د. نعيمة عبد الجواد
الشعر محاكاة؛ محاكاة يرغب بها المتحدث لفت نظر المتلقي، وجذبه للاستماع لحديثه بأكمله حتى يصل المتحدث لمأربه. وجذب انتباه المتلقي يتأتى من جمال جرس كلمات طنانة يربطها صور واستعارات تجعل المتلقِّي يتماهى مع المتحدث وتجربته. وعلى هذا، صار الشعر لون أدبي عالمي.
وكغيره من ألوان الفنون؛ والتطوُّر سمة الشعر، وقصيدة النثر المنتشرة عالميًا اجتاحت الساحة الأدبية العربية، وغدت لونًا مفضلًا للمواهب الشابة؛ لما توفره من حرية في التعبير والتطرق لآفاق رحبة. وبغض النظر عن أعلام قصيدة النثر في العالم العربي منذ خمسينات القرن الماضي، إلا أن روَّاد هذا اللون لا يزالون في جانبٍ متفرِّد، ولا يزال أيضًا قياس الموهبة الشعرية قلبه وجوب إتقان كتابة القصائد الموزونة.
و ينظر البعض لانتشار قصيدة النثر كالنار في الهشيم بين شباب الأدباء على أنه محاكاة لريادة هذا اللون في الغرب. لكن، التنقيب عن نشأة قصيدة النثر يثبت أن الغرب نفسه قد حاكى الشعر المنثور الذي ظهر في الشرق، ويقصد هنا الشرق الأقصى.
ومبتكر قصيدة النثر هو الكاتب الياباني ماتسوو باشو Matsuo Bacho (1644 -1694)، وهو أشهر شعراء حقبة “الإيدو” Edo في اليابان خلال القرن السابع عشر، والذي ابتكر سابقًا قصيدة الهايكو Haiku؛ وهي قصيدة قصيرة تتألف من ثلاث جمل فقط، يُقاس فيها الوزن تبعًا لصوت الأحرف المنطوقة والتي يصل عددها لسبعة عشر موزعة على النحو التالي: 5-7-5، ثم يتخللها كلمة تقطع هذا الترتيب وكلمة أخرى تشير إلى أحد فصول السنة.
وبما أن باشو Bacho هو من ابتدع قصيدة النثر، وبوصفه أيضًا أشهر شعراء الإمبراطورية اليابانية خلال القرن السابع عشر، فقلد رأي وجوب إضفاء بريقًا جديدًا على رصيده الشعري. ومن ثمَّ، اخترع قصيدة النثر، التي أسماها هايبون Haibun وهي عبارة عن قصيدة هايكو يتخللها نثر. وظهرت بجلاء القصائد المنثورة في أفضل صورها في كتابه الشهير “الطريق الضيِّق في قلب الشمال”، والذي أصبح من أهم مخطوطات الأدب الياباني في حقبة “الإيدو” Edo؛ والذي ظهرت فيه قصيدة النثر متعددة الأبعاد.
ومع تزايد اتصال الغرب بالشرق الأقصى خلال الحقبات الاستعمارية، نقل الغرب هذا اللون الأدبي الجديد كان أول ظهور له في فرنسا وألمانيا في أوائل القرن التاسع عشر،في مهد تيار الحداثة، عندما اشتعل شرر التمرد على القديم والرغبة في التجديد. ولقد كان للشعراء الرومانسيين الألمان جان بول Jean Paul وفريدريك هولدرين Friedrich Hölderin وهاينريش هاينة Heinrich Heine السبق في هذا المجال؛ حيث قدموا قصيدة النثر في شكلها المعروف لأوروبا بأكملها. وإن كان أول ظهور على الإطلاق لقصيدة النثر في أوروبا في القرن الثامن عشر في ترجمة الكاتب والروائي الاسكتلندي جيمس ماكفرسون James Macpherson لسيرة راوي الزمن الغابر أوسيان Ossian وكذلك في ترجمته لديوان “أغاني ماديكاس” Chansons madecasses للشاعر الفرنسي إيفارست دي بارني Évariste de Parny.
وعبر الفرنسيون عن ضجرهم إزاء نظم القصائد وفق منهاجية صارمة من خلال منح قصيدة النثر منزلة مميزة، مما شجع كبار الأدباء الفرنسيين من أمثال تشارل بودلير Charles Baudelaire واستيفان مالارميه Stéphane Mallarmé وأرتور ريمبو Arthur Rimbaud على تأليف دواوين شعرية بارزة قوامها قصيدة النثر. ولم يقتصر استخدام هذا اللون الجديد على ألمانيا وفرنسا، بل استشرى لجميع دول الغرب، بما في ذلك العالم الجديد، مثل الأمريكتين.
وأوَّل روَّاد قصيدة النثر في شكلها الحالي في العالم العربي هو الكاتب السوري فرنسيس بن فتح الله بن نصر الله مرَّاش (1836-1973)، والذي قدَّم للأدب العربي الحديث أول نماذج تلك القصيدة، والتي ازدهرت مع ثلاثينات القرن العشرين تماشيًا مع تيار الحداثة الذي غمر العالم بثورته على القديم من أجل ضخ دماء التجديد. ومع منتصف القرن العشرين، ظهر في الوطن العربي أعلام لهذا اللون الشعري الجديد؛ مثل الشاعر السوري أدونيس، والشاعر السوري محمد الماغوط، والشاعر اللبناني أنسي الحاج، والشاعر السوري اللبناني يوسف الخال. ومن الجدير بالذكر أن روَّاد قصيدة النثر من الشعراء العرب قد استفادوا من تجارب نظرائهم في الغرب، لكن لم يقلِّدوهم؛ لأن البيئة العربية لها خصوصيتها الثقافية والفكرية، وإن ظهر التأثير على صياغة القصيدة. كان لانبهار شعراء العرب باكتمال تجربة الغرب تأثيرًا إيجابيًا جعل الانتفاع والانفتاح على دروب جديدة قوامها.
وقد يظن البعض أن ازدهار قصيدة النثر هو تلافي للشعر الموزون. لكن، لا ينطبق ذاك المبدأ إلا على مُدَّعي الموهبة فقط. فقصيدة النثر ذات جماليات مبتكرة؛ حيث يعمد الشاعر إلى خلق أسلوب لصياغة العالم المادي من منظور جمالي، يزيده بهاءًا العلاقات اللفظية اللامتناهية بين المفردات المصقولة في تراكيب قويّة يربطها خيال خلَّاب البُنيان. ومن ثمَّ، فإن أهم سمات قصيدة النثر هو التكثيف والإيجاز والبساطة والبعد عن التعقيد الذي يتمثل في بهلوانية البلاغة والصياغة، لكن مع الحفاظ على إيقاع شعري منشأه جماليات الألفاظ والصور البلاغية والاستعارات المبتكرة الغير متكلفة، مع وجود توازن بين السطور الشعرية. وعلى هذا الأساس، وصفت الناقدة الفرنسية “سوزان برنار” قصيدة النثر بأنها: ” قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور . . . خُلِق حرّاً، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجًا عن كلِّ تحديد، وشيء مضطرب، إيحاءاته لا نهائية”.
ويذهب البعض لتوكيد أن العرب هم أول من عرفوا قصيدة النثر؛ فبالنظر لكتابات الجاحظ وابن العميد وابن المقفع وغيرهم من السابقين واللاحقين، يُلاحظ أن أعمالهم النثرية شعرية المزاج لما تنطوي عليه من جرس منشأه الاستعارات والصور وجميع ألوان البديع. بيد أن كتاباتهم فقدت أهم شروط قصيدة النثر، ألا وهو الإيجاز والتكثيف والكتابة في شكل سطور شعرية متوازنة شبه متساوية الطول. أما الكتابة الشعرية المزاج، من أهم شروط جمالها هو الإطناب والبعد عن الإيجاز.
وقد يندهش البعض من أن الشعر الموزون في الغرب فقد جماله، بل صارت الأشعار الموزونة غير مقبولة وتثير الملل. والسائد حاليًا قصائد شديدة الإيجاز، قد تصل إلى ثلاث سطور، أو حتى سطر، ومكونة من جملة واحدة.
ومع حضور قصيدة النثر بقوة جنبًا إلى جنب مع شعر التفعيلة في العالم العربي، هل من الممكن أن تتحوَّل أيضًا إلى اللون الشعري المقبول عربيًا كما هو الحال في الغرب؟ ذاك التساؤل لسوف يجيب عنه المستقبل القريب.