وهذا الرابض في السرير هو” محروس ” بطل الرواية،الحاضر الغائب طوال هذا النص المرهق ، بعالمه الغرائبي ، وأبطاله الشعبين المسكونين بالطيبة والشر ، والفقر والغني ، والدين والخرافة ، والجنس والرغبة ، واللذة والتوحش ، وكأنك داخل عالم أسطوري ملحمي ، أو كأنك داخل” سيرة بني هلال ” ذاتها ، حتى المعركة التي يبدأ بها (محروس/أو وحيد) أحداث روايته ، تكاد تكون معركة بين( أبو زيد الهلالي) وملك (الزغابة في تونس) ، بنفس إيقاعها السريع ، وتفاصيل العراك الشرس ، من الكر والفر ، والطعن والرمي ، كمبارزة حامية الوطيس ، والتي تنتهي بطيران كف محروس في الهواء ، كما كان يفعل أبو زيد بغرمائه تماماً،عندما يُطيِّر رؤوسهم وأيديهم وآذانهم في الهواء، بحد سيفه البتارفي معاركه الشهيرة.ولكن هذا البطل الذي يظل راقدا على سريره في المستشفي ، تدور كل أحداث الرواية الصاخبة من حوله ، وحوله أيضا ، وكأنه محور الكون ، فهو بطل أسطوري ، حتى وهو في النزع الأخير، بين الحياة والموت ، وقد توقفت الحياة من أجله ، حيث تدور كل أحداث الرواية في تلك المسافة الفاصلة بين الموت والحياة ، وتقف بين الخيال والواقع ، وفي هذا البرزخ الضيق تتألق واقعية وحيد الطويلة السحرية ، والتفكيك الذي يكسِّر العظام ، ويفتت العضلات والمشاعر، هذا التفكيك الذي أعتقد عن يقين أن وحيد الطويلة بذل من الجهد في بنائه على هذا النحو المحكم ، أضعاف الجهد الذي سيبذله القارئ في لملمت أشلاء هذا النص الملتبس في جنسه الأدبي : إن كان نصا حداثيا ، أم نصا موغلا في القدم ، قدم النصوص الشعبية الشفاهية ذاتها ، والتي لها نفس خصائصه من حيث السياق السردي ذو الخيوط المتشابكة والمتشعبة ، فهو يخرج من حكاية ليدخل في الأخرى ، وكأنك داخل حكاية من حكايات ألف ليلة وليلة ، ثم يعود لحكايته الأولي ليخرج منها من جديد ، ليدخل في حكاية ثالثة ، وهكذا يأخذنا ” الطويلة” في تلافيف متاهة روايته الدامية ، وكأن خيوطها الدرامية سعف نخيل مضفر بعناية ، طبقات فوق طبقات ، فما أن يختفي خيط تحت الآخر حتى يعود ليظهر من جديد ، ليخفي تحته خيط ثالث ، وهكذا يمضي النص بين لحمة وسدى ، ولكنك بعد أن تنتهي منه وتبتعد عنه قليلا ، وتتأمله على مهل ، ستكتشف أنه كامل البناء ، كما لو أنه تحفة شعبية أتقنت تضفيرها تلك الأصابع المصرية المرهفة ، التي تصوغ من سعف النخيل أشكالا شعبية رائعة الجمال في صبيحة ( أحد السعف ) وعشية ( سبت النور).ومحروس الذي لا ندرك طوال الرواية هل هو في صحوة الموت،أم غفوة الحياة ، نحته ” الطويلة ” من أبطال التراجيديات الكلاسيكية القديمة ، فهو مثله مثل أي بطل تراجيدي ، يقتله في نهاية الأمر، أو بداية الرواية ، واحد من حثالة البشر ، وليس واحد من النبلاء ، أو عِلية القوم ، أو خصم عنيد من كبار البلد ، يقتله قاتل مأجور، في تحد سافر وغليظ ، إذا يطالبه بأن يقول : ” قول أنا مره .. وأنا مش حطخك يا محروس ” ، وكأنه يريد أن يقتل خوفه أولاً ، قبل أن يقتل محروس ، يريد أن يسقط عنه الهيبة والبطولة والنخوة،التي تميز بها عن كل أبناء الوادي،يريد أن يقتله ذليلا مهاناً . ولكن محروس يظل يصرخ طوال الرواية : “والله ماحسيبك يا عبد المقصود الكلب”.وفي انتظار الموت أو الحياة ، يظل أهل الوادي يحيطون بالجسد المسجي ، يفترشون ساحة المستشفي وما حولها ، فهم : ” كما هم في أماكنهم مزروعين من أول يوم .. أهل الوادي ، كأنما طرحتهم الأرض ، بجلابيبهم الصوف العتيقة ، متلاصقين كتفاً بكتف ، متدافعين جنب بعضهم ، داخل بعضهم ، يتماوجون خفيفاً بحركة واحدة دون قصد ” .. ولو تأملنا هذا المشهد الذي يظل المؤلف يضمره طوال الرواية ، سنجد أن هذه هي اللحظة الفارقة في حياة كل أهل الوادي ، فكل شخوص الرواية منذ أن أصيب محروس ، وطارت يده ، في انتظار المُخَلِصْ ، فهو الحكيم العادل ، والرحيم الشجاع ، والكبير العطوف ، وهو الوحيد الذي لا يُقدِم على عمل بحسابات المكسب والخسارة ، فهو مندفع بفطرة لا تلين في اتجاه العدل ، ومنطلق بلا هوادة لمقاتلة الظلم .. لذلك ألتف الناس من حوله في انتظار عودته للحياة ، أو ذهاب الموت عنه ، ومن هنا بدأ وحيد الطويلة الذي تحول إلي واحد من أبطال الرواية ، وليس راويا لأحداثها ، بدأ يتصيد شخوص روايته الواحد تلو الأخر، ليضع الجميع في لحظة مكاشفة ، أما وأن محروس على وشك الرحيل ، فعلينا جميعا أن نعترف ، ومن هنا بدأ الطويلة يلتقط خيوط الحكايات الشعبية ، بعد أن أقتنص اللحظة الحاسمة ، ووضع أصبعه على نقطة الهجوم.فالدكتور تفضحه يداه المرتعشة بحقنة الهواء :” حرق قلبك السنين اللي فاتت كلها .وأنت حتحرق قلب مين عليه ؟تحرق قلب بلد بحلها،وتبرد نارك منهم ومنه “والقاتل المأجور :” .. أقتل محروس لأنه هو الذي مرغ سمعة عزبتنا في الوحل وسيرتنا على كل لسان لكنه كبير الوادي والمنطقة ، وحياة الناس مربوطة به . لم أقتل إلا الجرابيع والقتلة ، لم أقتل من قبل أحد من السادة ، أول مرة أقتل بدون مقابل “.أما حياة الناس المربوطة بمحروس ، فهي حياة أهل الوادي ، أخوته وزوجاتهم وأبناؤهم ، وكل واحد فيهم حمل دفتره وجلس بجوار محروس ، وكأنه في انتظار لحظة الحساب ، ولكن المؤلف لم يمهلهم حتى تعود الحياة إلي محروس ، أو يذهب إليه الموت ، فراح يفتش في دفاترهم ، وفتح أوراقهم جميعا ، وصدمهم وصدمنا بحقيقتهم أجمعين ، لنكتشف في النهاية أن الأحمر لم يكن أبداً خفيفا ، بل كان داكنا وداميا.فهذا العناني الذي انقطعت عنه الريح يومين ، وأصبح على عتبات اليوم الثالث ، لا يريد أن لأحد أن يرث عنه السر، رغم أن السر سيغادره حتما في اليوم الثالث ، فيبحث بخبث الفلاح اللئيم ، أو الروائي الخبيث ، عن أضعف الحلقات ليورثه السر، فيقع اختياره بعد رحلة البحث والتمحيص ، على محروس الذي أوشك على مغادرة الدنيا ، أو نشأت المنزوي في أطراف القرية ، يطارده عار أمه غزلان ، التي سمع سكان الوادي كله صراخها وهي تتأود تحت وطأة آلة أبو العشم الهائلة .والفناجيلي هائم أو لابد في جلد الأرض ، أمام باب الدار ، يدق الأوتاد ،وينصب الشباك في انتظار ملك الموت ، وملك الموت لا يأتي ، فيمضي حاملا كفنه على كتفه منتظرا قدومه بين لحظة وأخري .أما عبد المقصود لم يقنع بكل ما ورثه عن أبيه من مال ، فقرر أن يستولي على كل شيء عنوةً ، فاشتري كل المناصب ، والذمم والضمائر ، وأفسد في الأرض حتى قرر أن يقطع الماء عن الوادي ، ليكشف ظهر محروس أمام الدنيا ، ليغرقه ومن معه في العطش ، وأصر على أن يجلد المرأة المسكينة وهي عارية تمام ، وهي تصرخ : ” أبويا مات في أرضك ، وجوزي كمان ” ، وعندما تستغيث بمحروس يذهب لنجدتها ، ولكن عبد المقصود يستأجر قاتلا ليتخلص من محروس إلي الأبد .إنها كائنات دموية متوحشة ، أستخلصها الطويلة من بين أنياب زمان لا يرحم ، حتى ناصر ابن شقيق محروس الذي احترق أبوه وأعمامه ، يقلد محروس في كل شيء ، كلما دخلوا عليه وجدوه مرتديا جلباب عمه ، ويقلده في كل شيء ، إلي أن أطلقها محروس أمام الجميع : “ناصر هو راجل الوادي اللي حيصونه من بعدي ” . ولكنه يتحول إلي وحش كاسر ، وظالم عاتي من جبابرة الأرض ، لم يترك أنثي إلا وأتاها عنوة وغصبا ، سرق كل شيء وأي شيء ، حتى فتكت به الناس ومزقته في مشهد آخر من مشاهد الأحمر القاني ، ورموه بجوار جثة الصبي ليشفوا غليل أمه وغليلهم . القاتل والمقتول في نفس واحد ، ونعش واحد ، وبعد أن تلقي جثة الصبي التكريم اللائق بشهم شجاع ، كشهيد للواجب والمروءة ، وتنال جثة القاتل ما تستحقه من تحقير وازدراء ، لا يفوت ” وحيد الطويلة ” المراوغ أن ينتزع اليقين من صدر المعتقد السائد ، وبخبث الروائي المكير يأتي صبي صغير من آخر المشهد لينادي في الجميع : ” والله العظيم اللي دفنتوه الأول ده ناصر مش الواد الغلبان !! ” .حتى غزلان التي ” لا تتغنج قاصدة ، ولكن أشياؤها تنفرط منها في كل اتجاه ” ،والتي شقت جلبابها إلي نصفين ،وصرخت في وجه شيخ الخفر الذي غافلها ومد يده على فتحة صدرها ، قائلة ” ارتحت يا حكومة .. ” ، ذلك الصدر الذي قال أبو العشم عنه جملته التي ظلت ترن في قلبها وقلب الوادي: ” الحليب نشف في بزك من زمان ، لكنه مرعرع في كل مكان” ، حتى هذه الأنثى التي تبدو بريئة مغلوبة على أمرها ، يفتح الكاتب دفاترها أو يفضح مضاجعها ، دون أن يقيم أي اعتبار لمقولة صلاح عبد الصبور الشهيرة في الأميرة تنتظر : ” وغد من يحكي عن مضجعه ” ، وفيما محروس يصارع الموت على حافة الحياة ، تحكي غزلان أو يفضحها الراوي ، فنكتشف أن عشيقها الصياد قد قتل( دياب العُكش ) زوجـها الأول ، الذي أقتنصها ( خلاصة حق ) من أمها المدينة له ببعض الأموال ، ودفنته في غرفتها تحت السرير ، ” وناما معا فوق قبره ليلتها وباقي الليالي ” . إنه عالم متوحش ، ونار جنس متقدة في أجساد ينشب فيها الشبق أظافره بقسوة .أما ريفو أو عزت حركات ، فهو لم ينجو من تسجيل اعترافاته كاملةً ، أمام وحيد الطويلة ، في جلسة تاريخية ، على إحدى المقاهي ، العامرة بعازفي الربابة ورواة السير الشعبية ، في سياق الروايات المتواترة في القرية المصرية عمن عاقروا معاشرة المعيز والكلاب والحمير، فهو عاشق المؤخرات والممرضات وزوجته والحمير، يروي حكايته على حواف سرير محروس الذي ينادي بين الحين والحين : ” هو ريفو ما جاش يا ولاد ؟ ” .وحين تأتي لحظة المكاشفة والتطهر لعزيزة العمشة ، يستعير الكاتب صوتها ، ليعلن عن الشاعر المختبئ بداخله ، خلف سردية روايته الدامية ، فيُضَّمنْ مواويل العديد حنينه إلي الشعر،…. وتعض هي شفتها السفلى وتغمز لفرج ، الذي سألها إن كانت هنية سخنة أم لا ؟ ، لتقول له : ” ما أعرفش ، لكن اللي أنا متأكدة منه خالص إن أنا سخنة … وملهلبة ” .لم يتبقي لمحروس سوى ابنته وأيقونته وحجاب محبته ” أنصاف ” التي تربض عند قدميه اللتين تعبران حافة السرير، فبعد أن احترق أخوته الثلاثة وتركوا ثلاثة أولاد ، ريفو ، والفناجيلي ، وناصر ، وأبو الليل يشلح هدومه ، ويرقص عارياً وضحكته تشق السماء ” أربع نسوان ، وأنا مش لاقي واحدة ” .. لم يتبقى لمحروس غير أنصاف لتصرخ : ” .. خد روحي وقوم بقي ، قوم كفاية كده .. قم لدارك .. قم فارساً أو مت كما أنت فارساً .. انتفض واخرج .. !!وسط كل هذا الانتظار الطويل ، يقطع وحيد الطويلة المسافات الممتدة من عزبة إسرائيل ، إلي وادي جلانطة ، منتظرا مع المنتظرين فارسهم النبيل ــ محروس ــ عله يصحو ، أو يهب من رقدته التي طالت .. ومحروس الصامت ، صمت الموت يملأ الدنيا ضجيجاً صاخباً ، وحوله يتهافت الجميع ، تصحو مواجعهم ، يبوحون من فرط الألم ، بمكنون أسرارهم ، لو ألمَّ بمحروس مكروه ماذا يفعلون ؟؟ ، وناصر يمرق في السماء ، وأبوالليل بصوت عالٍ يصيح : ” … طول ما محروس عايش ، كل واحد يقدر يحلم على كيفه ” …. والجميع تسمروا في أماكنهم ، والنعش لم يكن أمام المستشفي ، والملائكة تفرقت ….
فتذكرت على الفور، وأنا أطوي الصفحة الأخيرة من هذه الرواية المدهشة ، المقطع الأخير من قصيدة شاعرنا الكبير عبد الرحمن الأبنودي الرائعة ” صمت الجرس ” ، الذي يشبه إلي حد كبير صمت محروس ، إذ يقول الأبنودي :
يا صاحب الوجه الجميل أنت مازلت هناك يا وخزة الأشواق وأنا حملت الحمل لك جيت لك ، وبأقل القليل اللي فضل من ريح وفصل جفاف طويل أمتى تهب من الرقاد على النجيل تنفض غبار الأرض وتعتلي الفرس زمان بيطرح في خطوط كف البخيل وأنت ما دقيت الجرس ولا دست بحوافر حصانك ع الحرس ولا ندهت على العباد ولا خلعت الأرض في هدير النزول…. لسه ما طابلكش رنين الآه***
ويبدو أن محروس لم يستعذب بعد رنين آهات أهل الوادي ، ولم تطربه كل هذه الآلام ، وكل هذه الدماء الحمراء الداكنة ، التي أراقها وحيد الطويلة على جنبات سريره .