حاوره: محمد حسني عليوة
هوشنك أوسي، المولود ببلدة الدرباسية- الحسكة، شمال شرق سوريا: من الذين لا تغادرهم ابتسامة صافية، تنطبع بملامح جدّ فائرة بالحياة، بما يملكه من شخصية تنزع إلى الثورة والغضب والتحرر والتمرد. الشاعر والروائي المغرد في جغرافيا الأوطان المكتسبة، التي تترك له فسحة البحث عن ذاته الإبداعية بطريقته الخاصة، وتدفع له الهواء النقي، هواء الحرية، ليسعى، بما يُقدر له من وسائل، في منح أسرته شرعية الوجود وحتمية البقاء، كذلك في نيل مكتسبات الحياة من كرامة وإنسانية.
هو متخصص في الشؤون الكرديّة والتركيّة. نشرت له صحف عربيّة عديدة، منها: الحياة، الشرق الأوسط، القدس العربي، العرب اللندنيّة، النشرة العربية لصحيفة “لموند ديبلوماتيك” الفرنسيّة… ومواقع الكترونيّة عربيّة وكرديّة عديدة.
شارك في العديد من النشاطات والملتقيات والمهرجانات الأدبيّة والثقافيّة. له حتى الآن سبع مجموعات شعريّة مطبوعة باللغة العربيّة والكرديّة. بالإضافة إلى صدور روايتين:
“وطأة اليقين: محنة السؤال وشهوة الخيال” / دار سؤال / بيروت – 2016، و”حفلة أوهام مفتوحة” – دار سؤال – بيروت 2018
تم تكريمه في مهرجان كلاويج في كردستان العراق سنة 2013، ومن قِبل رابطة الصحافيين والكتّاب الكرد في سورية. يقيم حالياً في بلجيكا – مدينة اوستند.
على هامش ملتقى القاهرة السابع للإبداع الروائي المنعقد في ابريل 2019، التقيناه وكان لنا معه هذا الحوار..
– *1*
التجربة الروائية في مشوارك الإبداعي، لم تخاصم بها قطار الشعر سوي في عربتين وحيدتين، إحداهما: “وطأة اليقين.. محنة السؤال وشهوة الخيال” الصادرة عن دار سؤال/ بيروت2016، والتي تحكي تفاصيل الثورة السورية منذ انطلاقها حتى 2013. والثانية هي: “حفلة أوهام مفتوحة”، الصادرة -أيضًا- عن دار سؤال/ بيروت2018.
تجربتان روائيتان قويتان من بين 8 مجموعات شعريّة مطبوعة باللغة العربيّة والكرديّة، ابتداءً بـ” ارتجالات الأزرق”2004، وانتهاءً بـ “كمائن قاطع طريق” الصادرة عن دار ميسلون2018..
فهل تمثل الرواية بالنسبة لك إعادة اكتشاف؟ أم تسوقها التجربة ذاتها بما يتلاءم مع خطة الإبداع الشمولية؟
– الكتابة في عمومها، والأدب على وجه التخصيص؛ شعراً ونثراً، هي محاولات اكتشاف الذات والآخر، في سياق محاولات اكتشاف الحياة. الحياة سفرٌ من المحاولات والمصادفات والتجارب والاحتمالات والأسئلة…، لا ينتهي أبداً، حتّى الموت عاجز عن إيقاف تدفّق نهر الحياة، على اعتبار أن الموت أيضاً سؤال أبدي من أسئلة الحياة والوجود. ولأن الأدب هو أحد حقول التعبير عن الوجود والحياة وأسئلتهما، فمن طبائع الأمور التوجّه نحو الكتابة الروائيّة. ذلك أنني زاولتُ العمل السياسي والصحافي، وكتبت الشعر، ولم أمرّ بالقصّة، وراكمتُ قدراً متواضعًا من التجربة الحياتيّة والكتابيّة، ما خوّلني خوض غمار الكتابة الروائيّة، انسياقاً وراء هوس وشغف التجريب من جهة، وتسليماً بقناعة مفادها؛ ما يضيق به الشعر، تتسع له أفق الرواية. ولعمري أنني سأستمرّ في هذا المنحى والمسعى، ما بقي في حوزتي كلمةٌ تنبض، وخيالٌ يخصّب ويرفد، وأفكارٌ وأسئلةٌ تلحُّ وتوقِد الكتابة.
مفهوم الإبداع لدي، لا ينسجم مع التخطيط والفعل العمد. وعليه، ليس لدي “خطة الإبداع الشمولية” على حدّ تعبيركَ، وما اختتمت به سؤالك. النصّ الشعري البريء، قوامه الارتجال والفطرة، في معزل عن التقنين وإعادة الصوغ والتدبيج واستخدام المحسّنات اللغويّة الجماليّة، مرّة تلو الأخرى. وبالتالي، أثناء ولادة النصّ الشعري، وبعد وضعي تاريخ مولده أسفل النصّ، لا أعود إليه تعديلاً وتجريحاً وتحريراً وتدبيجاً. وإن كانت هناك عودة، فهي لتصويب الهفوات والهنات والأخطاء التي ربما تعتري النصّ. كذلك النصّ الروائي، هناك دائماً خرق للتخطيط والهندسة التي يمكن أن يضعها الكاتب لنصّه. فالتحويرات والانزياحات عن المخطط العام لمشروع أيّة رواية، دائماً موجودة، وكل ذلك من شأنه إخلالٌ لا عمد فيه، وهو أقرب إلى الاجتهاد اللحظي أو وليد اللحظة الذي يبقى يضيف إلى النص ومخططهِ الذي يضعه له الكاتب.
لم أخطط ولا أخطط أن أكون مبدعاً، أو أن يكون لدي مشروع إبداعي. لكنني قررت أن أكون كاتباً وصحافيّاً وشاعراً، وخطوت خطوات في هذا الاتجاه، منذ مطلع الألفية الجديدة ولغاية اللحظة هذه. منسوب الإبداع في هذه الخطوات – المحاولات، لا أحدده أنا، بل القارئ والناقد. ليس لدي ذلك الهوس أو الهاجس في أن أكون مختلفاً أو استثنائيّاً أو أن يكون نصّي الشعري أو الروائي يشكل علامة أو حالة فارقة بين النصوص. في حين أنني أحاول دائماً أن أشتغل في منطقة الاستثناء وليس في منطقة القواعد. وليس كل من يشتغل في منطقة الاستثناء، يخرج بنصّ استثنائي مختلف أو على خلاف مع السائد. لا أقول ذلك، حتّى يتم تفسيره على أنه تواضع. لا. فلدي تلك “الأنا” التي أحميها وتحميني، وأدعمها، وتوفّر لي الاعتداد والثقة بالنفس. أقول قولي هذا، من باب التعبير عن القناعة القابلة للتعديل أو التغيير أو حتى الطلاق. ذلك أن خيرُ القناعات بالنسبة لي، تلك التي تبقى منفتحة على التبدُّل والتغيير والتجدد.
*2*
في روايتك الأولى “وطأة الیقین..محنة السؤال وشهوة الخیال”، والتي جاءت في 380 صفحة من القطع المتوسط.. نجدك قد استخدمت فيها عدة تقنيات فنية، من بينها الرسائل والشعر والمسرح والتحليل السياسي. فهل الرواية هي الأقرب إلى عقل ووجدان هوشنك أوسي لتجد الأفكار العظيمة سبيلها للإفصاح عن نفسها؟
– قصّة الأفكار العظيمة والكبرى، كانت تدغدغ مشاعري، إبّان فترة الشباب والرومانسيّة الثوريّة والانهماك بكتب وأدب اليسار التي وضعتنا على يمين العقل والتبصّر في حقائق الأمور وطبائعها. تلك القصّة وما تنطوي عليه من أفكار و”يوتوبيا” والقضايا الكبرى، هجرتها. ورواية “وطأة اليقين: محنة السؤال وشهوة الخيال” هي خطوة في رحلة الهجرة هذه، بحيث كان النص تشكيكاً وطعناً في اليقينيّات التي أورثتنا إيّاها “الأيديولوجيات” والفلسفات والمعتقدات. تلك “اليقينيّات” التي كانت تنطوي على ما كنّا نظنّه أفكاراً كونيّة وعظيمة، هجرتها، وصرت أنحاز أكثر للأسئلة. وأجد أنه ليست من مهام الأدب الإجابة على أسئلة الحياة والوجود، بقدر ما يفترض أن يعكس الأدب؛ (رواية وشعر وقصّة)، أسئلة “الأنا – الذات”، و”الذات – الجمعيّة الإنسانية”، وما يعتمل ويعتلج الذوات من أفكار وأوهام وخرافات وعُقُد وحالات. أفسدتنا كتب اليسار والعقائد وجعلتنا رهائن وأسرى اليقينيّات و”الحتميّات التاريخيّة”، لذلك كتبت قبل سنوات مقالاً بعنوان: “في ضرورة التحرر من حركات التحرر” التي أورثتنا خرافات الأيديولوجيا. وما كتبته في “وطأة اليقين” ليست دعوة للفوضى والعدميّة والانفلات، بل إلى محاولة مراجعة الذات وتصفية الحساب مع التاريخ والأفكار الكبرى التي أفسدتنا، وأطاحت بالأفكار والأحلام الصغرى، والحالات الجد ذاتيّة. الرواية بالنسبة لي هي محاولة الثأر من كل ما هو مركزي أو يتم اعتباره مركزي، لصالح الانتصار للهوامش. والهوامش ليس بالمعنى التقليدي للكلمة، بل بالمعنى القيمي. وربما يقول قائل: ولكن التشكيك في اليقين هو يقين موازٍ! والتحريض على المركز والثأر منه، لصالح الهامش، هو أيضاً تتويج للهامش باعتباره مركزاً! هكذا رأي وتساؤل هو أيضاً ينطوي على قدر من الوجاهة وحق الطرح والظهور. ولكن، لدي قناعة قابلة للتغيير والتبدّل والمراجعة مفادها: إذا نجحنا في زحزحة القناعات واليقينيات والأفكار الكبرى المتوارثة حاليّاً عن مكانها ومقامها، أيّ فكرة أخرى أو أي يقين آخر سيحلّ محلها، يمكن زحزحته أيضاً وأيضاً. وبهذا الطريقة يستمرّ نهر الحياة بالتدفّق، ولا تقوم لصيرورة وديمومة الإبداع قائمة إلاّ مع وجود فعل الزحزحة والتجاوز والتجدد في حقول الفكر وأجناس الأدب.
رغم أنني لست مع توصيف “الأفكار العظيمة” لأن الفكرة تولد لا كي نقضي أعمارنا في عبادتها أو محاولة تحقيقها وتطبيقها، بل فهمها وهضمها والتحوّل إلى فكرة أخرى، ربما تكون متجاوزة للفكرة السابقة أو ربما تكون على نقيض منها أيضاً. لذا، عظمة أيّة فكرة تكمن في أن تنطوي بذرة أو شتلة فكرة أخرى، تتجاوزها.
في “وطأة اليقين” لجأت إلى استخدام تقنيّات عدّة في الكتابة، لأنني مارستها في حياتي. وطبيعي أن ما أكتبه، من شعر ونثر ورواية، في جزء منه، سيعكس تجربتي وتجارب الآخرين. ولأن الحياة سفر لا ينتهي من الاحتمالات والفرضيات، ومساحة النسبي أكبر وأوسع من الحتمي المطلق، لم أشأ أن أحصر عملي الأول ضمن شكل أو نسق معيّن من أنساق وطرق وتقنيات البناء الروائي. أنا حاولت، ولا أقول أنني أنجزت وحققه ما كنت أريده وأسعى إليه.
“قصائدك تنحاز نحو العزلة والتأمّل والتصوّف، وأنسنة الأشياء.” هذا النسق الإبداعي ما تفرزه قريحتك، بأفكار وأخيلة تثير الأسئلة الكبرى وتفتح آفاقا أرحب للتأويل بداعي اكتشاف العوالم الخفية.. حدثنا عن ذلك.
– لو كنت أمتلك القدرة والجرأة والطاقة على الحديث عن نصوصي الشعريّة، لما كتبتها أصلاً. وعليه، لا يمكنني أن أضيف شيء إلى ما ذكرته، سوى القول: إن لم يكن الشعر باعثاً على التأمّل وأنسنة الأشياء، فما عساه يكون؟! باختصار: شِعري هو “أناي” بكل عُقدها وأمراضها وخيباتها ومغامراتها وقصص العشق والركض خلف الأسئلة. والرواية هي فنّ التعبير عن “الأنا” والآخرين.
– لا يمكن الحوار معك دون التطرق إلى القضية الكردية، المتشعبة الأطراف والمتأصلة الجذور، والتي ليست وليدة الأحداث الدراماتيكيّة التي شهدتها -ولا تزال تشهدها- منطقة الشرق الأوسط، باعتبارها قضية البحث عن الهُّوية، الهُوية الفاعلة والمؤثرة في ذاكرة ووجدان الروائي والشاعر هوشنك أوسي..
– وذلك من محور: ما للأكراد من تاريخ ودور هام في الحضارة الإسلاميّة، ومن محور ما تتسم به سياسات ومشاريع الأنظمة المتعاقبة على الحكم في الدول المجاورة في إحداث تغييرات ديموغرافية.. لها بالغ الأثر على التعداد السكاني وتشكيل الوعي الجمعي والجيوسياسي للكُرد.
– إلى أي مدى تسافر بهذه الحقيبة المحشوة بالأشواك، التي ما أن تُغلق فيها ثقبًا ينفجر آخر؟!
– على أهميّة وجمال الأسئلة التي تطرحها، إلا أن المقدّمات التي تستهلّ بها أسئلتك طويلة. ومع ذلك، هويتي مركّبة، البذرة أو الشتلة أو المركز فيها هي الهويّة الكرديّة بما تنطوي عليه هذه الهويّة من آلام وأحزان وخيبات وثورات وخيانات كبرى؛ كرديّة، وشرق أوسطيّة، ودوليّة.
المرحلة التأسيسيّة في تكويني الثقافي والمعرفي، وحتى في تجربتي الأدبيّة المتواضعة، كانت النشاط والحراك السياسي. ولكنني ابتعدتُ عن الحياة التنظيميّة، وبقيت أكتب في السياسة مقالات رأي، وبحوث ودراسات باعتباري كاتبًا وصحافيًا مستقلًا. نصوصي الشعريّة، بعيدة عن الجلجلة والقعقعة السياسيّة والخطابيّة والمنبريّة المباشرة التي تدعو إلى النهضة الكرديّة والكفاح والنضال والمقاومة من أجل تحرير واستقلال كردستان والأكراد من نير العبوديّة والاحتلال والاضطهاد. وتبقى هذه النصوص تتناول الألم والحلم والأمل الكردي في السياق الإنساني، والهمّ الوجودي الشخصي باعتباري أحد ثمار هذه التراجيديا الإنسانيّة التي تسمّى الكرد وكردستان وحلم التحرر والدولة القوميّة. وكذا الحال في الكتابة الروائيّة. اختلف عن الكثير من العرب والكرد والأرمن والأتراك في تناول الهويّة القوميّة أو الهمّ القومي ضمن جغرافيّة محددة معيّنة، كأن يكتب الفلسطيني عن فلسطين والفلسطينيين لكأنّ العالم كله فلسطين والفلسطينيين، وأن يبقى الكاتب المصري يكتب عن مصر، وكذلك الكاتب العراقي أو الخليجي أو الجزائري أو المغربي أو الكردي الذي يكتب عن القرية والمدنية الكردية المنكوبة والمنهوبة من قبل التاريخ والجغرافيا. وهذا حقهم في الكتابة بهذه الطريقة. أحاول تناول الهمّ الكردي، في الإطار العام، الشرق أوسطي أو الإنساني، وليس في معزل عن المحيط. لا أقول أنني عن حق والبقية على خطأ. بل يمكنني القول: إنني هكذا، أتناول الوجع الكردي بهذه الطريقة التي اعتبرها مختلفة نوعاً ما عن السائد بين العرب والكُرد.
تكتب باللغتين العربيّة والكرديّة، عضو بأفرع مختلفة لنادي القلم، وعضو رابطة الصحافيين السوريين، عملت أيضًا محررًا للأخبار ومعدًّا للبرامج في قناة(ROJ TV) الكردية، ومحررًا في مجلة “سورغل” الكردية المعنية بالبحث والتحليل والتوثيق. ولك إسهامات مختلفة في الترجمة، وتم تكريمك بعدة مهرجانات دولية.
– حدثنا عن جدوى اللجوء إلى الكتابة تحت قصف الاغتراب والانغماس في محنة المهجر؟
– لم يعد المهجر محنة. وسأعود إلى الحديث عن ذلك. أما الكتابة بالكرديّة والعربيّة، فهو قدرٌ لم اختره لنفسي. ومع اكتشافي ملكة الكتابة لدي، وأنني أنفع أن أكون كاتباً، قررتُ ومضيت نحو الكتابة، وخطوتُ بعض الخطوات في هذا الاتجاه. أنا شخصٌ مسكون بهاجس اللاجدوى. اللاجدوى تلاحقني، ولست منزعجاً منها، بل تأقلمت مع هذه الحال – الهاجس. ذلك أنني ما أن أنتهي من كتابة قصيدة، أو يصدر لي ديوان شعر، أو رواية، أشعر باللاجدوى تخيّم عليّ، وتستبدّ بي، بحيث أصبح خاضعاً لسؤال: ما نفع ذلك؟ ما الجدوى منه؟ هل كان هذا النص أو الديوان أو الرواية أو المقال، هو ما كنت أقصده وأعنيه أو أرمي إليه؟ والجواب: لا. إذاً، والحال هذه؛ ما الجدوى من كل ذلك، إنْ لم يكن المقصد أو المعبّر بشكل كامل وتام ومبرم عن مقاصدي في التفكير والتخيّل والقول وإثارة الأسئلة؟ هاجس اللاجدوى، يعطّل حركة الكتابة لديّ بعض الشيء، لكن سرعان ما ينقلب إلى دافع لكتابة المزيد، علّ ذلك يكون مجدياً ويفي بالغرض والمقصد ويحقق الهدف.
تطوّر وتغيّر أنماط المعيشة، على كافّة الأصعدة، أحدثت تطوّراً وتبدّلاً في أنماط التفكّير لدى البشر. فمفهوم الوطن، تغيّر وتبدّل، ولم يعد تلك الجغرافيا التي ولدتُ فيها، وعشتُ تحت سمائها وعلى ترابها ردحاً من عمري. كذلك المهجر، لم يعد المكان خارج جغرافيا الولادة والنشأة، سواء أكان اللجوء إلى المهجر طوعاً أو قسراً. المكان الذي يسلبني الانتماء إليه، ويغدق عليّ القمع والاضطهاد والاستبداد والفقر والإنكار والحرمان من أبسط حقوقي، سيفقدُ أهليّته وشرعيّته على أنه وطن. والمكان الذي يمنحني وأسرتي وأطفالي كل هذه الأشياء، ويشعرني بكرامتي ووجودي وحريّتي، ولا يكون رقيباً على حركة فكري وخيالي وجسدي، ولا يلاحقني ويحاسبني على ممارستي حريّاتي وحقوقي الطبيعيّة، هكذا جغرافيا، حتى لو لم أولد فيها، فهي وطني المكتسب. وبالتالي، كل ما يقال عن المهجر، لم أعد أؤمن به. أعتقد أن هذا التعبير كان يصلح قوله في مطلع القرن العشرين، وربما لغاية حقبة الثمانيات والتسعينات. ومع التطوّر التقني الهائل في وسائل الاتصال ودور وتأثير مواقع التواصل الاجتماعي، وانعدام الحدود، اعتقد آن أوان إعادة النظر في مفهوم الوطن والمهجر. وهذه ليست دعوة لاستبدال الأوطان بأوطان جديدة، بل دعوة لإعادة النظر في المفاهيم وما يترتّب على ذلك على صعيد الفنون والآداب. وعليه، ما يكتبه الكتّاب والمبدعون والمبدعات خارج أوطانهم، حيث يقيمون، لا اعتبره “أدب مهجر”. هذا التصنيف فقد جدواه ومغزاه بالتقادم وبفعل انجازات الحضارة. اعتقد أنه ينبغي التركيز على الأدب كأدب، من حيث الجودة والفرادة ومنسوب الإبداع والاختلاف فيه والجديد الذي يضيفه، وليس من حيث التصنيفات المكانيّة؛ وطن – مهجر!
بصراحة، كنت وما زلت أعيشُ محنة وطن، ولم أعش محنة مهجر. وسط ذلك، كثيراً ما تنتابني نفحات من الحنين والنوستالجيا. وما ينجم عن ذلك من كتابات أدبية، لا اعتبرها؛ أدب مهجر.
باختصار؛ لا أؤمن بهذه المقولة: “بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ.. وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرامُ” والموضوع لا يتعلّق بالثأر والانتقام والنفس العدواني، بل يتعلّق برفض امتهان الكرامة وفرض الظلم والعبوديّة أين كان؟ وكائن من كان الظالم؟ أنا ابن الحالة. أكون حيث تريد لي الحالة أن أكون. كل مدينة أو بلد مررت به، وأحببته، حاولتُ قصارى جهدي الانتماء إليه. ومع وجود شعور الانتماء للأمكنة وحيواتها، يتراجعُ وينحسرُ الشعور بالغربة والاغتراب لدي.
الجوائز الأدبية في المشهد الثقافي العربي الراهن، وما يعتريها من إشكاليات كثيرة حول ما يُفترض أن تمثله من إنعاش سوق النشر وإثراء حركتي النقد والقراءة.. وحول ما تفرضه من لغط حول نزاهتها.
– يجعل من الإبداع مرهونًا بالحظ، وما تسوغه علاقات المبدع مع اللجان التي تقررها المؤسسات المانحة لفحص الأعمال المقدمة.
– فمتى تتعافى الجوائز الأدبية من إشكاليتها؟ وماذا تمثل لك الجوائز الأدبية؟
– لا أميل إلى هذا التوجّه الذي صار يهاجم الجوائز، ولجان تحكيمها، والفائزين بها، والإبداع الذي تكّرمه وتقدّمه هذه الجوائز. قبل عقدين أو ثلاث، كان جلّ الكتّاب والنقّاد يتململون، بل ربما يولولون على عدم وجود جوائز تحفّز حركة الإبداع، أسوة لما هو موجود في “الغرب والبلدان المتقدّمة”، وأن السلطات أو المؤسسات لا تولي أيّ اهتمام بحركة الإبداع والمبدعين والمبدّعات. وحين بدأت الجوائز تظهر وتتكاثر، وتخلق حالة تنافسيّة متنامية من حيث حركة الكتابة والنشر، صرنا نشهد هذا الامتعاض والتشكيك والطعن في الجوائز وعوائدها الايجابيّة على المشهد الثقافي.
عدم الرضا والطعن والتشكيك، ربما يكون حالة طبيعيّة في الحدّ الأدنى؛ النقدي الممحّص والمنقّب الذي يبذل مجهوداً في إطار فرز الغثّ من السمين. ولكن أن يتحول الأمر إلى مرض وثرثرة، نراها هنا وهناك، يصرّح بها ذلك الناقد أو هذا الكاتب والصحافي، أعتقد أن هذه الثرثرة باتت تشوّش وتؤثّر سلباً، وتفتح حلبات للصراع والمكاسرة والتناحر غير المجدي في الوسط الثقافي العربي، بالإضافة إلى أن تلك الثرثرة تفصح عن حالة من “التعفف والتأفف” الكاذب من الجوائز لدى الكثيرين ممن يمنّون النفس الحصول على هذه الجائزة أو تلك. وينطبق عليهم القول: يتأففون ويتعففون ويتمنّعون وهم راغبون أشدّ الرغبة.
ومع ذلك، الوسط الثقافي في العالم العربي، لا خلاف على أنه مشوب بالفساد والشلليّة والعلاقات الشخصيّة والغطرسة والأنوات المتورّمة لدى النقّاد والكتّاب أيضاً. الجوائز الأدبيّة تفسد الأشخاص الذين لديهم استعداد وقابليّة الفساد والإفساد. وهذا الصنف من البشر، ليسوا القاعدة، بل هم الاستثناء الذي ينبغي ألاّ يقاس عليهم أثناء إطلاق أحكام القيمة على الجوائز الأدبيّة. العطب ليس في الجوائز، بل في النفس البشريّة الأمّارة بالسوء، حتى لو كانت هذه النفس تخصّ كاتباً أو ناقداً!
الجائزة الأدبيّة، هي شكل من أشكال الإنصاف والتكريم للمنجز الإبداعي. ومن يسعى إلى الجوائز، لن تسعى إليه الجوائز. شخصيّاً، لا يمكنني إنكار فضل جائزة “كتارا للرواية العربيّة” عليّ. فهي التي قدّمتني للوسط الروائي والنقدي على أن مجهودي في كتابة السرد، يستحق القراءة والنقد والتكريم. ولو لم أحصل على تلك الجائزة، ربما احتاج منّي إثبات نفسي في أرض السرد والرواية، المزيد من الجهد والسنوات.
حدثنا عن أحلام الفتى الثائر في سعيه لتحرير شعبه ووطنه، وشعوب وأوطان الآخرين، ورؤى الشاعر والصحافي المتمرد، بطبعه، في سعيه لصنع حالة إبداع خاصة به.
– تلك الأحلام، كانت وليدة مرحلة الصبا والانغماس في الحراك القومي اليساري الكردي، واستمرّت معي لحين وصولي إلى أوروبا، هرباً من وطني، نتيجة القمع والاستبداد والفساد والإفساد والملاحقة الأمنية. كنت أظنّ أنه بالقصائد والنضال والقتال والكفاح والسلاح، يمكن تغيير العالم، وقلب الطاولة على مصّاصي دماء الشعوب؛ الرأسماليّة والامبرياليّة والبرجوازيّة وكل الانظمة المنتمية إلى حظيرة الرأسماليّة. كنت مفتوناً بما أقرأه في كتب اليسار عن “دكتاتوريّة البروليتاريا” والسعي نحو إلغاء التفاوت الطبقي ومحو الاختلاف ونمذجة العالم وفق نسق واحد محدد، منعاً للظلم والاستغلال والاضطهاد، ولن تتحقق أحلامي الكبرى تلك، إلاّ عبر تحرير كردستان والشعب الكردي. تحرير الكرد من الأعداء المستعمرين المحتلين. الآن، تحوّلت تلك الأحلام الفضفاضة والرومانسيّة إلى شكل آخر هو تحرير الكرد من خرافات وترّهات وأوهام العقائد والأيديولوجيا وسمومها. تبدأ الأحلام كبيرة جداً، ومع انتصاف العمر، تصغر وتصغر، مع الاصطدام بحركة الواقع ومراراته.
النصّ الأدبي الذي يدغدغ المشاعر والغرائز القوميّة والطبقيّة، المثقل بأغلال وأعباء الشعارات الكبرى، هجرتُه. ويبقى حلمي الوحيد حاليّاً محصور في كيفيّة تطهير نفسي من سموم ورجس تلك الأيديولوجيات والعقائد التي دججت بداياتي وأججتها وسممتها أيضاً. صرتُ أكثر انحيازاً للذاتي، الفردي، الإنساني، الوجودي، أثناء كتابة الأدب. أمّا الكتابة السياسيّة، فلها معاييرها ومكاييلها مقاماتها، التي تختلف عن مقامات وأغراض الأدب. وعليه، صرت قادراً على الفرز بين لغة الأدب ولغة الكتابة السياسيّة، وأقصد مقالات الرأي والبحوث والدراسات التي تتناول الأحداث والحالات والظواهر والقضايا السياسيّة، ومنها القضيّة الكرديّة، التي هي قضيّتي بوصفي كرديّاً، وبوصفي أرفضُ الظلم والقمع والاستبداد بحق الكرد كونهم بشر، يستحقون الحريّة وتستحقهم الحريّة.