هنا يرقد إنسان بدائي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 الناسك لم يكن ناسكًا منذ البداية، كان يرتاد المقاهي، ويمشي متسكعًا في الشوارع، يوزع نظراته بين واجهات المحلات ببضائعها الملونة، وأرداف النساء العابرات من أمامه، الناسك كان يركل الطعام إذا لم يعجبه، يثور، يخبط الباب من خلفه، غير عابئ بالنداءات المتوسلة لأمه العجوز، الناسك فقد أمه وأباه من قبلها، ولم يتغير بحياته شيء سوى أنه صار يعود ومعه لفافة صغيرة تحوي طعامه الجاهز، صار ينام ولا يستيقظ إلا بالصدفة، مع نداءات بائع جائل، أو صرخات أحد أبناء الجيران، لم يعد يعتد كثيرًا بتوقيتات اليوم، صار نهاره حين يستيقظ وليله ما دام نائمًا...

 

الناسك صار ناسكًا فقط، حين أتاه الحلم النبوءة، كلما نام رأى نفسه بملابس رثة، أشعث الشعر واللحية طويلة، يجلس أمام باب كهف متهدم، مكتوب بأعلاه، “هنا يرقد إنسان بدائي”، لم تكن مكتوبة بلغة واضحة، فقط كان يلقى في روعه هذا المعنى، قال له العرّاف إنها روحه التي تتوق للتحرر، كان بالفعل متحررًا، لم يكن يشعر بأي مشكلة مع حياته بالصيغة السابقة، لكن مع تكرار الحلم، وتفكيره الطويل في كلمات العرّاف، ومع تركيزه في التفاصيل، وجد في روحه اشتياقًا حقيقيًا لقضاء ما تبقى من عمره كإنسان بدائي.

الناسك ترك بيته للعناكب والأتربة، ترك جيرانه للظنون، ترك الدنيا والشهوات والصراعات خلف ظهره، وبدأ صفحة جديدة، ترك لقدميه الحرية في اختيار مقره الأخير، اجتذبته الصحراء، اجتذبه مكانه وكأنه يناديه، استجاب للنداء ولم يغادره لما يزيد عن ثلاثين سنة، لم يفكر في رزق، لم يعرف كيف كانت أموره تسير، الله يسوق له دومًا ما يقيم أوده، الناسك في البداية اكتفي بالعيش والتمتع بحالة الفراغ والصفاء الذهني، تمتع بالمكان وبالحياة البدائية، وكأنه في رحلة سفاري ممتدة، مع الوقت اكتشف أن روحه ارتبطت بالمكان، اكتشف نقاء الصحراء البكر، منبع الأفكار والرسالات السماوية، صار يشعر بروحه تخف، ترق، تشف، شعر بأنه كالهواء، أنه متوحد مع كل ذرة رمل من حوله، تأمل الشروق والغروب، والنجوم، تأمل الظواهر المناخية كلها، صار يقترب ويقترب، حتى باتت متعته في التعبد ليل نهار، تعبد عن إرادة وشوق ولذة داخلية، صار يرى الملائكة من حوله تحف كهفه، تصادقه، يرى الشياطين تقف عن بعد متلمظة، لم تستطع الاقتراب، يرى نور الله، ويستشعر أنفاسه على بشرته كل ليلة، الناسك يذوب، صار نملة، و فأرًا، وحرباء، يتعبد لله في كل حالة، يتعبد كنملة، وكثعبان وخفاش، كصخرة في صمت الصحراء يتعبد، وكصمت الصحراء يتعبد

 

الناسك بعد رحلته هذه، حصل له ما لم يكن في الحسبان، وجد روحه تتوق لرغيف من الحواوشي الساخن، من حين لآخر تأتيه الرائحة، رائحة لا تقاوم للّحم الممتزج بالبصل داخل رغيف الخبز المندى بالدهن، الناسك بعدما ظل لسنوات لم تهفُ نفسُه لشيء، لم يتمنَ شيئا، لم يتخيل أنه من الممكن أن يتمنى كشخص لم يهذب، لكنه وبلا أي مقدمات ضبط نفسه تنتظر أن يسوق لها الله رغيفًا شهيًا بطريقة أو بأخرى، الرجل ظل لأكثر من ثلاثين سنة يتعبد دون انتظار مقابل، لكنه الآن صار ينتظر، ويتمنى، ويشتهى، في البداية كان يستنكر ذلك، يعاتب نفسه، يقسو عليها، لكنه بعد قليل شعر بغضب ينتابه؛ كيف لم يراعِ الرب علاقتهما، كيف يحرمه من رغيف لحم، مجرد رغيف لحم بالبصل والبهارات، الرجل مع طول انتظاره، بدا وكأن إيمانه قد تزعزع، راجع معتقداته، خاض رحلة العودة، لم يذهب للاطمئنان على شقته ومحتوياتها، لم يهتم برؤية جيرانه، ومعرفة ما استجد من أمور خلال السنوات السابقة، فقط ذهب لأول مكان قابله لبيع الحواوشي، لم يكن يمتلك نقودًا، في البدء زجره صاحب المطعم، توسل، زرفت عيناه الدمع من المهانة، وربما من ضغط الرائحة الشهية على أعصابه، رق القلب له، أمسك بالرغيف، جلس على الأرض، تحت أحد الجدران، اقترب بأنفه، استنشق الرائحة وهو مغمض العينين، وكأنه يركز كل حواسه في الشمّ، وعندما سال لعابه، وهمّ بالقضم، اكتشف حينها فقط، أنه فقد أسنانه منذ سنوات بعيدة، وأنه لم يعانِ الفقد سوى في تلك اللحظة، حينها أخذ نفسًا عميقًا، وظل متشبثًا بالرغيف وبشعور الفخر بتحقيق هدفه

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

 صدرت مؤخرًا عن دار بتانة ـ القاهرة 

مقالات من نفس القسم