هناك  في البين  .. بين

هناك  في البين  .. بين
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أجد صعوبة قاسية هذه الأيام للخروج من نص أدبي لمتابعة الحياة العادية .. أشعر أن الأمر يشبه السفر عبر الزمن، انتشار جزيئاتي كلها في الفراغ لتعبر حاجز الخيال ثم تلتئم ذراتي التي غالبا ما اتخيلها حبات تراب ناعمة ملونة بالرمادي ودرجة الأزرق السماوي مع حبة او أثنين من القرمزي اللامع وبعض الأزرق الغامق.

 

 

أراها هكذا ترتفع في فراغ الغرفة، وقبل أن تتلاشى وتضيع تتجمع كيفما اتفق لأعود لهذا العالم .. أحيانا تبدو مثل دوامة ماء قاتلة في نهر حكي لي صديقي عنها، قال إنها كادت تبتلعه لكنه جمع جسده كله في شكل مخروطي يشبهها، وبكل قوته ضرب إحدى جوانبها بيديه وعبر، نجا من الموت وعاد..

وهكذا أغلق أنا الورق وصفحات حاسوبي البيضاء .. واستسلم لإحساس الخفة والسباحة في الفراغ ، قبل ان أعود واتجمع …

في لحظة مثل تلك يكون التشويش والألم شديدين .. أعاني من عدم تركيز فلا يمكنني أن أتابع محادثة روتينية أتحدث فيها انا ومحمد حول عشرات من المواضيع العادية المعلقة في سماء اليوم ، معلقة ومتكررة وباقية وتحتاج مني لبعض التركيز والكثير من الإيماءات والكلمات المشجعة او الهمهمات … أفعل ذلك بسهولة في أوقات اخرى لكن بعد عودتي من الفراغ لا أبدو مرنة بشكل كافي لفعل ذلك ..

كثيرًا ما أشعر أن روحي تقف على أطراف أصابعها تنتظر لحظة مناسبة لتفر من الواقع ، ألمحها تقف متململة بينما أعد الطعام أو أنظف المطبخ والصحون التي لا تنتهي عشرات منها والكثير من الأكواب الملونة الطويلة التي غالبا ما يستعملها محمد، وأكوابي القصيرة الممتلئة من جانبيها ، فتشعرني وأنا أضمها بسعادة طفولية غير مبررة، .. وأدوات الصغيرة البلاستيكية من أطباق وصحون يبدو حوض الغسيل مثل سيرك ، أتمهل فيما أفعله لأنه يمتعني كثيرًا، لكن روحي التي تقف هناك في حلقي تنغص عليا تلك الطقوس ، تشعرني طوال الوقت ان هناك ميعاد عليّ أن اسرع لألحق به – كثيرا ما بدى ذلك الموعد مثل اللحاق بالأرنب صاحب الساعة في قصة ” أليس” إن فوته سأغرق في غم ويأكلني الفضول ماذا لو لحقت به لأي مكان كنا سنذهب ، أي حكاية كنت سأعرف !

وإن استسلمت لإغواء الروح وغادرت معها ربما نقع في تلك الحفرة ونبذل ذلك الجهد المؤلم ذاته للعودة لهنا حيث الصغيرة والصحون والمحادثات التي تحتاج للكثير من الإيماءات والهمهمة .

أنغمس هذه الأيام في كتابة ، يصحبها ذلك التشويش وتلك الأحلام التي لها ثقل الواقع ، أعاني من ألم  يشبه تشتت ذراتي ثم عودتها لشكل مادي ، والم التركيز للفصل بين ما هو حقيقي ومتخيل ، للتفرقة بين المحادثات التي وقعت فعلا او التي حلمت بها فقط ، للمصادفات والكوابيس التي أراها في اليوم العادي ويصادف أنها كانت على الورق قبلها بساعات أو ايام .

أنغمس أيضا في تقفي أثر الشتاء والخريف معا .. الخريف الذي يحمل في قلبي طفولة وبرتقال وبلح ورائحة هواء تفتح مسام روحي كلها وتوصمها بالحياة .

أندهش من ذلك الخاطر، من تلك النداءات الخفية داخلي بأني أصبحت أحب الشتاء قبل ثلاثة أعوام على عامي الأربعين .. تعمدت إمرأة وأحببته .

اندهش وتسيل الدموع على وجنتي ، ينكشف السر امامي الآن ، وأعرف أن بغضي للشتاء وقتامته وألمه ترتبط في قلبي بذكرياتي السيئة ، بالصقيع والوحدة التي عصفت بي هناك في ذلك الجانب من الذاكرة .

وان ما أصلح ذلك ، هو كل هدايا الشتاء لي ..

أنظر له وابتسم ، أفكر في ان ما بيننا صار حقيقيا لأن الزمن منحه ذلك الوشم .. يمكنني الآن ان اتذكر كل حماقات علاقتي بمحمد ، بالشتاء الذي تزوجنا فيه ، بمشاعر الإكتشاف لفكرة البيت والاختلاف الفادح بيننا والمفارقات التي سببها ذلك ، بالغضب والعطف ، بلحظات الجنون ومتابعة الرعد مباشرة تحت السماء ، في شتاء جديد ، صرت اضحك كثيرا تحت المطر ، واغني في الشارع على لحن فرقة احبها حضرت معه حفلها الاخير قبل أن تفترق وتتوقف عن الغناء ، تلك الذكري من احب ذكرياتي معه لقلبي .

الشتاء الذي جاءت فيه صغيرتي ، نهاية العام الذي أودعه دائما بذكرى وفاة أمي وأستقبل أيامه الأولى بالاحتفال بميلاد “يسر”

لا يمكن ألا أحب الشتاء الذي أهداني تعاويذ بهجة، ورائحة دفء وصغيرة تسألني طوال الوقت إن كنت مبسوطة يا ماما؟ وأحبك يا ماما أحبك اوي أوي

 

لا يمكن ألا ابتسم لمحمد وأتظاهر بالحماس لكل التفاصيل اليومية العادية المكررة التي نلوكها بيننا .. لعل الخيال الذي بقلبي يمضي جنبا إلى جنب مع العالم الذي يدور من حولي  . لعل الخريف الذي يربت على روحي يسلمني لشتاء هذا العام حيث المزيد من البهجة والغناء والحكايات .

مقالات من نفس القسم