجرحى، تحصين، تجهيز البنادق والمدافع للجولة الثانية، يمنعك الألم بانشغالك بطلبية طلباته الملحة، أن تخطط لاستراتيجية المواجهة.. فتتحرك قطع الشطرنج بمفردها، وتبدو القواعد عبثًا كبيرًا: الحصان يسير مندفعًا للخلف والأمام، والقلعة تجرى على شكل حرف «إل».. كل القواعد التى تعلمتها.. كل التجارب التى خضتها.. كل الأشياء تفقد معناها، وتنمحى الذاكرة.. تصبح بلا حليف أو سند، وبينما يتهاوى عالمك، يطلب منك الألم أن تؤدى واجب ضيافته.. ويردد أمامك معاتبًا حكايات وأمثولات عن العصاة، ونكران الجميل.. فلا نبى فى قومه.
أيها الألم.. بماذا أضايفك؟.. فناجين القهوة تحطمت، الشيكولاتة السوداء نخرها السوس، أيها الألم خبأت أمى الطعام بعيدًا عن حجرتى، أنا أشتاق الطعام لكنه لا يثبت فى معدتى.. أيها الألم ثلاجتى فارغة.. فلن أضايفك بمشروب أو فاكهة وروحى خاوية، فلن أضايفك بحكاية أو مسامرة.. ومتألمة وحائرة.. الأطباء وحدهم يستطيعون التعامل مع الألم، يملك الأطباء حسمًا لا تمتلكه مريضة مثلى، منذ حل الألم فى ضيافتى وأنا أفكر فى العالم الذى اخترع المسكنات، أتخيله عجوزًا تقف بالمكنسة على عتبة بيتها تهش الغرباء والألم.. الأطباء لا يراعون أصول اللياقة ولا يعيرون لهذه الشكليات أى اهتمام.. وصف لى أحدهم لصقة مورفين تركيز ٢٥، وبعد يومين، عاد الألم لا كنذير شؤم، ولكن كرجل جريح خدعته حبيبته.. أخذ يضربنى بعنف وبقسوة وأنا أصرخ لم أفعل شيئًا، لم أفعل شيئًا.. عن أى خديعة تتكلم.. أنا المخدوعة، دعنى لمعركتى الحقيقية، دعنى أتنفس بعضًا من الأكسجين، بعضًا من الطاقة كى أرتب صفوفى وأحارب بها.. جنودى مثخنون بالجراح وقادة الميدان مضطربون.. يحتاجون خطبة حماسية، خطة نابوليونية، دعنى أستدعى «مونتجمرى»، أتمثل ثبات الروس وثقتهم «دعوهم يأتوا لموسكو، موسكو مقبرتهم».. لكن ظل الألم جاثمًا على جسدى، صرخت.. صرخت، تحولت إلى كتلة صراخ.. حضر الطبيب وقيّد الواقعة اغتصابًا كاملًا، وأعطانى لصقة مورفين أخرى تركيز ٥٠.
يا الله، أن يختفى الألم، أن يختفى البعوض، الذئاب، الثعالب، الضباع.. أن تحل الراحة.. السلام.. أن تظهر الملائكة على نافذتى. ضوء أبيض بجناحين.. الرب يرسل علامة أنه موجود، الرب يظهر بعضًا من رحمة.. بعيدًا عن زمن الأنبياء، لن أحكى ما رأيت.. يمكن إن انتشرت الحكاية أن يقول طفل لأمه: ماما لا توجد ملائكة تظهر خلف النوافذ، ساعتها لن أجادل، فربما كان مجرد انعكاس لأضواء مشروع محور الوراق على النيل حيث تطل حجرتى.. أيًا كان ما رأيت، فقد كان ساحرًا.. أيها الليل ليتك تطول، وأبقى فى اللاجاذبية، فى كبسولة عائمة.. عندما تظهر الشمس أحزن، ها هو يوم جديد فى عجزى وقلة حيلتى، لا حول لى ولا قوة، وسط أنقاض خلاياى والرغبة الدائمة فى القىء وسوائلى تحاصرنى، وأغرق فيها، حصونى مهدمة والألم ضيف ثقيل طابت له الإقامة فى خرابى.
تقول الأساطير، يمكنك أن تتخلص من لعنتك، إن قبل أن يحملها عنك شخص آخر.. يا الله، هل يجعلنا الألم نفقد إنسانيتنا؟.. لعله يُحييها.. يحيى أسوأ ما فيها: ثقل الطين وكثافته.. لزُوجَته وعفنه.
يصل لسمعى صوت طبيب: هذه الجميلة النائمة ستكون آخر حالة فى وردية الليلة.
يسألنى ماذا بك يا أميرة؟
ترد الممرضة: تورمت ذراعاها ولا مكان فيها لكانيولا.
يهمس لى الطبيب: لا تخافى.. أيها الطبيب، أنا لا أخاف، أنا أتألم.
يربطنى جيدًا لطاولة الجراحة.. تمسكى جيدًا، أنت خفيفة جدًا، ويمكن أن تسقطى.. يعطينى مخدرًا موضعيًا.. ويفتح ثقبًا فى رقبتى، يضع «كانيولا» وخرطومًا طويلًا فى أحد شرايينى.. ينتهى وقد أصبح لدى ثقب فى رقبتى، أُصبت باللعنة دون أن أحصل على قوة مصاصى الدماء أو خلودهم.. أيها الطبيب.. هل يمكن أن تسحب كل دمى وتقطر منه الألم؟
يربت الجراحُ على جبهتى: يا أميرة، الألم يحب الجميلات.