ممدوح رزق
قسوة قادة الفرق الجرمانية المأجورة في إيطاليا أقل بشاعة من تعامله معي أحياناً كأبيه، أو أمه، أو السيدة (نون)، أو أي شخصية أخرى، حيث يُبدع في خلق اللغة العدائية اللازمة للتعامل مع ذلك الواقع.
يمكن لنا تبادل الشخصيات باستمرار داخل لوحات (ادموند بلير ليتون) عن القرون الوسطى؛ لكنه ربما يصر على التمسّك بشخصية الموسيقي، والشاعر الحزين، المنكسر، خائب الأمل، ويعطيني شخصية الحبيبة، الجميلة، التي تضع يدها على كتفه، وتحاول بعينيها، وبصوتها أن تُعيد إليه الحياة .. الحالة الوحيدة التي قد يرضي حينها بأخذ شخصية الحبيبة هي تفكيره في الانتحار.
أثناء كلامه عن (الجاز) يتعمّد الهمس؛ فأضطر للاقتراب منه أكثر كي أسمع جيداً ما يقوله عن (نيو أورلينز)، والمهاجرين، والعبيد، وحقول القطن، و(الفالس)، و(البولكا)، والألحان الإفريقية، وأغاني الكنائس، والصرخات.
أصابني الإحباط الأقوى لحظة غياب الانفعال، والتأثر عن وجهه حينما دخل العيادة ذات يوم، ووجد ملابس العصور الوسطى معلّقة على الحائط، وأسلحتها متراصة فوق المكتب، وصوراً لخانات فقراءها، ومسافريها مطبوعة على الـ (تي شيرت) الذي أرتديه.
ما الذي يعنيه أن يحلم دائماً برجل عجوز، جالس في دكان قديم، ضيق جداً، لا يعرف في أي حارة عتيقة يوجد، ولا ما الذي يبيعه، بل أن ملامح العجوز نفسه تتغير كل مرة، لكنه يضع دائماً صورة (السادات) بالأبيض، والأسود وراءه فوق الجدار .. حلم يراه في النوم، وفي اليقظة.
بالطبع التنبيه الخاص بغلق الموبايل لا نقاش فيه، لكنه أحياناً يتعمّد تركه مفتوحاً، بل، ويتعمّد أحياناً أن يطلب من أحدٍ ما الاتصال به وقت الجلسة كي يُسمعني الرنّة .. وجدتها مرة صوت (محمد عبد الوهاب)، وهو يهنئ (محمد التابعي) برجوعه من (رأس البر).
لا شيء يدعو للخجل .. الخجل نفسه ليس مكروهاً بالتأكيد، بل دعنا نقول أن عليك أن تترك نفسك لتلقائيتها .. خذ بالك أن مقاومتك للتلقائية هو أمر بديهي أيضاً .. أنت تفهم بالطبع أنني أتحدث عن كلامك الواثق، المتدفق من يقينك عن عدلٍ ما .. عن مبادئ عامة، وأخلاقيات ثابتة يمكن الرجوع إليها، والقياس على بداهتها في جميع الأحوال .. كل هذا عادي جداً، فإذا كان عليك أن تشعر بنوع من الإحراج نتيجة إيمانك السري، المُضمر داخل كل كلامك الواثق عن يقينك؛ فلا تأخذ ذلك الإحراج على محمل شخصي كأنه بقعة طبيخ في قميصك النظيف، المكوي جيداً .. هذا الإحراج ليس فيه مشكلة، وإيمانك السري بأن ما يُعد دوافعاً عنيفة، أو سيئة، ومريضة هو بمثابة الخير الخالص ـ هذه دعابة لأنك تعرف أنه لا وجود لشيء يحمل هذه الصفة ـ هذا الإيمان ليس فيه سمة الحقارة، أو الفاشية، أو الظلم .. كل هذا لا معنى له .. مجرد كلمات تُستخدم لادّعاء الجدية .. لغة مخصصة لتدليل العبث بمزيل عرق يُسمى الحقيقة .. كما أنه لا بأس لو كنت ـ بأي معيار استهلاكي ـ حقيراً، أو فاشياً، أو ظالماً .. اعتبرها لعبة يا أخي، كل ما يمكن أن يحدث لابد، وحتماً أنه جزء منها .. رغبة شهوانية لازمة لوجودها.
لا يفتح شات فيسبوك مطلقاً، وهذا يؤلمه .. في المرات النادرة التي يفتحه فيها، لا يبادر بالتحدث مع أحد، وهذا يؤلمه أكثر .. حينما يغلق شات فيسبوك في نهاية اليوم الذي شهد إحدى المرات النادرة التي فتحه فيها دون أن يبادر أحد بالتحدث معه فإن هذا يؤلمه أكثر، وأكثر .. لحظتها يفتح (الصوت المنفرد) لـ (فرانك أوكونور) على الفور، ويقرأ الجملة الافتتاحية، المهووس بها: “يا للعجب! لقد كان في هذا المكان يوماً ما رجل يُدعى (نيد ساليفان)، وقد حدث له شيء غريب في ساعة متأخرة من إحدى الليالي، وهو قادم في طريق (فالي رود) من (دارلاس) “.
………………………..
من رواية “الفشل في النوم مع السيدة نون” ـ دار الحضارة 2014