يعيش حياته ما بين عمله وبيته وزيارة أقاربه على فترات طويلة، يقدم مصالح الجميع قبل مصلحته او مصلحة بيته وأطفاله، يقدم الخير بيمينه ولا ينتظر أن تحصد شماله شيئا، هذا المنطق لا يتماشى مع مجريات الأمور كثيرا فالدنيا غالبا ما تعطى ظهرها لهؤلاء المسالمين، وبينما تُقبل على هؤلاء المتفلسفين الذين لا يملكون سوى أبواق تطن هنا وهناك فتجعل لهم صدى يتردد فى الاركان يحصدون منه جاها ومالا واحيانا السلطان، كان هو واحدا ممن جارت الدنيا عليهم فى عمل ، أُقِيل منه تعسفا بفعل شياطين الإنس التى تجوب منابر الطائعين، تمسّك بمنطق العدل الذى لابد وان يسود أخيرا، والحق الذى لابد وأن يعود لأصحابه يوما وانتظر، وتساءل: كيف لدولة الظلم بعد هذه الثورات وكل هذه الدماء التى سالت أن تنتصر؟ تيقظ من غفلته محدثا نفسه: الثورات التى لم أشارك فيها ، ولم أخرج من بيتى ولم أفارق كنبتى ، ولكنى كنت متفاعلا معهم اشد على ايديهم فهم يقومون بعمل بطولى لزوال هذا الكم من الفساد المتراكم الذى أوصلنى لما أنا فيهم ، نعم كنت اشد على أيديهم ، وكنت أحزن كلما سقط منهم قتيل ، او جريح ، ولكنى لم امد لهم يد المساعدة ، صمت كمن يعاتب نفسه.
تمر الايام سريعة بلا عمل ، يفتش فى كل مكان لا صدى ولا رد ، الكل تنصل من معرفته كأنه وباء ، رئيسه فى العمل الذى كان يعد له التقارير لينال عليها الترقيات ، الزميل الذى كان يحسبه الصديق الصدوق وقد اقتسما معا العيش والملح ، يتعلل بضيق الوقت وضيق العيش وتوقف حال السوق ، لم يعد للعيش والملح مكانته التى كانوا يحلفون بها قديما ك يمين للحلف على الصدق فى الكلام ، الزميل الآخر الذى علمه ألف باء عمل أصبح يعتلى منصة الإدارة، ينكر عليه حرفيته فى العمل ويصفه بالضعف والفشل ، ينظر إلى( C.V السى فى ) الخاص به، يحدق فى شهادات الخبرة ، يعد سنوات العمل والكفاح ، أين ذهبت لا يدرى ، وما هى مُحصلتها ، ثم يلقى نظرة على ـطفاله ومطالبهم التي تزداد ، يتمسك بإيمانه أكثر يواظب على صلاته بالمسجد يدعوا و يبتهل كلما ضعفت نفسه يتمسك بقلبه الذى يحدثه بانفراجة قريبة ، ويهدئ من روعه بما ناله فى تلك الفترة من معرفة وثيقة باطفاله الذين انشغل عنهم سنوات ، عرف فى عيونهم البراءة والحب الذى حرم منه، وزوجته التى تحمل معه العبء الجسيم دون ملل او شكوى ،عرف فى حضنها الدفء الذى يبحث عنه منذ زمن، ولكنه ايضا صُدم كثيرا فى أناس كان يعتبرهم أهله وإخوانه واقاربه ، لا يهم المهم هو الستر والصحة ، يكفى أن أولادي متفوقين وبصحة جيدة ، والذى خلق الخلق لن ينسى منهم أحدا ، يخرج لصلاته ليعود مريضا عله يكون سبب فى خير الدنيا .
اخاه رتبة بالجيش يثور فى وجهه فى مكالمة تليفونية، لقد كنت فى مظاهرة بالبلدة لـ (س) بالأمس ، يرد لقد كنت أعود مريضا ، ينطوى على نفسه متسائلا : هل كل مسالم يذوق هذا المُر ؟ يتحلى ببعض الصبر وينهى المكالمة، وهو يفقد آخر رمق لمنظومة الحزن الذى سكنت جسده وباتت تخرجه على هيئة بثور على يديه ورجليه ،نظر إلى آخر ممتلكاته ، عربته تحتاج إلى بعض الصيانة كى يتمكن من بيعها بثمن معقول ، يعاونه فى مصاريف البيت فترة قادمة ، يفتش فى ماضيه لعله يجد ما يؤازره فى محنته ، أب ترك تجارته مبكرا بنى عمارة من عدة طوابق وقام بتأجير الشقق لينفق منها، عدد من الإخوة كل منهم لا فائدة منه الآن، الكل لا يرى سوى نفسه ومصلحته والآن لم أعد أملك المال ولا السعة التى كانوا يأتون من أجلها ، ولا المنصب الذى يساعد ابنائهم فى التوظيف ، وعلى الجانب الأخر أهل زوجتى وبالاخص والدتها هى فقط من تدعو لى وتساعد زوجتي دون علمى حتى لا تجرحنى ، نعم هى فقط الأم من تقوم بذلك ، عندما تمرض تتحول زوجتي إلى حالة من العصبية لا تطاق فهي تعلم جيدا ان السند الوحيد لها في خطر، هذا الأمر يشعرني أكثر بعجزي ، أصبحت أنام قليلا وانا المعروف باستغراقي بالنوم ، احتارت معى زوجتى ، فأنشأت لى حساباً على الفيس بوك كى تبعد نار انفعالتى عنها وعن الاولاد، وكى أتعرف على هذا العالم لعلنى أستفيد منه شيئا.
بدأتُ فى التعرف على أناس من العالم الآخر، أقصد من عوالم مختلفة جذبتنى فى البداية لدرجة الجلوس امامه الأربع وعشرون ساعة فى اليوم ولكنها والحمد لله لم تنسني صلاتي ودعواتي بالكاد ، أشعر بالحماسة كلما تعرفت على شخصيات أحسبهم نجوم المجتمع او على الاقل من ذوى الشأن ، أتفاءل بالقادم فقد أجد بينهم من يساعدني فى حل لمشكلتي ، تحاورت مع البعض وطلبت من البعض مساعدتى بعد ان شدنى برفايل وتعريف بكذا وكذا، هذا البروفيسور الذى يأتينا بالاخبار قبل ان تظهر في أى مكان آخر ، ظننت أنه من المخابرات أو جهة امنية رفيعة المستوى ، وعندما طلبت منه مساعدتى وكأن فص ملح وذاب لا سلام ولا رد ، أما تلك الفاتنة العجوز من الحقل الثقافى استاذة الشعر ..ووو.. ، وسفيرة النوايا ونجمة المؤتمرات العربية ، توسمت في وجهها بعض الخير للناس وعندما صارحتها بعد مدة تعارف لا بأس بها وشات يومى ومجاملات رفيعة المستوى ، وبعد ان رحبت وابدت تفهمها وحرصها على المساعدة ذابت كزبد البحر فى مياهه المالحة ، اما تلك الجريئة القوية الناشطة فى حقوق الانسان من دول النفط العزيزة فاكتفت بضغطة زر لإنهاء الصداقة ،لم اصدم هذه المرة كثيرا فما يحدث فى الواقع علمنى الصبر على الافتراض واكثر ، وعرفت أن هذا العالم يتجمل ويكذب أكثر من العالم الحقيقى بمراحل .
الدائرة تضيق كل يوم ، والأصدقاء تتقلص ، والمعارف يبتعدون ، وانا وحدى ابحث عن سبب يقنعني لترّدى الحال، لعلها العين الحاسدة التى فلقت الحجر ، يأتى الشيخ ويقرأ القرآن فى البيت ، يقول أن البيت خال مما يضر ولكن هناك نفس أو عين حاسدة تحوطك، أتساءل هل الحسد يقطع الرزق، وإن كان رزقى قد قُطع فهل هذا دليل على قرب موتى كما قال ملك الموت عمن اُمر بقبض روحه ( كنت أجوب أرجاء الارض لأبحث له عن رزق ما زال له فلم اجد) ربما، وها أنا أعود مرة أخرى لنقطة الصفر على هامش الدائرة.