حاوره: عزمى عبد الوهاب
عاصر “الطويلة” بدايات اشتعال بركان الغضب التونسي، وهو أول من أذاع نبأ هروب “بن علي” من تونس من خلال اتصال مع إحدى الفضائيات العربية.
أصدر مجموعتين قصصيتين هما: “كما يليق برجل قصير” و”خلف النهاية بقليل” وروايتين هما “ألعاب الهوى” و”أحمر خفيف” ويستعد لإصدار روايته الجديدة “باب الليل” وتدور أحداثها حول التغريبة الفلسطينية في تونس، حيث قضى هناك أغلب سنوات عمره. وكن لــ”إرم” معه هذا اللقاء.
ما علاقتك باللغة كما تتجلى في إبداعك؟
أزعم أنني أحاول أن أكتب كل عمل بلغة جديدة، لغة تستلهم طقساً جديداً وعالماً آخر، ويجب أن تكون الأغنية جديدة تماماً، دون جملة لحنية قديمة، مهما كانت براعتها، هل أهذي! ربما، فالهذيان ضروري لخلق لغة جديدة.
ما الأثر الذي تركه فيك الشيخ مصطفى إسماعيل حتى تتحدث عنه دائما بشغف كبير؟
إنه رجل لم يكن يقرأ جيداً في حالة عدم وجود مستمعين، ما من قراءة جيدة له وهو يقرأ في استوديو أو تسجيل إلا نادراً، لكنه مبدع لا يستجيب لطلبات المستمعين في الوقت عينه، ثم إنني كاتب طقوس، لا أكتب إطلاقاً في الحر الشديد ولا نصف الشديد، وأكتب فقط في المقهى، وسماع الشيخ مصطفى إسماعيل أحد طقوس الكتابة لدي.
كيف جاءت الكتابة؟
جاءت متأخرة، كأنني كنت أحتشد لسنوات، أو أتصور أنني يجب أن أقرأ كل الكتب قبل أن أكتب، كنت أنفق وقتاً طويلاً في الكتابة بالكلام، قلت لأحدهم إنني أتصور أنني أضيع كتابتي في الكلام ولولا ذلك لكتبت، قال لي: لا، لكنه لم يحبطني أكثر من خمس دقائق، كنت أثق في أنني كاتب، وما علي فقط سوى أن أبدأ بالغناء، وفي لحظة – بدت كأنها لحظة الكشف- طاردتني القصة وضغطت فكتبتها، وبدأت الرحلة.
لماذا تأخذ الكتابة حيزاً ضيقاً ضمن نشاطاتك اليومية؟
نعم تأخذ الكتابة حيزاً ضيقاً من نشاطي اليومي، أصابتني لعنة الأخ الأكبر وسط عقيدة عامة وإيمان كامل بأن العناية الإلهية انتدبتني لهذا الأمر الجلل، ثم إنني انتقلت بين وظائف كثيرة لسد رمق أحلام العائلة، لكنني كنت أمارس الكتابة بما هي فعل قراءة وسماع والإنصات للتجارب الإنسانية في كل وقت.
نحن في العالم العربي أسرى لقمة العيش والجهل بقيمة الكاتب والكتابة، وأصبح علينا أن نقاوم المنظومة التي تحارب الكتابة، نقاومها بالكتابة نفسها، في لحظة ما كنت أكتب فيها قصصي القصيرة وأغنيها أحفظها وأقرأها دون عناء كبير.
ألا تزعجك فكرة قلة نصوصك المكتوبة؟
برأيي فإن نصا واحداً لــ”جون كويتزي” يبقى خالداً ومؤثراً وكبيراً، فحكاية الكم ربما ناسبت كاتباً كبيراً مثل نجيب محفوظ، ويبقي الكم أحياناً دلالة سلبية إن كان قليلاً، وإن كنت لا أظنه كذلك، تبقى أسئلة الكاتب المتعلقة بالمصير الإنساني هي غايته التي لا يجب أن يصل إلى نهايتها طالما يتنفس.
وصفك أحد الأصدقاء مداعباً بـ “رئيس رابطة المقاهي العربية ” لماذا ترتبط بالمقهى إلى هذه الدرجة؟
أنت تسألني عن نصف حياتي تقريبا، لا أكتب حرفاً واحداً خارج مقهى، لم يحدث أن كتبت قصة في البيت أو في مكتب، ربما فقط أصحو ليلاً من عز النوم لأكتب جملة أو كلمة أو عنوان حكاية مرت في منامي، أحد النقاد قال عن رواية “أحمر خفيف” أنه من المستحيل أن تكتب رواية كهذه في مقهى، الرواية تحتاج لاحتشاد وطقس ومكان مغلق في الغالب، أحياناً أتساءل بيني وبين نفسي، ألا أحتاج لتغيير المكان والطقس بكامله؟ فالفنان عدو الرتابة و التعوّد، لكنني لا أكاد أجد إجابة، أترك شياطين الكتابة على طاولتي في مقهى، وعندما أعود أجدها، بعضها غاضب لغيبتي، وبعضها يتقافز من الفرح لعودتي.
كيف انعكس هذا على إبداعك؟
ذكرياتي مع المقاهي تحتاج كتاباً، روايتي القادمة تحت الطبع كلها عن المقهى، حيطانه ذكرياته عن نفسه، صورته التي تملأ عينه، شخوصه، قصص الغرام العابر والمقيم، الحياة عبر تفاصيل المقهى، السيدة التي كنت أكتب في مقهاها، ولا توجد طاولة فارغة في مقهاها المكتظ، كانت تقول للعمال عندها : ضعوا قارورة ماء على الطاولة، أتى أم لم يأتِ، أنا واثقة أنه سيأتي، لعلها كانت تفكر أنني واقع في غرامهما معا، هي والكتابة.
هل تحب هذا اللقب “رئيس رابطة المقاهي العربية”؟
لا أحب هذا اللقب ولا أنام للتقدير الذي يشي به، كلمة رئيس منعشة للروح أكثر ويمكن للواحد أن يفعل ما يشاء حتى لو جاء بأغلبية بسيطة، هي بالطبع إحدى طرق المقاومة في عالمنا العربي والكوميديا السوداء، حيث لا رئيس يريد أن يترك موقعه مهما حدث.
عايشت الثورتين المصرية والتونسية عن قرب هل توقعت أن تنتقل الحالة التونسية إلى مصر؟
أنا من أخرج الجملة الأولى على الهواء بخروج “بن علي” من تونس، تحدثت لنصف ساعة متواصلة، بحماس لا يمكن وصفه، اللحظة الأولى لخلع ديكتاتور عربي، لحظة درامية بحق، لا يمكن التفكير في شيء آخر خارجها، لكنني لم أنسَ لحظتها أن أندد بنظامي الحكم في مصر وسوريا.
في تونس كانوا يسألونني عندما يرون مظاهرات كفاية والوقفات الأخيرة ضد نظام الحكم: متى تقوم الثورة في مصر؟ كانوا ينتظرون أن تحدث عندنا أولاً، لم تحدث مقاومة كبيرة في تونس إلا في مناسبتين واجههما الحكم بكل بشاعة وقمع ،هذا يفسر لك ما قاله ذات يوم المنصف المرزوقي أثناء الانتخابات الرئاسية المصرية: بأن نتيجة الانتخابات في مصر ستؤثر على العالم العربي، وللأسف الشديد ذهبت في أسوأ اتجاه يمكن أن تذهب إليه ، وصول الإسلاميين إلى الحكم عطل الديمقراطية لوقت بعيد.
بعيداً عن المقالات كيف تستحضر الثورة في أعمالك؟
الثورة ليست فقط ضد نظام الحكم، الثورة ضد الجهل، الثورة مع خلق الجمال والحب، مع عالم أكثر أحلاماً وأقل كوابيساً، مع العدالة والغناء، الثورة من أجل أن نعرف كيف نحب امرأة، ربما تحمل روايتي القادمة “باب الليل” التي كتبتها في أجواء تونس، رائحة الثورة.
هل تابع النقد تجربتك بشكل يرضيك؟
نعم بشكل رائع، المشكلة أحياناً ليست في النقد فقط مع اعترافنا بتأخره عن الإبداع بسنوات، لكن المشكلة في حالة الشلل الثقافية والجوائز المضروبة، والنقص الفادح في الإحساس بتقدير معنى وجود الكتابة والفن عموما،ً في حياة البشر وانعكاساتها الإيجابية على العالم بكل مفرداته.
في رأيك : ما المتطلبات الأساسية التي يحتاجها الكاتب ليحتفظ بدهشة القارئ أطول وقت ممكن؟
أن تكون صادقاً، هذه هي وصفة الفن الحقيقية، كامل الشناوي كان يقول: عبد الحليم حافظ يكذب عندما يتكلم، يصدق عندما يغني.
هل ترى أن الثورات العربية أضافت إلى الكاتب؟
الفنان ثائر دوماً لصالح الجمال.