البشير الأزمي
“احتفِظْ بفرحك للعيد.. اليوم يوم بكاءٍ ونحيب..”.
كلما استرجعتُ كلام أمي، استحضرتُ وجهها الصبوح، يذكرني وجهُها برقصة الطيور عالياً في سماء خلت من السحب.
اليوم، لا السماء خالية من السحب ولا الطيور تحلق عالياً.
بدأت ذكرياتي تنزلق كسائل على صفحة عقلي، أحاول لفظها فأعجز. أتركها تنساب أمامي وأسحقها تحت ضغط قدمي. ما عدت أستحمل نزيف الذكريات.
لماذا علي أن أتذكر ما مَرَّ بي من أحداث؟ لماذا لا تصير ذاكرتي ملآى بثقوب تنساب منها ذكريات أفاضت همومي وأردتني أعيش على هامش القلق؟
أقف، اليوم، صامتاً واجماً أمام صورة أمي الموضوعة في إطار على الجدار. لساني كتلة ساكنة لا تقوى على الحركة.. لا تقوى على البوح. ما جدوى البوح إن كنت أعرف مسبقاً أنَّه لن يزيدني إلا قلقاً وحزناً، أحاول أن أُسِرَّ إلى أمِّي بكلمات مقتضبة.. كلما استعدتُ صورتها تبدو لي مسحوقة بألم لا حدود له؛ وجهٌ مَكْدُودٌ.. وهالةٌ سوداء تحيط بعينيها.. أَحِسُّ بقلبي ينقبض.. الفرحُ اليومَ لا ظِلَّ له..
تناغيني الذكريات..
صُوَرٌ تحضر وصورٌ تنفر من ذاكرتي.. ينثرُ الخوفُ في بدني رجفة.. صورُ أطفالٍ يعبثون بِلُعَبٍ صنعوها ممّا تَجَمَّعَ لديهم من نفايات صلبة، وزمان قاهر يعبث بهم.. أبي واقف إلى جنب صَبية يتأمَّلُ صدرها الذي بدأ يَتَكَوَّرُ، تنزلق عيناه إلى صدرها، ترسو بين النهدين. أخفض رأسي بِذُلٍّ وأنا أرى، من بعيد، الأطفال يتبادلون الابتسامات فيما بينهم.. يسترقون النظر إلىيهما، يقهقهون، يصرخون ويعدون مرددين اِسْمَيْ أبي والطفلة مُطَعِّمينَهما بألفاظ نابية تشير إلى أعضاء حميمية.. أخجل من نفسي، أتقهقر، يتَيَبَّس الفرحُ على شفتي.. أتأبط أحزاني وأغادر المكان باحثاً عن أحلام غَضَّةٍ أرتق بها جراحي…
تَدَثَّرَ الليلُ بالصمت وأوحشَ المكانُ، صدى ألفاظ الأطفال وقهقهاتهم مازالت تطرق أذني وتخدشهما. خطواتي تبث حزني لدروب وأزقة القرية التي تغط في سكون تنيره الفوانيس..
أعود إلى البيت..
أجلس عند السرير الذي كانت ترقد فيه أمي. أغمض عينيَّ.. فتبدو لي أمي جالسة قربي، وجهها ممتقعٌ شاحِبٌ والحياة بدأت تجفُّ في عروقها.. تَنِزُّ دموعٌ من عينيَّ فأنضحها بظهر كفِّي.. أستتر بظلمة الليل وأخفي فيه دموعي.. طيف أمي يمثل أمامي، يقترب منِّي يمدُّ يديه لي، ألتقطهما وألثمهما. نبعُ الحنان يسري في جسدي. يبوح لي، بَوْحُه يقف عند بوابتي أذننيَّ ساعياً لطرقهما، يختلط البوحُ بنشيج يقرع أذني، أستعين بأُنْمُلَيْ سَبَّابَتيْ وأصُدُّ البوح..
عاد أبي إلى البيت، غاب عنه الهدوء والحنان اللذين كانا يشفَّان عن طيبوبة روحه قبل حين وهو يتحدث إلى الصبية.. وَلَّعَ ضوءَ مصباح الغرفة حيث أرقدُ.. اقترب من سريري.. لاحظ خدَّيَّ المبللين بالدموع، استفسر عن سر بكائي.. ظللتُ صامتاً وصورة الأطفال وهم يقهقهون تخدش أذني وتغرز في روحي رماح الضغينة. تمتم بكلمات لم أتبين معناها، صاحبها بإشارات من يديه، استشاط غضباً وخرج. كَتَمْتُ غيظي آملاً أن يتلاشى غضبه.. أَسْرَحُ بأحلامي محلقاً في سماء الأمل، باحثاً عن دفء يملأ الفراغ الذي خلفه غياب أمي لأنعم بطلعتها لتبدد وحشة العشق وتخفف من وطأة الحرمان..
غفوتُ..
في ظلمة الليل، أمي واقفة أمامي تنظر إلي بحنو.. تقترب مني وتهمس لي: “احتفظ بفرحك للغد.. غداً يوم عيد..”. تستدير، تبتعد وتترك جمرة تشتعلُ في صدري..
كلامها طرد أحزاناً صغيرة من قلبي…ونثر بعضاً من فرحٍ في جسدي..
يوقظني فرحي.. أتأبط أحلامي وأغادر البيت باحثاً عن أفراح غَضَّةٍ أرتق بها ما بقي بي من جراح.. تحت لظى شمس حارقة أشق طريقي بين دروب القرية، عند جدار المدرسة أقف.. أرى ظلي منعكساً على الجدار.. أقتربُ منه، أُصافحه وأعودُ..
أُحسُّ بحركة، ألتفتُ خلفي، أرى ظلِّي ما زال ثابتاً على الجدار، يهمس لي:
“احتفظ بفرحك للغد.. غداً يوم عيد؛ اِعشق بعمق هذا الغد.. وانثر الفرح حواليك.. هذا الفرحُ لا ظِلَّ له.. إنَّ السعادة تتوالد بالعشق..”.