أسماء حسين
في ليلة بعيدة من قصة بعيدة، كتلك التي تحدث ما قبل النوم..
قلت للشبح الذي أتاني في منامي باسطًا يديه، بلا أسلحة أو أظافر، ليربت مصالحًا على ألمي وخدشي الذي دفنته منه في الفراش تلك الليال:
أحتفظ بنسخة أكثر حنانًا، وصدقًا، وطيبةً، مُحسَّنة منك في قلبي..
وأظنها الأفضل على الإطلاق.
لهذا أحببتك بقوة.. حتى في اللحظات التي لا يصلح فيها حبك.
أحببتك بعين قلبي.. مهما رأى عقلي ما يوجع عينيه.
أظن أننا نغفر دائمًا لأوهامنا..
نغفر دائمًا لمن نخلقهم بأنفسنا من الحب بداخلنا. لكل خرافاتنا المحببة.
كما غفرت للشبح الطيب الذي صالحني في نومي وتصالحت معه.
نحب من نحب، حبًا أقل ضراوة لما هم عليه، لكننا نحبهم حبًا أكثر صدقًا وطيبة برغم ما هم عليه.
..
نغفر دائمًا لما يخلقه الحب بداخلنا.. حتى الإساءة.
تعلمنا الإساءة ممن أحببناهم، شيئًا طيبًا في قلب قسوتها. مهما تأخر إدراكنا له. تحاول أن تقول، أن فضيلة الصبر والمغفرة أعظم من فضيلة المحبة ذاتها. حتى أمام ما يكسرنا نصفين داخل الصدر حين ننفرد بأثره فينا. أمام هفواتهم وسكاكينهم سواء. لكن، يعلمنا اندفاعنا من الألم إلى الغضب، أن هناك جزءًا جارحًا ينمو فينا من كل ما تعرضنا له من سوء، يجعلنا لا نختلف كثيرًا إذا ما فقدنا السيطرة عليه، وحررنا استياءنا ليتحدث عن نفسه، بصوت ربما لا يشبهنا حتى، يفزعنا إذا ما تأملناه مجددًا حين يخرج عنا.
الحقيقة التي لا تفسر هي أن الإساءة تأتي من الخارج نحونا، وتخرج منا أيضًا نحونا. هذا كله مجرد لعبة فاسدة لا غاية لها كما يقول كزانتزاكيس، يلعبها أطفال غاضبون وآخرون يمارسون شرهم الصغير. لعبة لا تصح المحبة في كمالها أو تحتفظ أرواحنا بالرحمة لنا ولسوانا دون أن ننجو منها.
ليس الحب وحده، بل الصبر أمام مكروه المحبة مهما جرحنا. ليس الغضب لذاته، بل ألم ما بعد الغضب الذي لا يشبهنا في هشاشتنا.. ذلك ما يعلمنا أن المران على فضيلة الصبر والمغفرة، أمام مكاره من نحبهم من البشر، يصبح أفضل حتى من المحبة.
..
لقد روضتني الإساءات من الأحبة تقريبًا كما روضتني المغفرة.. وأعتقد أن ألمي من خطيئة رد الإساءة بأختها، هذبني.. كما تهذب الأم طفلها الشرير مرغمة أمام شره الصغير، ثم تهذب قسوتها عليه نفسها، وخجلها من فداحة تلك القسوة لاحقًا.
قلت في نبوءة لصديقتي ذات يوم:
سأخطيء مرارًا
ولن يكون عقاب أمي قاسيًا
سيعود عناقًا
مهما حاولت أن يكون صفعة
آخر مرة.. كان حضنها عقابي اليائس.
ويبدو أنني أتحول إلى أمي في قصص أخرى.. تلك نبوءة ثانية.
ثم وفي قصة أخرى، قلت:
بيض الدجاج الذي كرهته في صغري
وكان يسبب لي المغص
تعودت على شعوري تجاهه
حتى أحببته
وهكذا كل شيء ملعون يسبب لي الأذى
أنتظر في طابور طويل حتى أصفعه
وعندما أصل أعانقه.
تذكرت كل تلك اللحظات الهشة التي جلست فيها أستمع كزهرة حساسة بلهاء وسهلة العطب لأغنية حساسة تارة ألوم فيها من أحب وتارة ألوم فيها نفسي، ولا يسعني تصديق أنني جرحت شعور أحدًا أحببته بكلمات استياء غاضبة اندفعت تحمل إساءة أخرى حتى أمام إساءة شقت قلبي أو أذى طال روحي ودهس العشب فيها بقدم قاسية. وتلك الليال التي حررت حزني فيها غاضبًا، ولشدة خجلي غطيت وجه أمي في صورة الجدار مساءًا كي لا تنظر لي بلوم وخيبة، وجلست كطفلة خجلة هشة تدرك أنها – وإن كانت تحمل تضررًا وألمًا – تستحق منها العقاب على ما بدر منها.
طفلة غارقة في غضب طفولي يرتدي ثياب البالغين، تحاول أن تهرب طوال الليل من أمام جروح غير ملتئمة، أحداث لا يسعها تصديقها ولحظات صعبة المرور، رسائل لا تملك سوى كلمات حادة، وما تحمله ذاكرتها من تأذي وما تحمله من استياء، أن تهرب من سؤال أمها القصير: حبيبتي.. وأين ذهب قلبك؟
لو أنني أخبرت غريبًا أن قلبي لازال يحتفظ بدمى طفولتي، وكلما ارتبكت عدت للنوم جوارها في الداخل، كحل سريع لكل قلق وجودي.. أو أنني في كل مرة غضبت على شخص حبيب ودفعته للخارج، كان قلبي يهتف: ماذا تفعل؟ هل تصدق وتخرج مني، عد إلى الداخل من البرد بسرعة. لربما ضحك علي الغريب.
إنها إحدى لعناتي الصغيرة، أن يحمل قلبي الأمومة والطفولة معًا..
الحقيقة أنني بالفعل، أخاف على من أحبهم من البرد خارج قلبي. كأم بالغة النضج. لكن غضبي منهم مهما ادعى القساوة، يسكن بعناق وكلمات محبة طيبة تحوله إلى طفل صغير هش، ببساطة أن يسكن غضب الطفل بالحلوى.
ربما لذلك لازلت أشعر بالبرد والقلق أمام صورة أمي.. أو أنتظر عناقها كلما غضبت ولف قلبي الاستياء، لتخفف عني وتصالحني، نيابة عن الأشياء التي تؤلمني ولا تفعل.
وأخبرها سرًا أنني تمنيت فقط لو أن كل الأشياء تغفر مثلما أغفر..
..
نستغرق الكثير من الألم، والأخطاء، والدموع، لندرك، ولو متأخرين.. أن فضيلة الصبر على مكروه المحبة أعظم من فضيلة المحبة ذاتها.
وأستغرق ما هو أكثر لأعترف لنفسي:
لو أن لي يد ثالثة.. لوضعتها على قلبي ولم أحركها ثانية. لكممت بها قلبي طوال عمري.
.
.
دائمًا أحتفظ بنسخة أكثر حنانًا، وصدقًا، وطيبةً، منك.. وأقل حساسية، وعطبًا، واندفاعًا، مني..
وأظنها الأفضل على الإطلاق في قلبي.
سأخطيء مرارًا، ولن يكون عقاب أمي قاسيًا.. وسأحاول دائمًا أن أغفر لمن أحبهم ولنفسي كما تغفر الأم.. حتى في اللحظات التي لا يصلح فيها أن نأخذ المغفرة أو الإساءة على محمل الجد.
ودائمًا سأحفظ الأمر في قلبي.. كما حفظت زيارة شبحك الطيب في منامي مصالحًا وماسحًا على رأسي برفق وأخذتها روحي على محمل الجد.