هواء يتجوَّل في الذَّاكرة قراءة في ديوان: “هواء العائلة” للشَّاعر شريف رزق

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أسامة الحدَّاد

عاصفة شعرية، وفيوض جمالية، تتوالي، في نص شفاهي، شديد التلقائية، ترثي خلاله الذات الشاعرة عالمها السابق؛ الذي يغدو أسطوريا بغيابه، دون الوقوع في فخ العديد؛ الذي هو من موروثات الذات المصرية، ويتجاور السرد الحكائي مع المونولوج الداخلي، في تناغم وانسيابية.

 هنا شريف رزق يتخلص من حمولاته السريالية و المعرفية، لصالح ما هو إنساني، ويعلن تمرده على لحظته الآنية؛ بالبحث عن تحقق وجوده، عبر لحظات ماضوية، تشكل تاريخا شخصيا؛ ليتسرب إلينا شجنه، ونشاطره أحزانه، ونجد أنفسنا داخل النص، بأشكال متنوعة؛ فقد تجاوز ذاته الفردانية إلى ذات جمعية؛ ليؤكد الناقد والباحث الأبرز في قصيدة النثر، أنه الشاعر المبدع أيضا، وعبر القصيدة ثمة مزاوجة بين التكثيف والتفاصيل التي تتوالى لخدمة النص؛ الذي هو قصيدة واحدة، برغم علامات الترقيم؛ التي لم تكن أكثر من عملية تنظيمية، أنه يبدأ من الوحدة، وينتهي إليها، ومن أبرز ملامح النص: التكثيف الشديد؛ حتى في استخدام التفاصيل والحكي، وكأنه صوفي يضع عبارته بدقة؛ محملة بدلالات ورؤى عديدة، وتبدو الذات الشاعرة  في حالة شبحية، تعيش في ماض وذكريات، وتتواجد من خلال الحكي لا الواقع؛ فاستحضار القديم يعنى أنه مسكون بأشباح الماضي، الذي يعود في أشكال مألوفة، مع أن الإنسان هو أكثر الموجودات غرابة، كما يقول "هيدجر"، والذات الشاعرة تكشف عن العالم الغرائبي الذي تعيشه مثل قوله: 

“كنت دون العاشرة بقليلٍ

حين مات الدرويش الذي لم يعرف له أهل

والذي قضى حياته على مقربة من المقابر” (ص:60)

بل تمتد فكرة الشبحية لتتعاييش مع الذات في لحظتها الآنية:

“تكاد أن تموت من الرعب،

وأنت عائد إلى شقتك ليلا

حين تجد ماردًا أسود في انتظارك

 يدعوك باسمك

أن تتبعه في هدوء” (ص:55)

وبعيدا عن المقولات الشهيرة حول الأشباح لدريدا و فرويد بل وهيدغر، فإن ثمة استحضار لأساطير شعبية و عربية عن فكرة الوحشة؛ التي ارتبطت في الذهنية العربية بعالم السحر والجن، والتي بدت في حكاية العاشق العربي الأشهر قيس بن الملوح، وارتباطها بالشعر في واد عبقر، وتجلت كذلك في ألف ليلة وليلة؛ وهو تراث طويل من المدون والشفاهي،  لا أعنى بذلك التناص والهوية الخلافية للنص التي قدمتها كتابات نقدية عديدة لكريستيفا ورولان بارت وغيرهما، وإنما أعني قدرة النص على صناعة أسطورته الخاصة، حتى لو تقاطعت بدرجة ما مع أساطير و حكايات سابقة؛ فالنص بالتأكيد لا ينشأ من فراغ؛ فجزء من أي نص يرتبط بخبرات سابقة، وتوظيفها داخل النص من خلال غائيته الجمالية هو ما يمنحه تفرده، من خلال استخدامه لأداءات وآليات جمالية وسردية، يصنع بها عالمه الخاص؛ فالديوان الذي بين أيدينا هو نص يشكل وحدة واحدة، تتصاعد دراميًا، وهو ما يمنح النص آفاقًا أكثر اتساعا؛ تتجلى في خاتمة النص:

“أنني غريب عن هذه العائلة

وأنني في الحقيقة لست منكما أصلاً

وأنني أعيش تمثيلية كئيبة

فكرت أن أكتبها يومًا في قصةٍ بعنوان: المجهول” (ص: 97)

هنا يصل لذروة الحدث (الفعل الدرامي)، ويؤكد على وحشته واغترابه وشبحية العالم، بل إن الذات نفسها تغدو شبحًا في شكوكها حول هويتها ووجودها، وهى في سعيها هذا تقدم اعترافاتها، ليس على شاكلة الوجدانيين، ولا تجسيدًا لما قاله جوته عن إنتاجه الشعري باعتباره نوعًا من الاعتراف الكبير؛ فالذات هنا ليست ذاتا فردية  بعيدة عن مجتمعها؛ بل متفاعلة معه، تبحث عن تحقق وجودها، من خلال حنينها إلى الماضي “النوستالجيا”، وتفاعلها مع عادات شعبية واجتماعية عديدة، ترتبط إلى حد ما بالموت، الذي لا يشكل هاجسًا داخل النص فقط، بل هو حقيقة وجوهرًا للصراع داخله؛ فالموت بما يشكله من فقد للأحبة، وما يحدثه من تغيرات، نتيجة حالة الغياب لشخص ما- خاصة إذا كان لصيقا بالذات- هو ما تتصارع معه الذات؛ ففكرة الموت تهيمن على النص نجد ذلك في قوله: 

“ولأسباب فائضة عن بناء السرد هنا

كنت أشعر أنني أعيش في مقبرة بعيدة ومجهولة

وأشعر بكل ما أصنعه هناك” (ص:71)

وتناول الموت داخل النص لم يكن رغبة في جدلية مع نظريات عديدة حول الموت، وما يليه في المجهول الذي نذهب إليه، أو وفق فكرة الاستنساخ التي تؤمن بها شعوب عديدة، أو الحساب والآخرة وفق الموروث الديني، بقدر ما كان للتأكيد على الوجود والتشبث بالحياة، كأنه أحد الناجين من الطوفان، أو البحَّار الذي تحطمت السفينة التي تقله وعاش وحده في جزيرة نائية في ليالي شهرزاد، أو كأنه روبنسون كروزو يحارب من أجل أن يعيش، أو بالأدق أن يثق في وجوده، نجد ذلك في قوله:

“بصدره العاري

على الشاطئ، وحده

يستقبل قذائف الموج” (ص: 25)

 ونجده أيضا في قوله:   

“بعيدا حتى عن جسدي

أجلس على شاطئ البحر وحدي

بريئا من كل ما يحدث” (ص: 18)

هنا هو يواجه الموت الكامن في الذكريات والعادات الاجتماعية؛ المتمثلة  في الجدة التي ينتظر وجودها على باب المدرسة، والأم الغائبة، والسيارة الرسمية وهى تخبر بوفاة شقيقه، في زيارة المقابر في الأعياد، في الدرويش وحكايات الأولياء؛ فالموت بين الحقيقة والخرافة، والوحشة منه، هو إطار يحمل داخله عوالم وحكايات، وحياة تتشكك الذات في وجودها.

وعبر القصيدة الديوان ثمة ملامح وسريالية تشكل خطا واضحا داخل النص، وتم توظيفها دون الوقوع في براثنها، أو تكثيف استخدامها، مثل قوله:

“دائما في وحدتي

تتحرر أعضائي

من كل قيد

 

دائما في وحدتي

تتحرك كائناتي

في الشقة وحدها” (ص:52)

ومثل قوله:

“أنين يتصاعد من جدران غرفتي

اسمعه بوضوح قبيل نومي

يتكاثف من حولي

في كل ليلة” (ص: 53)

 وتم توظيف السريالية داخل النص لتمنحه قيما وأنساقا جمالية، وللتأكيد على العزلة والاغتراب عن العالم،  دون الوقوع في براثنها،  شأنها في ذلك شأن المعرفية التي بدت قليلة؛ برغم الثقافة الموسوعية لشريف رزق، أحد أهم النقاد والشراح لقصيدة النثر، والذي قدم نصا إنسانيا ينطلق من السؤال البديهي:

” لماذا يموت الذين أحبهم فجأة؟”  (ص:57)

إنه أحد الأسئلة الجوهرية و الحقيقية؛ لأنه بلا إجابة سؤال بدأ منذ الأخوين قابيل وهابيل؛ أي متزامنا ومعاصرا لوجود الإنسان؛ فلماذا ينتقل الإنسان من الحياة إلى السكون والعدم؟، ولماذا نفقد من نحبهم؟، لأن من نحبهم في طفولتنا هم الأحبة بالفعل، وهم من تستمر وجوههم الغائبة محفورة داخل الذاكرة، مهما حاول المرء الهروب من ملامح الغائبين، فمن هذا السؤال البادي بريئا ينطلق النص، على الرغم أنه جاء في النصف الثاني من الديوان القصيدة، إلا أنه- وكما أرى- هو محور النص، حيث التساؤل والذكريات والتاريخ الشخصي الذي تكمن الأنا في توحدها و تعددها وتوحشها واغترابها داخله، والاعتراف أيضًا بالعجز والضعف الإنساني، ومن خلال هذا التساؤل يعيد اكتشاف تاريخه الشخصي؛ الذي هو كشف لحياة أسرة مصرية، حيث العلاقة مع الجدة والأبوين ومقتنيات الجدة من عنزات وحمام وسرير نحاسي؛ وهى تخص عالما ماضويا يتساقط  كالجير من حائط البيت، ومعها عوالم المدرسة، وألعاب الصغار، والذهاب إلى الأسواق الشعبية، وكوب السوبيا، ومن خلال هذا السرد الشعري تم رصد المتغيرات الاجتماعية بلا مباشرة؛ فالمسكوت عنه هو هدف النص والمقارنة بين حياة طفل منذ عدة عقود وحياة الأطفال في لحظتنا الآنية هي مما يقوله النص، وهنا يكشف عن خدعة القول أن الرواية هي جنس أدبي قادر على احتواء العالم ورصد المتغيرات السياسية والاجتماعية؛ فكل الفنون والأجناس الأدبية تعنى برصد هذه المتغيرات؛ لأن الفن يعنى في جوهره بالحياة، التي تخضع للمتغيرات الدائمة، والصراع معها، و لا يمكن للذات أن تنفصل عنها، ولكن من نادى بقدرة وتميز الرواية كان يهدف لغرض سياسي، ويسعى إلى إقصاء الشعر والقصة القصيرة؛ باعتبارهما يمثلان الإبداع المندفع؛ فدائما هنا إبداع متأمل يتشكل على مهل، وإبداع مندفع هادر ومتمرد، وبالتأكيد بينهما مساحات مشتركة، هناك مستويات عديدة بين التأمل والاندفاع، ولكن يظل الشعر هو فضاء المتمرد الأساسي، وهو ينساب في هدوء؛ ليشكل وعيا جماليا وإنسانيا، يترسب في أعماق الذات، ومن أجل هذا التمرد الذي كانت تخشاه السلطة خرج الناقد المعروف متمسكا بمقعده في السلطة؛ ليعلي من منزلة الرواية، ويحاول إقصاء الشعر؛ الذي يشكل وجدان ووعي الأمة، مهما فعل السلطويون، ويعبث “هواء العائلة” بمقولاتهم، وهو يكشف عن عادات شعبية  وتقاليد  ومتغيرات اجتماعية، وهو يرثي الذات، و يرثي العالم الذي يظن أنه عاش داخله.

 

هواء العائلة- الطبعة الأولى- مركز الحضارة العربية- القاهرة- 2016، والطبعة الأولى لدار ألف ليلة وليلة، بالقاهرة، 2016 .

 عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم