عاطف محمد عبد المجيد
في روايته “الحزينة ” التي أنجز ترجمتها إلى العربية الشاعر والروائي التونسي جمال الجلاصي، وصدرت عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر بالقاهرة، يناقش كارلوس فوينتس ركض المدن نحو الموضة، مُطلقًا عليه الركض الأعمى، كما يناقش قضية الفقر التي عانت منها، ولا تزال، مناطق كثيرة في العالم، متخذًا من أمريكا اللاتينية نموذجًا: المكسيك تحديدًا، وأيضًا حالة التدهور الاجتماعي التي ألقت بظلالها الكئيبة على معظم المجتمعات الحديثة، إلى جانب رصده لوصول بعض الحكام السيئين لكرسي الحكم، وحياة اليأس التي قد تصيب المبدع أوالمثقف حين يشعر أنه بلا وجود في عالم تسيطر عليه سلطة غاشمة سياسيًّا واقتصاديًّا. لم تكن الحزينة، بالنسبة لبطليْ الرواية، مجرد دمية، بل كانت تمثل لهما كيانًا قائمًا ومؤثرًا في حياتهما، درجة أنهما كانا يجعلانها ترتدي أجمل الثياب مما كان يجعل ضيوفهما يظنون أنها من لحم ودم. لقد حاولا أن يخترعا لها حياة متخيلين لها وطنًا وعائلة وماضيًا، وهل هناك ما يمنع من هذا ؟ أهي قليلة الأهمية ؟ لقد أرادا في خيالهما أن يجعلا منها ربة منزل تهتم بتنظيم بيتهما، أن تقوم بالتسوق، أو يحولانها إلى مومس تساهم في نفقات المنزل، بإمكانها أيضًا أن تصبح أمًّا لا خادمة ولا مومسًا، يمنحانها طفلا ويتركانها للعناية به.
الرواية تسلط الضوء على ما كان يحدث في فترة زمنية شهدت تحوّلا لحق بالطبقات الأرستقراطية الغنية، وتدهورًا اجتماعيًّا ملحوظًا، فترة كانت الموضة الرائجة فيها في أوروبا تتجسد في الدادائية، في الوقت الذي لم تحتج فيه السريالية المكسيكية إلى الضمان الأوروبي، خاصة وأن الرواية ترى أن المكسيكيين سرياليون بالفطرة، بالولادة، وتدل على ذلك كل الحيل التي لعبوها مع المسيحية، مازجين القرابين البشرية مع الأضاحي، ملبسين العاهرات أقنعة الآلهة، متجولين آمنين بين الإسطبل والمبغى، بين الأسطورة والتاريخ، بين الماضي والحاضر، الوجه والقناع.
في ” الحزينة ” نجد صوتين راويين، هما صوت طونيو وصوت برناردو، وهما بطلا الرواية، إلى جانب الحزينة، وقد كانا بدايةً طالبين من طبقة فقيرة، قادمين من مدينتين مختلفتين.لكننا هنا أمام راويين مثقفين مبدعين امتهنا الكتابة في ما بعد، وقد كانا يشتريان الكتب، رغم فقرهما، متى توفرت لديهما النقود، وكانا طوال الوقت يتناقشان في ما تحتوي عليه.طونيو يصف الحزينة، الدمية عارضة الأزياء، أو المرأة الخشبية كما تُسميها الرواية، بأنها ذات فخامة عُرس خالدة، وأن ضخامة موكبها لا تُقارن أناقته، وأنها تمثل رؤيا استثنائية بالنسبة لبرناردو وسط ما يسميه بالرداءة الضاجة في شارع تاكوبا، الذي كان طونيو وبرناردو يقتسمان شقة صغيرة فيه. كانا بطلا الرواية، طونيو وبرناردو، يريدان أن يصبحا كاتبين، غير أن أهليهما كانوا يريدون أن يصنعوا منهما محاميين وسياسيين.برناردو كان رومانسيًّا ينتظر أن ينزل إليه الفن والجمال، كما يصفه طونيو بينما يقول هو عن نفسه إنه المسيحي اللائكي الذي استبدل الله بالفن.أما طونيو فكان حالمًا يدّعي أنه بإمكاننا أن نجد الشعر في مغازات الأحذية، ورغم أن هذا ما كان يُغضب برناردو، رفيقه في المسكن والحياة، إلا أنه كان يتساءل: ” مَن في تلك الرحلة لم يقرأ نيرودا ولم يجعل من مبدأ شعرية الأشياء اليومية وشوارع المدن وأشباح المغازات مبدأه الشخصي؟ ” كان برناردو الشاعر المراهق، على حد توصيف رفيقه له، بعد أن وصفه بأنه رأس أسد فوق جسد غزال. في الرواية نجد أيضًا ميلا لإبراز قضية اهتمام البعض بالمظاهر، دون الدخول إلى جوهر الأشياء، مما يؤدي أحيانًا إلى انشقاقات في العلاقات الإنسانية تصل إلى عمق بعيد: ” في الواقع لا أحد يهتم بالمحمل..والناس ينظرون للملابس “.
في الرواية نجد كذلك رصدًا للذين يروحون ضحية للثورات أو الاغتيالات السياسية: ” أليس كل جندي يموت هو ضحية جريمة سياسية ؟ أليس كل موت جريمة؟ نحتاج مدة طويلة كي نقتنع أن الكائن الذي فقدناه لم يكن ضحية جريمة، قبل أن نُرجع موته إلى المشيئة الإلهية “. إننا هنا إزاء عمل روائي يطل الفقر برأسه طول صفحاته مُعبرًا عن أحوال قطاع كبير من البشر الذين تدهسهم عجلات الحياة القاسية، وتخنقهم الفاقة. إنه الفقر الذي لم يدُم، سواه هو والكهنة، شيء آخر في المكسيك أكثر من نصف قرن: ” هل تدرك يا برناردو أن في هذه المدينة ما زال الفقراء يغتسلون بأوراق الذرة، أيُّ قصائد متواضعة وذابحة يمكنها أن تُستلهم من تلك الأحاسيس المحبوسة قسرًا ؟ لأن عالم بؤسنا الريفي المنفي من المزارع المدمرة إلى المدن المراد بناؤها، يحمل معه خوفه من إحداث الضجيج، ومن إزعاج السادة والتعرض لعقابهم “.
الرواية تحدثنا كذلك عن حالة التغيّر التي خضع لها بلد مفتوح لكل الطموحات وفيه الأموال سهلة، والسلطة سهلة وطرق الارتقاء الاجتماعي باتت مفتوحة للجميع: ” اليوم غدت فضاءات شبحية: بيداء تولد من لهفتنا.أنا أرفض النسيان.سيفهمني برناردو لو أخبرته أن هذه البيوت الحضرية المهجورة كانت في ما مضى قصور متعتنا. أن ننساها يعني أن ننسى ما كنا عليه وما كان لنا: قليل من السعادة استحققناها أيام شبابنا، لكننا لم نعرف كيف نحصل عليها “.
ثمة سؤال آخر تطرحه الرواية وهو ما فائدة الأدب وما هي أهميته؟ وهل يمكن للأدب أن يحقق متعة الإنسان، أن يعوض الصداقة مثلا، أن يكون بديلا عن أشياء أخرى؟ مثلما تشير إلى أن البعض يتصف بعدم الوفاء الذي نجده متجسدًا لدى بعض الحيوانات والجمادات: ” سيسخر مني طونيو.من السهل جدا الاعتماد على وفاء عارضة أزياء خشبية.سأجيبه، لا من الصعب بالنسبة إليها أن تعتمد على وفاء رجل من لحم ودم “.
بقي أن أشير إلى سلاسة الترجمة ونجاحها في نقل المشهد الروائي بمفرداته وأحاسيسه إلى القاريء العربي، مثلما نجح كارلوس فوينتس، الذي يُعد واحدًا من أهم كتاب أمريكا اللاتينية، وتم ترشيحه لجائزة نوبل أكثر من مرة، في التعبير عن حالة المجتمع المكسيكي في الفترة التي شهدت بداية القرن العشرين.