هليوبوليس كصورة شعرية

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أية تعويذة ألقاها البارون امبان علي هليوبوليس حتي تصبح هكذا.. مدينة من شعر!

ما اسم الملاك الذي يشد وثاقي إلي هذا المكان حتي أصبح هكذا.. مسكونة بالولع نحوه!

أقرأ كل كلمة تكتب عنه تقريباً،وأسعي للحصول علي كل كتاب يدور في فلكه (ليس لقراءته فحسب،

لكن لمتعة امتلاكه أيضاً)،أشاهد كل صورة التقطت له، وكل مقطع فيديو، وكل فيلم، أتفحص كل وثيقة،

وأتجول بعيني داخل كل خريطة ،كما لو كانت خريطة للوصول إلي كنز.

وكل ما أراه وأشاهده ينمي داخلي إحساساً يصعب وصفه، وكلما قرأت ورأيت أكثر كلما تعمق هذا

الإحساس وإزداد حدة؛ ليس إحساساً.. بل بالأحري صوتاً.

صوت قوي يتردد داخلي منبهاً إياي أنني لم أكتب بعد عن هليوبوليس خاصتي.

هليوبوليس.. ما الذي أريد قوله عن هذا المكان؟ أني أحبه؟ هل سيكفي هذا التصريح؟ لا.. لن يكفيني بالطبع،

ولا أي شيء غيره سيكون كافياً حتي لو تحدثت إلي الأبد.

سأبدأ إذن بالحديث ،في محاولة دؤوبة لإرضاء الولع الغير محدود، إلي أن أصل إلي نهايةٍ ما ،أو بالأحري

إلي بدايةٍ ما..إلي محطةٍ ما.. أقابلها، فأكتفي إلي حين، فقط .. إلي حين.

المدينة- البحر

يقول لوي جوليم: “طويلاً بنيتك أيها البيت/مع كل ذكري أحمل الحجارة/من الأرض حتي أعلي جدرانك/

ورأيت سطحك يصقله الزمن/ متغيراً كالبحر”. (1)

كما أن القراءة هي إعادة كتابة، كذلك فإن مجرد رؤيتنا لبنايات هليوبوليس الساحرة تعد بمثابة إعادة بناء

لها.

وهكذا ففي كل مرة تقع عيناي علي هذا “التعبير المعماري بالغ القوة”(2) ،فإني أعيد تكوينه بنظراتي التي

تعانقه،أتابع المسير والتحديق مأخوذة بالكامل في حالة من الوجد ،كما لو كنت علي البحر والموج يضرب

الشاطيء بعنف ،وصوته يملأ الأجواء حولي ويملأني بالشغف ويعانق آفاق نشوتي الروحية، ثم

يحرّض النسمات لكي تهب برقة في تفهم بالغ لخصلات شعري والوشاح الذي ألتف به وحاجتهما إلي

الإنطلاق.

لكن- يا للحسرة- بدلاً من الإستغراق في هذه الحالة يعود إليّ وعياً مشتتاً يطالبني بضرورة إخفاءها عن

الأعين المتلصصة التي للمارة، فنظراتهم المحدقة إليّ بفضول تشي بعدم سماعهم لصوت هدير الأمواج

الذي أسمعه!

ليس أن الأمر كما يقول غاستون باشلار أنه يستحضر صوت البحر إلي مخيلته ليتغلب به علي ضوضاء

باريس؛ لكن كما أراد جوستاف كوربيه أن يرسم صورة لباريس كما يراها من طابق السجن الأعلي،

ففي رسالة إلي صديق كتب كوربيه أنه ينوي أن يرسم هذه الصورة بالأسلوب الذي يرسم به موضوعاته

 البحرية:سماء عميقه جداً وكل حركتها وبيوتها وقبابها تشبه موجات البحر الصاخبة.

لكن- وللحسرة مره أخري- فإن المسئول في السجن منعه من أن يرسم هذه الصورة ،علي أساس أن كوربيه

لم يدخل السجن لكي يمتع نفسه.(3)

كما لو في بيتٍ ينتمي لي

ربما أنني أشعر كشبحٍ سار هناك لألف سنة، بتعبير الراقصة الأمريكية إيزادورا دنكان في وصفها

لأحد الأماكن ؛غير أنني لست أستعير هذه الحالة الأثيرية في شبحيتها بل في عمقها الذي يغوص فيما وراء

محدودية القدرة البشرية ،هذا لأني أشعر هناك أني حية بأكثر مما أشعر في أي مكانٍ آخر، حية أكثر من

المعتاد وأعمق من المعتاد، تستيقظ حواسي كلها بنفس القوة وفي نفس التوقيت، وأكون كما لو في بيتٍ ينتمي

لي:أستمع لإيقاع خطواتي المتمهل علي أرضية الباركيه، أستنشق رائحة الغليون الذي يدخنه صديق قديم،

ألمس الدفء الكامل، أتذوق الطمأنينة اللانهائية، ثم – وبوضوح – أري الحقيقة، وأشعر برغبة قدرية في

مصافحتها؛ لكن يحول الواقع البشري المبتذل بيننا، ويخلّف لي الغصّة وحسب..الغصّة نفسها..في كل مرة.

عن روح المكان

أري التراجيديا ماثلة أمامي في سؤال المصير،أري كما يقول جورج سانتيانا- بالحدس وحده- أبطالاً من

ذوي الجمال والفضيلة ،وعواطفهم الموسومة بالنبل والبهاء،أري كل الأشياء الثمينة تهوي أمام عينيّ (4)،

وكأن أصداء أغنية “ميلودراما” لأندريا بوتشيلي تتردد هنا منذ الأزل، وكأنني أسمع من بين هؤلاء الأبطال

عاشقاً جريحاً يغنيها

Li e nato il mio destino amaro senza te (5)

تأخذني خطواتي نحو الكنيسة لأصلي شاكية كل أشكال القبح التي تسحق المعني، ثم أخرج من هناك بعيون

مبللة بالدموع وآمال ساذجة في استجابةٍ ما؛ لكني لا أجد سوي كشافات السيارات المسرعة وقد وهبتها

 دموعي هالات حولها،لا أجد سوي الكلاب الضالة بنظراتها الشريرة ،لا أجد سوي التعساء والمشردين

والمجانين، لا أجد سوي مظاهر الدمار التي تزحف نحو المكان.

ولا يحزنني تأثيرها البشع الذي يصيبني بالغثيان ،بقدر ما يحزنني التفكير في الشرور التي ترتكب وتمر

هكذا دون مبالاة ، ظناً منها أنها ستفلت من القصاص.

  لكن أي عزاء بدون قصاص؟ وأي أمل في القصاص بدون الفن؟ يقول آلان باديو إن “الفن هو ما يقوم

بتحقيق العدالة تحقيقاً كاملاً للحدث”، فالفن هو ما يمكن أن يعول عليه لتخليد روح المكان كأحد أشكال

المقاومة الإيجابية ضد محاولات طمسها.

و روح المكان أعني بها أيضاً – ضمنياً وبديهياً- كل ما حدث/يحدث هنا، كل لحظة إلهام ،كل دفقة شعرية،

كل حكاية إنسانية ،كل تراجيديا ،وكل قصة حب.

شارع بغداد.. الكوربة

ها أنا الآن قد وصلت إلي المحطة التي سأقابلها فأكتفي إلي حين،أو بمعني أدق ليست محطة، لكن وجهة

الوصول التي من أجلها قطعت الرحلة ،المكان الذي أستقر فيه بروحي ولا أغادره،بل أنطلق منه لكل شيء

آخر لأعود إليه في نهاية المطاف،وصلت إلي المكان الذي تعرّض لأقل التغييرات في هليوبوليس وهو

ميدان الكوربة أو

La courbe

حيث تبرز جماليات هليوبوليس كصورة شعرية ،والتي تعتمد في أحد جوانبها علي التضاد بين الأسطح

الضخمة الملساء للجدران وبين التفاصيل المعمارية التي اختار المهندسون لها المواقع الصحيحة. (6)

هنا حيث شارع بغداد بأعمدته الباهرة والشرفات المقوسة الآسرة ،هنا حيث المكان الذي أجد فيه من الإلهام

والسطوة والتأثير ما يكفي ليسلب عقلي ويأخذ أنفاسي.

هنا حيث تتجلي روح المكان في أبهي صورها، تلك الروح التي تمتلك ضوءاً داخلياً ، الضوء الذي تعرفه

البصيرة الداخلية، وتعبر عنه بعالم من الألوان الرائعة،عالم ضوء الشمس(7) ، حيث التجسيد الأمثل

لاسم هليوبوليس: مدينة الشمس.

 فالشمس تشرق هنا لتقوم بمهمة جمالية بحتة ،حيث تضرب الواجهات والشرفات كضربات الفرشاة علي

الكانفاز

canvas

تماماً حيث يجب أن تكون ، كما لو كشاف ضوء بيد عامل صالة السينما يقودني إلي حيث مكاني الخاص،

هكذا.. فالشمس تسلط أضواءها علي المباني كما لو عن عمد، أسمعها تقول: أنظري هنا تأملي، ما رأيك

هكذا؟ إنتظري قليلاً ،سألقي بعض الضوء هنا،وأسمح ببعض الظلال هناك ،ما رأيك أليست رائعة؟

نعم إنها رائعة..إنها مذهلة مثل قول بودلير “إسكروا بالخمر أو بالشعر أو بالفضيلة”، وها أنا سكري

بالشعر.. بهليوبوليس كصورة شعرية.

هذه الصورة التي تصبح وجوداً جديداً في لغتي، التي تعبر عني بتحويلي أنا إلي ما تعبر عنه ،هنا حيث

 يخلق التعبير الوجود. (8)

  هل لأن هليوبوليس القديمة كانت مصدراً للمعرفة العميقة ، فإن هليوبوليس الحديثة هي صورة

شعرية انبثقت عن هذه المعرفة؟

تري هل كان إرنست جاسبر(9) يحمل هوس الشعر الذي تحدث عنه أفلاطون؟

أم أن فن العمارة ينطوي في ذاته علي الشعر؟ أم لأن الشعر هو في الأساس جوهر الفنون كلها ؟

  كنت أعرف منذ البداية أنني لن أكتفي مهما تحدثت ، لكني أشعر بالإرهاق إلي حد أني بالكاد أستطيع

تمييز الحروف،سأتوقف الآن إلي حين.. فقط إلي حين.

………

هوامش:

(1)غاستون باشلار،جماليات المكان،ترجمة غالب هلسا،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،

الطبعة الثانية،1984،ص 73

(2)أجنيسكا دوبروفولسكا وياروسلاف دوبروفولسكي ،هليوبوليس مدينة الشمس تولد من جديد،الهيئة

المصرية العامة للكتاب،2008،ص 73

 (3)غاستون باشلار،(مرجع سابق)،ص 54

(4)جورج سانتيانا،الإحساس بالجمال،ترجمة محمد مصطفي بدوي،المركز القومي للترجمة،2011،

ص 245

(5) أغنية “ميلودراما” هي إحدي الأغنيات الشهيرة لأندريا بوتشيلي، والجملة المأخوذة منها تعني

 بالعربية:”بدونك.. مصيري ينضح بالمرارة”.

 (6)أجنيسكا دوبروفولسكا،(مرجع سابق)،ص 86

 (7)غاستون باشلار،(مرجع سابق)،ص 21

 (8)المرجع نفسه،ص 22

 (9) إرنست جاسبر هو المهندس الذي عهد إليه البارون امبان بوضع تصميمات هليوبوليس.

…………………………

نشر في أخبار الأدب

مقالات من نفس القسم