لقيت أعماله إعجابا، ودعما بحسب ويكيبديا، من شعراء أمريكيين كثيرين بينهم تشارلز سيميك الذي ترجم له “بريد ليلي: مختارات” وماكسين تشيرنوف وبول هوفر وديفيد باراتيير وأندريه كودريسكو.
القصيدة التالية ترجمها من الصربية إلى الإنجليزية الشاعر الأمريكي “تشارلز سيميك”.
***
حوار
كيسُ له ساقان
يوقفني في الشارع
ويسألني
عمّا أحمله في أكياس
تحت ذراعي
حملا حملا حملا
لا شيء
لا شيء
لا شيء
عندليب ميت
دجاجة ميتة
***
عندما يقول شاعر في قصيدة إنه كلما يفتح معجمه يجد يدا تمتد منه فتصافحه وتأخذه من يده إلى الكلمة التي يبحث عنها بالضبط، أو ربما الكلمة التي ينبغي أن يبحث عنها، أو ربما الكلمة التي يكتشف بمجرد أن يصل إليها أنها التي كان يبحث عنها طول عمره، فلنا أن نعمل أذهاننا، أو خيالنا على وجه الدقة: ما هذه اليد، هل هي يد القاموس، أم هي يد اللغة كلها، أم هي يدٌ من غير هذا العالم تمتدّ لشاعر منا فتهديه إلى طريقه في هذا التيه؟
ولكنه، أعني ذلك الشاعر الوهمي الذي نؤلفه الآن، قد يقول إنه كلما يفتح القاموس يجد يدا خماسية الأصابع تمتد إليه. ها هنا، يقول الشاعر شيئا آخر، يقول إن في المعجم بشريا، فنحن جميعا نعرف أن الأيدي خماسية الأصابع هي أيدينا نحن معشر البشر. طبعا قد تشترك معنا مخلوقات أخرى في عدد هذه الأصابع، ولكننا سنفهم الإشارة، سنفهم لماذا حرص الشاعر أن يذكر لنا عدد الأصابع. يريد أن يقول إنها يد بشرية، وإن أيدينا بالمثل قادرة أن تسوقنا إلى حيث الكلمات التي نحتاج إليها.
وهنا، لماذا يكون الكيس ذا قدمين؟ لماذا هذه المسحة البشرية؟
لقد كان بوسع ترجمة أخرى لهذه القصيدة، أن تصف الكيس بأنه ثنائي السيقان، لولا أنها صيغة ظاهرها العلم وباطنها الخشونة فيما نستشعر. فلو أن في الإنجليزية مثنى لما لجأ المترجم ـ في ظننا ـ إلى هذه الصيغة. ولكن، ربما كانت صيغة ثنائي السيقان لتكون أيضا أقرب إلى روح القصيدة، فهي بطريقة ما تشير إلى طبيعة الكيس الشيئية، في حين تشير صيغتنا نحن ـ فيما نرجو أو نشعر ـ إلى طبيعته البشرية.
والآن، هل يريد الشاعر أن يقول إن كيسا بشريا أوقف أحدهم في الطريق وسأله عما يحمله في أكياسه حملا حملا حملا؟ هل يريد أن يقول إن من الممكن اختزال البشر ـ دونما ظلم لهم ـ في مشترياتهم التي يرجعون محملين بها من الأسواق؟
أم هو يريد الغرابة، ويقرئنا قصيدة فيها كيس، كيس فعلي، يوقف إنسانا ليطرح عليه سؤالا هو ربما اعتراض منه على ما يرهق به الإنسان أخا له في الكيسية؟
تحتمل القصيدة على قصرها هذا. تحتمل أن يكون الشاعر قد نظر حوله فلم ير إلا أكياسا تقابل أكياسا في الشوارع، أكياسا تتصافح، وتتحادث على عجالة، وتفترق، لتتلاقى بأكياس أخرى، في بيوت ليس فيها إلا أكياس أمام الشاشات، وعلى الأرائك والأسرة.
وتحتمل أن يكون كيس فعلي هو الذي أراد أن يوقف واحدا منا ليسأله عن الداعي ليس فقط إلى أن يرهق الأكياس كل هذا الإرهاق، بل وعن الداعي إلى وجود الأكياس نفسه ربما.
***
في نهاية كل شهر، أو كل أسبوع، أو كل يوم، يحصل سعداء الحظ منا على رواتب وأجور وربما مكافآت إن كنا من المرضي عنهم والضالين. في نهاية كل شهر نحصل على هذه الأوراق الملونة الجميلة، لكن أحدا لا يقول لنا بوضوح: لقاء ماذا حصلنا عليها بالضبط؟ فنحن نفهم، أو يحلو لنا أن نفهم، أنها ثمن عمل قدمناه، عملٍ هناك من هم بحاجة إليه لدرجة أن يدفعوا فيه مالا. وهذا صحيح. وصحيح أيضا أنه ثمن الشهر الماضي، ثمن الأيام الثلاثين، ثمن المئات من الساعات. ابتكرنا نحن البشر هذه الطريقة لتحويل الزمن إلى نقود. والنقود من بعد إلى أكياس
وتريدون أن تعرفوا ما الذي في أحد هذه الأكياس:
عندليب ميت
دجاجة ميتة
طبعا، بعضنا يرجع إلى البيت بأكياس فيها مثلا أسطوانات، فيها كتب، فيها فن، فيها هواتف ذكية وكمبيوترات. وهي مهما تباينت، أشياء. يمكن أن تُردَّ إلى نقود، ولكنها لا يمكن أن ترد إلى زمن، إلى حياة تبقى محجوبة عنا بقدر ما نضع بيننا وبينها من جثث صالحة للاستخدام.
***
ولعل القصيدة لا تعدو أن تكون هجائية صغيرة. قابل الشاعر في طريقه من اقتحمه سائلا إياه عما معه، لعل الشاعر أراد أن ينال من هذا الفضولي فيختزله في كيس. ولكن الشاعر بالمصادفة فتح دفتر شعره لا دفتر يومياته، فصار عليه أن يحيل غضبته هذه إلى ما يصلح أن يستهلكه الآخرون، إلى فن، فكان عليه ـ في تلك اللحظة ـ أن يرى أنه هو الآخر كيس مثله، وأن فيه هو طائرين، أحدهما صالح فقط للغناء، والآخر صالح فقط للغذاء، لكن الاثنين ميتان. ولعل ذلك أنبل ـ أو من أنبل ـ ما يفعله الفن في أصحابه: ينبههم أنهم في مركب واحد مع الباقين، مهما شعروا بتفردهم.