صالح الرزوق
أصدرت دار فالتر غرايتر في برلين كتابا مشتركا هاما عن ثقافة وتاريخ الأبيض المتوسط بعنوان “بحر أدبي: نحو نظرية في الأدب المتوسطي”، أعده وقدم له كل من أنجيلا فابريس وألبرت غوشل وشتيفان شنايدر. تبدأ المقدمة من فرناند بروديل وأطروحته عن المتوسط. ويمكن إيجازها بثلاث نقاط.
1- توجيه الجغرافيا والمناخ للأحداث. وسيطرة ثقافة الذكور باعتبار أن عباب البحر والمرتفعات المحيطة به تحتاج لرجال أشداء لا يحسبون حساب المخاطر والمجهول.
2- عقد صفقات الزواج بين العوائل الحاكمة في الشمال لتقريب وجهات النظر، وإهمال الجنوب وإفقاره، وتركه نهبا للتناحر بين المذاهب والأديان.
3- استحالة عزل المتوسط عن ما يحصل خارجه ص1.
تتوزع بقية المحاور على أربع نقاط هي: دور الخيال، والذاكرة والسرد والمصالح.
يبدأ النقاش من ملاحظة فابريس وفريقها وجود جدل مستمر بين “البحر الحقيقي والبحر الاستعاري” ص10. وهو ما يجعل المتوسط، برأي كريستينا بينوشي، مجموعة ثقافات وليس ثقافة واحدة. ولذلك كانت هويته نتيجة عدة نشاطات غير شرعية منها اللصوصية والقرصنة، يضاف لها التجارة والحج والحروب والاستجمام والأعياد ومسابقات الرياضة ص19. وكل ذلك مدون في مذكرات ورسائل السياسيين والمغامرين، وبأساليب تناوبت عليها الأساطير والقصص الرومنسية ثم الرمزية، قبل العودة إلى الأسطورة.
وعلى هذا الأساس تعتقد سارة إيزو أن المتوسط نتاج لــ”تراكمات” ص33 يتداخل فيها ويتوزع الهم الوطني والثقافي، إلى أن نصل إلى لحظة تشكل ما تسميه “أنشوطة الذاكرة memory knot” ص33. فالمتوسط ليس مسطحا مائيا ينتج ذاكرته، ولكنه آلية كتابة وإعادة كتابة ص34- وهو خزان معلومات وخبرات من الدرجة الثانية، أو “دومين domain” ص35. وحتى إذا كنا لا نراه بالعين المجردة، هو حاضر في تيار ذكرياتنا المحمولة في خزان المعلومات التراكمي والفردي. بتعبير آخر قد يغيب البحر عن نظرنا لكنه يبقى محمولا في أحاسيسنا ص35. ولا يمكننا إنكار أن الثقافة المتوسطية يجرها محرك إمبريالي واستعماري، وهو الذي يحدد المعنى الوطني للمكان ص35.
ويأخذ بيير نورا على هذا المفهوم تناسيه: 1- النزاع بين شعوب المنطقة والاحتلال، الأمر الذي يضعنا أمام عدة ذواكر. 2- والفوبيا الغربية من الشرق والتي تطورت إلى صراع بين المجتمع والأقليات الوافدة.
ولذلك اعتمدت الرواية المتوسطية، والكلام الآن لشاركيليا ماجدلاني كيفاليدو، على ثلاثة أشكال هي: السيرة الذاتية والخيال التاريخي والمدونات. وتعزو لآخر عنصر دورا انتقائيا يعيد ترتيب الواقع (كما هو حال رواية “وداعا أيها الأناضول” لليونانية ديدو سوتيريو ص 49). ومع أنها عن النصف الشرقي من حوض المتوسط لم تتبع تقاليد السرد الشرقي، واعتمدت على أساليب الرواية الغربية الحديثة ص46. وحولت الصراع بين الأجيال إلى صراع بين بحرين، إيجة ويمثل الأتراك، والمتوسط ويمثل اليونان. وتعتبر سوتيريو أول من أسس لجبهة مائية لها هوية وفضاء وذاكرة ص55. وهي إما أنها فعالة أو خزان للذكريات ص36. والأولى، برأي أليدا أسمان، انتقائية تحرص على إحياء المعنى الوطني، والثانية مجرد تغليف لتراكم المعلومات ص36. وتسمي إليزابيث ستادلينغر الطرفين “الحقيقة الواقعية والحقيقة الخيالية”. والفرق بينهما يحدده طريقة الوعي بالجمالي والشعري ص66. وبحسب هذا المعنى يتحول المتوسط إلى شيء ذاتي. فالتصورات تعود بالنهاية لطبيعة الإدراك ولتراكم المعارف. غير أن أدريان غريما يعزو لهذا الاتجاه إنتاج عدة بحور لها اسم واحد ص98. مثلما فعل الاستشراق. فقد ساهم بالترويج لمتوسط طبيعي وآخر أدبي هو ثمرة من ثمرات الخيال. حتى أصبح، بتعبير دانييل كريغ، قارة مائية اسمها الأبيض المتوسط ص124. وقد مرت هذه القارة بمرحلتين. الأولى التأثير المتبادل بين الثقافتين اللاتينية والعربية من خلال النص الديني. والثانية استعمار العقل اللاتيني للعرب ثم فرض معاييرهم ص125. ومع أن هذا الكلام صحيح، فالمبادرة كانت للمؤثرات الروحية، وتبعها التأثير العسكري والسياسي. لذلك ينقسم حوض المتوسط إلى نصف هيليني وإغريقي وهو المسؤول عن نشر الرسالة المتوسطية حتى الصين وإيران والهند. ونصف لاتيني مختلط أو تتخلله شوائب جرمانية. ولهذا السبب لا يوجد وجه لاتيني نقي للمتوسط. وتضيف شارون كينوشيتا لما سبق الفرق الملحوظ بين روح البحارة في الشمال وتمسكهم بالمكاسب الدنيوية في المياه الدافئة. فبحارة روبرت ستيفنسون كانوا يبحثون عن معنى مفقود وحكمة مدفونة تحت الأرض – أحد أشكالها المجازية الكنز والمحبوبة. أما البحارة في حوض المتوسط فقد كانوا يذرعون سطح الماء بين ثلاث علامات، ساحل الأناضول (التاريخ والعدو)، وصقلية (نقطة التوازن وبداية تشكيل المعنى والهوية)، ثم البر اللاتيني (مهد الأم). وكان يحدو هذا الترحال الأغراض التجارية ونقل العبيد ص175. ولذلك تلاقى الأدب القروسطي مع التاريخ القروسطي لإنتاج نص ساعد في تشكيل ذاكرة حملتها شخصيات مجردة من خيال العمل الثقافي، وفي مقدمتها “ديكاميرون” بوكاتشيو. وهي أساسا سلسلة من الحكايات التي تدور 20 حكاية منها في مياه المتوسط. وكما يقول روبيرتو موروسيني إن الثقافة المتوسطية أنتجت فقهها اللغوي ص196. بمعنى أنها أضافت إلى اللسان اللاتيني استعمالات استعارتها من حياة البحارة.
وهذه الاستعمالات لم تغنِ القاموس اللاتيني مباشرة ولكن وسعت تراكيبه. وكان البحارة يتعاملون مع الماء بالطريقة التي يتعامل بها الصياد مع الغابة. وهذا أول تمهيد لحداثة قروسطية إصلاحية فتحت عيون الأدباء على أهمية الجغرافيا وقراءة العلامات التي تكتبها الطبيعة ص199. وساعدت بالتالي على تنشيط صورة تراكمية لعالم نوعي وواقعي. ويضرب موروسيني مثالا على ذلك بصورة القارب، ويرى أنه رمز لحركة جامدة ص201. فالقارب يمشي والبحارة جالسون على متنه لأن الزمن يتقدم في فضاء مقيد ص202. ويأخذ ألبيرت غوشل هذه الفكرة ويطورها إلى معنى منطقة تماس contact zone. وهي بالتعريف شكل جديد من أشكال يوتوبيا بعد مناطقية (عابرة للحدود الإقليمية البحرية التي تحددها المعاهدات بين الدول) ص283. وأقدم صياغة أدبية لها هي رواية “كتاب العمارة” للإيطالي فيلاريتي والتي أنتهى منها عام 1460 في أعقاب دخول العثمانيين لإسطنبول. وهي تصورات عن “متوسط دون حدود” مكتوبة باللغة المحكية. وتدور أحداثها حول التنقيب عن بقايا مدينة مضادة. وبلغة أوضح أطلال مدينة بيزنطية ذات طابع استشراقي يشبه نمط العمارة في شرق المتوسط ص283. وأهم ما يلاحظ عليها أنها بشرت بمفهوم الهجونة، أو بتعبير غوشل حضور المدينة وغموض الحدود ص284. وإذا تجاوزنا البعد الحضاري واليوتوبيا السياسية المرافقة (مجتمعات ما بعد الدولة) يبقى أمامنا النوايا التوسعية الطامحة لابتلاع الكيانات السياسية الأضعف. ولا يغيب عن ذهن أحد أن لكل دولة إمبريالية أسطورتها الخاصة. وهذا لا يمنع وجود تناحر بين هويتين، شرق أوسطية ركبت موجتها حركات التحرر العربية، ومتوسطية تبنتها حركات ثقافية لها كيان نصف سياسي. ومهما حاولنا المقارنة بين الحركتين لن نصل لخاتمة واضحة لأن السياسة مثل الثقافة لا تزال في الشرق تبحث عن وجهها الحقيقي. وحتى الثورات التي طال انتظارها لم تفعل شيئا، واكتفت بعملية إعادة انتشار وتبادل في المواضع. وفي هذا النزال الدامي بين الفرقاء طرأ تبديل على الخطاب ولم يبذل أحد أي جهد لترجمته على أرض الواقع. وبقي شرط الحرية غائبا واستمرت استراتيجية القسر والإملاءات. وأكثر ما يخيف في هذا المضمار رسم خط أحمر يقسم المتوسط إلى 4 فضاءات.
1- شرق أوسطي يقف تحت مظلته مجموعة من الديمقراطيات الدكتاتورية (ويدخل فيها حتما إسرائيل، انظر كتابات مايا ويند وبن وايت وريبيكا غولد عن عسكرة المجتمع المدني وتحويل الحياة السياسية إلى مجتمع تديره المخابرات والميليشيات – وانظر رواية “لا توجد ألعاب نارية” لروج غلاس، وهي عن تمكين الدين وتحوله إلى جبهة مواجهة وليس لدواء نافع يوقف النزيف العرقي). وأفتح هنا قوسا آخر وأضيف: إن الوجه المتوسطي لأرض الميعاد حكر على الأحياء الشرقية التي تحمل عبقرية ودهاء المعماري البيزنطي – وريث الإغريق بالثقافة والمهارة وقوة الشكيمة، ومعها البيارات والبساتين – الفولكلور الاجتماعي لفلسطين. ومهما بلغت درجة الاختلاف على الحق بالأرض نحن رهن الواقع الملموس. فالمتوسط فكرة أو إيديولوجيا تحت
الاحتلال وفي زنزانة دولية يدعمها الغرب.
2- متوسطي مهدد بأزمات اقتصادية بلغت درجة الانهيار. ويعزى له سبب تفقير الاتحاد الأوروبي وخفض متوسط دخله.
3- متوسطي لديه طموحات بالتوسع تدعمها قوة مصادره الاقتصادية. ويعبر عن نفسه بخطاب استعماري يرافقه عدة أشكال من الفوبيا كالروسوفوبيا والإسلاموفوبيا، ناهيك عن عقدة التعالي على العرب والعرق الأسود.
4- وأخيرا الأراضي العائمة والضائعة والتي تعاني من قلق على المصير ويتخللها عدم وضوح بالانتماء والهوية، ومنها صقلية ومالطا وكورسيكا وقبرص. وتمر الأخيرة بالمصير المؤلم الذي قسم بيروت بعد عام 1975 إلى شرقية وغربية، مثلما قسم حلب بعد عام 2012 إلى مدينتين، قديمة وجديدة.
وعليه نعتبر أن المتوسط مكان غير موجود وسردي ويمثل أطروحة راديكالية مضادة للواقع المعاش (وهذا بالضبط تعريف اليوتوبيا كما يرى غوشل ص285).
والمتوسط بالنتيجة جغرافيا ثابتة ومجتمعات متحركة ص299. وكما تقول صوفيا شانك هو شبيه بلحظة “منتصف الظهيرة”، مجرد نقطة انعطاف في حركة دوران الأرض حول الشمس. وتتابع هذا المنطق في أعمال ثلاثة كتاب فرنسيين هم بول أرين وألبير كامو ولويس براكير ص300. حيث يمكن ملاحظة أن شمال إفريقيا حدود ثانية لجنوب أوروبا. وأن المتوسط يدين بكل شيء لعرق واحد يتكلم بألسن متعددة. والطفرة غير العرقية التي شهدها خطاب جنوب فرنسا في العشرينات بعد نهاية أول حرب عالمية كانت موجهة لسوق السياسة الداخلية، ولم تكن مشروعا لتحرير شمال إفريقيا أو لدعم تحريره وكانت على الأرجح دعوة لتبديل سياسي في أوروبا وليس في المستعمرات، أو أنها انقلاب للبورجوازية المدنية على البورجوازية العسكرية. ويأتي في هذا السياق تفسير شارلز ساباتوس وفريقه لكتاب أحمد فارس الشدياق “الساق على الساق”. فقد كان سيرة ذاتية لكاتبه ص335 وإعادة صياغة عربية للعقل اللاتيني. وليس سرا أن مشروع التنوير العربي يختلف مع مشروع الإصلاح الإسلامي، وإن تقاطع معه بالدعوة لوقف الفساد والانحطاط المستشري بالعثمانيين.
بقيت لي عدة ملاحظات.
أولا أنه رغم كفاءة المشاركين، لم يعطوا الظاهرة الأدبية حقها، واكتفوا بالوجه التاريخي لثقافة الشمال.
ثانيا عدم وجود اختلافات حقيقية بين هجرات شعوب المتوسط وبقية الهجرات. وإذا وجدت تعود أصلا للحضارات الميتة التي ازدهرت قبل عصر التدوين. ولو سلمنا جدلا بوجود هوية متوسطية فماذا بقي منها. حتى الحضارة اليهودية المكتوبة اليوم ليست هي ذاتها التي كانت قائمة في 605 ق.م . ولا يخلو تخطيط
المدن والمعابد على ساحل المتوسط الشرقي من تأثير التفكير الكلداني. وتذكر المراجع أن قصة الخليقة والطوفان في التوراة مستعارة من ظروف السبي البابلي الأول. ويضاف لها كل ما ورد عن الصدقة الزراعية وكتاب المزامير للنبي داود (انظر: رشا علي عبد الله الشهراني، منشورات جامعة القصيم. وأحمد داود، منشورات دار المستقبل). ويكفي أن نعلم أن عزرا الكاهن (المعروف باسم إسدارس) كان موظفا في الدولة الفارسية، وهو أول من دون التوراة في طريق عودته إلى القدس باللغتين الآرامية والعبرية، في وقت يتراوح بين 440-480 ق.م.، أي بعد حوالي ألف عام من ظهور النبي موسى.
ثالثا وهو الأهم. لا يوجد وجه ثابت لشعوب المتوسط، وهم بالأساس نتاج لمخاض بعد متوسطي. ومع أن الجيوبوليتيكا المستقرة تبلغ 75 بالمائة من مساحة سواحل المتوسط لم تتمكن التقاليد المتناحرة من منع انهيار ما تبقى، ووصل ذلك لدرجة غسل الذاكرة الحضارية وزراعة غيرها. وأوضح مثال التبديل بين العثمانية الكلاسيكية والقومية الطورانية ثم العودة للعثمانية الجديدة. وتأثرت بهذا الحراك ثقافة دول الجوار سواء القوية كشرق أوروبا (انظر رواية “دروز بلغراد” لربيع جابر) أو الأضعف كسوريا (انظر رواية “بقايا صور” لحنا مينة).
رابعا. أهم الاكتشافات المتوسطية استعمارية، وقام بها مستشرقون. ولا شك أننا نقدر جهدهم المضني، ولكننا نشكك بدوافعه وميوله. فتصنيع وتزوير التاريخ ليس شيئا مستحيلا حتى لو أنه غير متعمد. فالانحياز حول التاريخ إلى تابع لعالم ألف ليلة، وأبعده كثيرا عن بنية وأسلوب أدب الرحلات “رحلة ابن فضلان” مثلا. ويوجد فرق بين تخيل التاريخ وبين ملء فراغات صغيرة بالخيال الموضوعي. ولا يمكن أن تقارن شهرة غرناطة وإشبيلية بشهرة قرطاج (مع أنها بتعبير إيزو “عقدة متوسطية” وهدف لنوع آخر من الحملات الصليبية). وهذه نقطة خلاف آخر. فنحن نتكلم عن غزو الصليبيين لعكا وبيت المقدس وننسى غزوهم لقرطاج. وربما وراء ذلك سبب ديني وقومي بعد قيام دولة إسرائيل. يضاف له أن إسبانيا دولة ديمقراطية وسياحية، وتعرف كيف تستثمر مواردها، بينما تونس الحديثة تعاني من اختناقات داخلية، علاوة على حصار أوروبا لكل ما هو عربي ووطني. ولا شك أن رحلات جياكيمو دي مارتينو التي نشرت عام 1907 وتناول بها تاريخ طرابلس الغرب هي جزء من هذه الحملة، وتمهيد لإقامة بانوراما الشرق الكبير بإدارة أوروبية. وكما تعترف إيزو لا تخلو كتابات هؤلاء الرحالة من إعادة مأسسة الماضي وكتابة ذاكرة رسمية له ص41. وحتى الأعمى يلاحظ أنها مختلفة لحد كبير عن رواية الذاكرة الشعبية. ومن جراء هذه السياسة قفزت قرطاج من ماضيها الروماني إلى ماضيها المسيحي وكأنها لم تعرف في تاريخها غير لحظتين، الإلحاد والتوحيد المسيحي. وكل ما فعله الاستشراق، والكلام لإيزو أيضا، هو إحياء قرطاج المسيحية ص41. والتاريخ النفسي للدين غير التفسير الحضاري للعقل، ودرب آلام المسيح البري ليس هو بالضبط طريق السفن البحرية. وباعتبار أن الفاتيكان في إيطاليا فقد كان يهم الإيطاليين إعادة الاعتبار لماضي إفريقيا المسيحي مع التعمية على كل ما تبقى. وبرأي إيزو كذلك ألغى الاستشراق هوية طرابلس، وحولها إلى جيب مهاجر من إيطاليا لشمال أفريقيا أو إلى امتداد لشريط إيطاليا الساحلي ص41. وهكذا ربحت قرطاج هوية إيطالية متوسطية مقابل هدم وتغييب ذاكرتها المجازية. وأتى انتصار الرومان في الحروب البونيقية على القرطاجيين ليثبت تلك الصورة ص42. وتؤكد إيزو أن تونس اليوم ضائعة بين هويتها الشرقية وصورتها الاستشراقية ص43. وتسمي ذلك بكتابة وإعادة كتابة قرطاج ص44. وكأنها تريد أن تؤكد أن الهوية المتوسطية في الوقت الحالي مفهوم صنعته المثاقفة وليس الوقائع – أو الحقيقة.
خامسا وأخيرا. رغم أن الشواطئ العربية تشكل أكثر من نصف سواحل المتوسط، وكانت هدفا لنزاع متواصل بين أقطاب عصر الحداثة، لم ألاحظ وجود مشاركة عربية واحدة في فصول الكتاب. وهذا الغياب غير المبرر يشمل قائمة المراجع والبحوث. وأعتقد أنه يجدر بنا الاستماع ولو لوجهة نظر عربية واحدة. علما أن الأعمال الحديثة التي تدور رحى أحداثها في مياه المتوسط وعلى سواحله هي الأوفر حظا بالتمثيلات المتوسطية إن لم نقل إنها الأقرب لروح حضارته. ويبدأ الاهتمام العربي من “شرق المتوسط” لعبد الرحمن منيف، حتى الإسكندرية (وتوجد قائمة لامتناهية من الأعمال التي تتراوح بين القراءة الحضارية والتاريخية والاجتماعية للمكان وسكانه). عدا عن روايات صراع الشرق والغرب ومنها “البيت الأندلسي” للأعرج واسيني وقصص عبد السلام العجيلي الموزعة في عدد من كتبه وأهمها “قناديل إشبيلية”. بالإضافة إلى أعمال أمين معلوف وحليم بركات (أحد أهم رموز الفكر المتوسطي بنسخته السورية). وربما كان أحدث هذه النماذج “جرما الترجمان” للسعودي محمد حسن علوان. غير أن استنزاف العناوين والأسماء لا يكفي. ولذلك وللتوضيح أنوه بالمضمون الروحي لها. ولولاها لمات المتوسط تحت أقنعة مستعارة وسياسة استشراقية تهدف لترميم الإيديولوجيا التي بشرت بها. فقد كان تعامل الغرب مع المتوسط العربي لا يخلو من التكبر والتسلط أو أقله روح الأبوة، كما فعل مع نظام جنوب إفريقيا، حيث لعب لعبة مزدوجة، فدعم نظام الفصل العنصري وخدر الغالبية السوداء بكنيسة رجل أبيض (اقرأ عن ذلك شهادة هيلاري مانتيل في روايتها المهجرية الهامة: “تبدل في المناخ”).
………………
*Sea of Literature, Towards a Theory of Mediterranean Literature. (Ed.) Angela Fabris, Albert Goschl, Steffen Schneider.edit. 413 p.