كيت شوبان
ترجمة: د. إقبال محمدعلي
مامزيل أًوريلي، أمرأة قوية البنية، ذات خدود موردة، عينان حازمتان وشعرٍ بُني بدأ يغزوه الشيب. تلبس قبعة رجالية عندما تتجول في الحقل ومعطفاً ازرق عسكرياً قديماً حين يَبُرد الجو، وتنتعل جزْمة في بعض الأحيان. مامزيل أوريلي، لم تفكر بالزواج يوماً، ولم تقع في الحب يوماً. في سن العشرين تقدم لها طالب زواج، في سن الخمسين، لم تندم على رفضها ذلك العرض.
كانت وحيدة في هذا العالم إلى جانب كلبها بونتو وعمال السخرة الزنوج الذين يعيشون في احد اكواخ مزرعتها.. دِيّكة رومية، بضعة بقرات، بَغلين، مسدس لاصطياد الصقور والكتاب المقدس.
في صباح أحد الأيام، كانت مامزيل أوريلي، تقف متخصرة في الشرفة الأمامية لبيتها، تتأمل ما حولها، وفجأة شاهدت جمعاً من الصغار جداً، يمشون باتجاهها، لكأنهم سقطوا عليها من الغيوم، لقصدٍ أو غايةٍ ما. مجيء محير، غير متوقع أو مرغوباً به. كانوا اولاد ( أوديل) أقرب جارة لها- ان جازَ القول – لأنها في الواقع تسكن على بعد عشرات الكيلومترات من مامزيل. بعد خمس دقائق، ظهرت المرأة امامها مع صغارها الأربعة.كانت تحمل على يدها ابنتها الصغيرة ( لودي) و تجرجر باليد الأخرى (تي نومي) بالقوة.. تتبعها (مارلين ومارسيل) بخطىً مترددة.
كان وجهها شديد الإحمرار لا يمكن تمييز ملامحه بسبب الدموع و الانفعال. طلبت إدارة أبرشية القرية المجاورة حضورها الفوري لمرض والدتها الخطير .. كان زوجها في تكساس – كان يتراءى لها ان تكساس تبعد عنها قرابة مليون ميل. كان فالسين، ينتظرها بعربته التي يجرها بغل، لإيصالها إلى محطة القطار.
أنا لا أسألك مامزيل أوريلي… عليك ان تعتني بصغاري لحين عودتي … الله يعلم أنني لم أرد مضايقتك، لكن لا حيلة لي …علميهم كيف يطيعونك ولا تكوني لينة معهم …ساعديني أرجوك، فأنا حائرة ما بين التفكير بأمي التي من الممكن ان تموت في أية لحظة وبين صغاري .. ليون ليس في البيت. وضع أوديل المحير البائس، أجبرتها في النهاية، ترك عائلتها التعيسة، بيد مامزيل. تركتهم واقفين في الجزء الظليل الضيق من مدخل البيت الواطئ الطويل. كانت أشعة الشمس القوية تضرب ألواح سقف البيت القديمة. بضعة دجاجات، ينبشن الحشيش بالقرب من درجات الشرفة.. صعدت إحداهن بخطى بطيئة، شجاعة، تتبختر في أنحاء الشرفة.كانت رائحة القرنفل تملأ الهواء وضحكات العمال السود تصل عبر حقل القطن المزهر.
وقفت مامزيل تتأمل الصغار .. ألقت نظرة متفحصة على مارلين التي كانت تترنح من ثقل أختها الصغيرة الممتلئة (لودي)… وعندما حولت نظرها إلى مارسيل، وجدتها تبكي بصمت مصحوب بشهقات مسموعة. وأخيرا المتمرد ( تي نومي) .. كانت تحاول في لحظات تأملها السريع، أن تستجمع قواها لاتخاذ قرار بشأن ما عليها فعله بشأنهم. قرار يتوافق ومسار واجبات عملها اليومي: عليّ البدء باطعامهم.
إن كانت مامزيل تعتقد، أن مسؤوليتها ستبدأ وتنتهي بحدود إطعامهم، فهي مخطئة، لأنها اكتشفت ان مخزن مؤونتها لم يكن مهيئاً لحالة طارئة من هذا النوع و هؤلاء الصغار ليسوا خنازيرها الصغيرة: أنهُم بحاجة إلى عناية ورعاية من نوع خاص الشيء الذي لم يكن متوقعاً من مامزيل معرفته، لفقر خبرتها في هذا المضمار. كانت تعوزها الفطنة و المهارة في كيفية تسيير امور، صغار أوديل، في الأيام الأولى من وجودهم معها. فأنى لها ان تعرف، أن مارسيل ستبدأ بالبكاء حالما يتكلم معها أحد بصوت آمر، عال؟ حالة غريبة لمارسيل. لكنها أنتبهت إلى ولع (تي مومي ) بقطف زهور الكَاردينيا والقرنفل لدراسة خصائصها النباتية. وأخذت بنصيحة الصغيرة مارلين في كيفية التعامل معه عندما يتمرد عليها: مامزيل، لا تسأليه، عليك بشده إلى الكرسي حين يسيء التصرف، هذا ما تفعله امي دوماً. ما إن ربطت مامزيل تي مومي بالكرسي المريح الواسع حتى غط بنومٍ عميق، وساهم جو ما بعد الظهيرة، الدافئ، في ذلك ايضاً.
في الليل: أمرتهم بالنوم لكأنها تكش دجاجاتها إلى القفص.. لم يفقهوا كلمة مما قالت، وظلوا واقفين أمامها، منتظرين بوجوه حائرة !!.. ماذا عن أردية النوم البيضاء التي حشرتها أمهم في كيس المخدة والتي تحتاج إلى يدٍ بقوة سوط الثور لنفضها من داخل الكيس!!! … و ماذا عن سطلة الماء التي يجب جلبها و وضعها وسط الحجرة ليغسلوا أرجلهم المتربة التي حرقتها الشمس؟ الشيء الآخر الذي جعل مارلين ومارسيل تغطان بالضحك، أن مامزيل أوريلي لا تعرف ان تي مومي لا يستطيع النوم، ما لم يقص له احد، حكاية ( كَرو – ميتان) أو (لوو – كَارو) أو كلتيهما؛ وان الصغيرة لودي لا تستطيع النوم أيضاً، دون أن يهزها أو يغني لها أحد.
شًكًتْ مامزيل لطباختها العمة روبي، بتكتم : بصراحة، أنا افضل إدارة اثني عشرحقلاً على أن أعتني بهؤلاء الصغار. أنا مرهقة… أجابت العمة روبي: لم أتوقع منك معرفة الكثير، آنسة أوريلي. لقد رأيت ذلك بوضوح يوم امس، عندما كان الصغير يلعب بسلة مفاتيحك. ألا تعرفين أن اللعب بالمفاتيح، يجعل الصغير عنيداً في شبابه؟ هذه اشياء يجب أن تتعلميها عند تربية الصغار. لم تكن مامزيل تسعى لمقارنة خبرتها الساذجة البسيطة بخبرة امرأة ربت خمسة من الأولاد ودفنت ستة. كل ما كانت ترغب به في وضعها الحالي، تَعلمُ، بعض الاعيب وخدع الأمهات لتستعين بها وقت الحاجة.
بعد مرور أسبوعين، بدأت مامزيل تتعود على طباع الصغار وتوقفت عن التذمر. أجبرتها اصابع تي نومي الدبقة في البحث عن مأزرها الأبيض الذي لم تلبسه لسنوات .. وكان عليها الاعتياد على قبلاته تبلل وجهها، معبراً بها عن كل ما في داخله من حنان وطبيعة مازحة، مرحة. أنزلت سلة الإبر و الخيوط التي كانت قلما تستعملها، من الرف العالي لصيوانها ووضعته في متناول يدها، كي ترقع ثيابهم و تخيط أزرار سراويلهم عند الحاجة… أخذت البعض من الوقت للتعود على صدى ضحكاتهم، بكائهم وثرثراتهم التي كانت تملأ البيت وما حوله، طوال اليوم، وأخذت ليالي للتعود على لفحات انفاس لودي الصغيرة الدافئة تضرب وجنتها مثل رفرفة جناح طائر صغير.
في نهاية الأسبوعين، كانت مامزيل واقفة مساء، تراقب عن بُعد حضيرة الماشيةحيث كان العمال يعلفون الأبقار، وحين أشاحت بوجهها، لمحت عربة فاسلين الزرقاء تنعطف باتجاه بيتها. كانت أوديل تجلس بين السود بظهر مستقيم وتأهب، عندما اقتربت العربة أكثر فأكثر .. أعلن وجه أوديل المتوهج فرحاً، حمل أخبار طيبة.
أثارت عودة أوديل المفاجئة القلق والاضطراب في نفس مامزيل … عليها جمع الأطفال. أين تي نومي ياترى؟ لمحته في الحضيرة يشحذ سكينته في الرحى…. مارسيل ومارلين؟ جالستان، منشغلتان في زاوية الشرفة تقيطع الخرق لتفصيل ثوب للعبتهن و لودي على ذراعيها.. صرخت لودي بسعادة عندما رأت العربة المألوفة الزرقاء تحمل، امها، إليها……. .
وهكذا، غاب الفرح برحيلهم وعَمَ السكون … ظَلَت واقفة في الشرفة تتسمع إلى اصوات الصغار وضجيج العربة .. بعد دقائق، لم تعد قادرة على رؤية شيء، فلون شمس المغيب الأحمر و الشفق الرمادي صبغا الضباب الذي كان يزحف ليغطي الحقول والشوارع بلون البنفسج. لم تعد تسمع، صفير وصرير عجلات العربة، لكنها كانت تستطيع سماع صرخات الأطفال السعيدة العالية، تصلها خافتة من بعيد.
دخلت البيت… كان أمامها الكثير من العمل، لأن الصغار تركوا المكان في حالة فوضى لا يحسد عليها… لكن مزاجها لم يساعدها على الإطلاق في البدء بترتيب المكان. جلست على الكرسي القريب من الطاولة، ألقت نظرة على ما حولها.. العتمة بدأت تغمر الحجرة وتغمر روحها معها… ألقت برأسها على ذراعيها وشرعت في البكاء. لم تنتحب بصوت خافت كما تفعل النساء عادة … بل بكت بصوت عالٍ كما يفعل الرجال، حتى كاد عويلها أن يمزق صدرها. لم تنتبه لبونتو يلحس يدها.
………………….
*بعد وفاة زوجها بمرض الملاريا، باعت (كيت شوبان)، كل ما تركه لها من أملاك لتسديد ديونه الكبيرة. بدأت تدير المتجر الذي كان يمتلكه وأتخذت من الكتابة مصدر عيش لإعالة نفسها و أولادها.
2019/04/18