د. نيرمين خليل محمد
بين أيدينا كتاب la mediocratie)) المعنون بنسخته المترجمة للعربية (نظام التفاهة) الصادر سنة 2017م[1] للأستاذ الأكاديمي والفيلسوف الكندي (ألان دونو) أستاذ الفلسفة بجامعة كبيبيك الكندية والناشط والمهتم بالشأن العام، وقد أثيرت حول مؤلفاته[2] الكثير من الجدل والقلق في الأوساط السياسية والاقتصادية بكندا وأوروبا لتناول أعماله دراسة الواقع الرأسمالي المتوحش وتأثيره على المجتمع وأوضاعه الاجتماعية والثقافية، أما المترجمة للكتاب الدكتورة مشاعل عبد العزيز الهاجري أستاذ القانون بكلية الحقوق بجامعة الكويت، فيرجع لها الفضل في إثراء حركة الترجمة بهذا الكتاب القيم وترجمتها البديعة، والنسخة باللغة الفرنسية هي الأصل وتم ترجمته للغة الإنجليزية، وقد اعتمدت على أصل الكتاب ونسخته المترجمة معا، وهذا يحسب لتمكن المترجمة ولأمانتها في الوصول إلى معنى كلا المؤلفين والإشارة إلى وجود اختلاف وإسقاط من الأصل الفرنسي، فالترجمة المتقنة ما هي إلا جسر ذهبي نحو إفاق المصنفات المعرفية الغنية بمختلف لغات العالم.
إبداع المترجم وتحديات النص
بطبيعة الحال الترجمة ليست سهلة، ولكل نص ما يميزه من صعوبات وتحديات، لذلك من المهم أن يكون المترجم متمكن من أدواته لتساعده بتحدياته لترجمته للنص، وتمكنه من إضافة وإحياء النص الأصلي وإثراء المنتج الفكري بلغات مختلفة فتتسع دائرة المعرفة بالعالم، ومن خلال قراءة الترجمة نستشعر تميز المترجمة وأمانتها ودقتها لهذا العمل القيم، وتوضح الدكتورة مشاعل الأسباب والظروف الملتبسة التي أدت بها لترجمة الكتاب.
وذكرت لنا المترجمة توافقها مع المؤلف بشكل كبير فيما يهدف له الكتاب وفكرته الرئيسية المتمثلة في أننا نعيش تحت وطأة منظومة عالمية أدت الى سيطرة التافهين بجميع نواحي الحياة والدولة الحديثة وهذا التغلغل جاء بشكل تدريجي وهنا تكمن الخطورة… وتذكر الدكتورة مشاعل أنها كانت تود أن تقدم كتابا يناقش قضايا تشبه لحد كبير ما طرحه مؤلف الكتاب وعبرت عن ذلك من خلال مقدمتها، فتقول المترجمة “يلحظ المرء صعودا غريبا لقواعد تتسم بالرداءة والانحطاط: فتدهورت متطلبات الجودة العالية، وغيب الأداء الرفيع، وهمشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطة، وأبعد الأكفاء، وخلت الساحة من التحديات، فتسيدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين والجاهلين وذوي البساطة الفكرية، وكل ذلك لخدمة السوق في النهاية ” ولذلك كان للنص تحدياته الفكرية للمترجمة.
وتضيف الدكتورة مشاعل تحديا آخر من خلال ما ذكرته بمقدمتها، وهو ضبط المصطلحات عبر ثلاث لغات (الفرنسية والإنجليزية والعربية) وخصوصا أن النص يحتوي على الكثير من المصطلحات بالإضافة إلى الأمثلة العديدة التي ذكرها المؤلف، وكان هناك أمر محير لها فتلك الأمثلة تمثل المجتمع الكندي والاوروبي، ولذلك تغلبت المترجمة على ذلك الأمر باعتبار الأمثلة معيارا يقاس علية وليست أمثلة بعيدة عن الواقع العربي.
أما الأسلوب الذي يمثل روح النص، فكان تحديا آخر، وهذا يرجع لاختلاف أسلوب المؤلف عما اعتاد عليه القارئ العربي، ولذلك كان على الدكتورة مشاعل أن تتفحصه بعقل واع لكي تري الارتباطات المعقدة بين أفكار المترجمة، وأيضا غضب وحدية التعبيرات للمؤلف وكتابته بطريقة متداخلة كأنه يناقش عقله أو أصدقائه ما جعل الامر صعبا ومحيرا، ولكن في النهاية تغلبت المترجمة على هذا الامر وحافظت على روح وعقل المؤلف بالنص.
أمر آخر يحتسب للدكتورة مشاعل، ألا وهو الشروحات والهوامش التي أضيفت للنص العربي وهذا لدواعي المعارف والمعلومات والأماكن والمفاهيم التي يذكرها المؤلف في سياقات نقاشه مفترضا المعرفة من قبل القارئ.
رسالة المؤلف ومنظور المترجم
اشتملت مقدمة المترجمة على شرح أفكارها ومنظورها للفكرة الرئيسية للكتاب، وتعد قيمة أضيفت للنسخة العربية، وتؤهل القارئ لأفكار الكتاب الذي يعد مرجعا لن تنتهي الحاجة إليه مع استمرار نظام التفاهة، والحاجة لتفسير الظواهر التي نقابلها كل يوم وتحيط بأركان حياتنا.
من خلال فكرة الكتاب تناقش المترجمة من منظورها الشخصي وهذا على خلفية الكتاب، ما جاء فيه من فصول حملت فلسفة الكاتب ونظريته عن نظام التفاهة وكيف أصبح نظاما يسود العالم ولا نبالغ في ذلك، وقد رصدت المترجمة لذلك عدة نقاط نذكر منها “الإطار العام للعبة واللغة والأكاديمية والتجارة والاقتصاد والثقافة والسياسة”، وتضيف بأن ما ذكرته عرضا وليس مرضا وأن الفلسفة تلعب دورا في فهم نظام التفاهة المحيط بنا…
وكما ذكرنا سلفا فإن مقدمة المترجمة إضافة لها اثر قيم بالنسخة العربية للكتاب…فلم تكتف الدكتورة مشاعل بالترجمة بل وضعت وجهة نظر موازية للكتاب وفلسفة خاصة بها، وهذا يثري ويزيد من قيمة الكتاب ومضمونة وإضافة وجهة النظر العربية تتماشى مع فلسفة الكاتب الذي يحمل وجهة نظر وفلسفة غربية، وهذا يجعل إشكالية الكتاب عالمية تخص الإنسانية بصرف النظر عن الجغرافيا والعرق والدين.
من خلال مقدمة الكاتب يقدم لنا الكاتب مفهوم التفاهة والتافهين وكيف تكون النظام بشكل بطيء فلم ينتبه له أحد إلا بعد ظهور أعراضه، وكانت البداية مع “نظام بيتر” وكان كل من لورنس ج بيتر وريموند هال من أوائل من لاحظوا التطور التدريجي للتفاهة إلى أن أصبحت نظاما كاملا، وكانت اطروحتهما تتمثل في “مبدأ بيتر” الذي طوراه بعد الحرب العالمية الثانية، ويشرح لنا ألان المبدأ ويقول: يتمثل هذا المبدأ في أن العمليات تساعد الموظفين من فئة ذوي الكفاءة الاعتيادية على الترقي حتى يصلوا الى السلطة، أما من هم ذوو كفاءة عالية أو اقل من المتوسطة فيتنحون جانبا على حد سواء. منذ صدور كتاب “مبدأ بيتر” فإن الميل إلى اقصاء غير التافهين صار يتأكد بانتظام، ويضيف ألان أن الأمر قد وصل بنا اليوم إلى مرحلة تتعدى ذلك لقد صارت التفاهة مطلوبة بالفعل… ومن هنا فإن “نظام التفاهة” هو المصطلح الذي يشير الى النظام التافه الذي يتم نصبه كنموذج، ويضيف ألان أن عالم المنطق اليكساندرا زينوفييف يصف السمات العامة للنظام السوفيتي بألفاظ يظهر معها تشابه مع نظمنا الديمقراطية الليبرالية “ان التافه هو من ينجو” و”للتافه فرصة أفضل في النجاح”.
ومن خلال أربع محاور وضعه الكاتب عناوين فصول الكتاب، تتمثل في: (المعرفة والخبرة، التجارة والتمويل الثقافة والحضارة…) ومع كل فصل نتعرف على خيوط النظام المرتبط بكل محور، ومن المهم قراءة الكتاب لأن العرض لا يفي بالوصول إلى فلسفة الكاتب بكل تفصيله بالحياة وكيف تغلل “نظام التفاهة” إلى هذا الحد، فالتبصر خيرا من عدمه، فحتى ولو كان الحل صعبا إلا أنه ليس مستحيلا.
……………………….
[1] الترجمة، الطباعة، النشر، دار سؤال -لبنان -بيروت،2020م تحت عنوان (نظام التفاهة).
[2]https://www.almrsal.com/post/1017644
موقع مرسال، مقال عن أشهر مؤلفات ألان دونو