“نسيت كلمة السر”، رواية جديدة للقاص والروائي المصري حسن كمال، سبقها في الصدور ثلاث مجموعات قصصية وروايتان، وكتاب ساخر مستوحى من دراسته وممارسته للطب.. أما هذه الرواية الجديدة، فمستوحاة من ممارسته الرياضة كبطل سابق للتايكوندو، ثم كطبيب لمنتخب التايكوندو، ثم كرئيس للجنة الطبية الأوليمبية.
تدور الرواية في عالم الرياضة والأبطال الرياضيين، فالبطل/الراوي “عمر الخياط” بطل عالمي أوليمبي في رياضة التايكوندو، بدأ من الصفر أو ما دونه، ثم ارتقى مراتب البطولة حتى صار بطلًا للعالم وأحد المتوّجين على المنصات الأوليمبية، وكذا عدد لا بأس به من شخصيات الرواية الرئيسة والثانوية، إنه عالم البطولة والأرقام، التحمُّل والصراع، المنافسة الشريفة وغير الشريفة. تعجُّ الرواية- كما ملاعب المنافسة- بالشخوص والأحداث، بالأماكن والأزمنة، بالهزائم والانتصارات، بالمنافسات والثنائيات وكل ما يزخر به عالم الرياضة، كما تستفيد من عالم الفيسبوك الأزرق، فتتخذ من مصطلحاته عناوين لفصولها، وأداة لبنائها الذكي، والمختلف. فيما تُساير أحداثها وقائع وملابسات ثورة 25 يناير، بزخمها وطفراتها وانحناءاتها المتعددة، ما يجعل قارئ الرواية يلهث وراءها كما لو كان يركض بنفسه في مضمار المنافسات، ما قد يجرفه مع أول قراءة لاعتبارها رواية شيقة فحسب، تدور في عالم مغاير هو عالم الرياضة والأبطال، وتلقي بظلال عابرة على ما يدور في كواليس هذا العالم من صراع سياسي واجتماعي.
أما القارئ الحاذق، والمتأمل، فقد يستعذب قراءة الرواية على المستوى الأعمق؛ فالهمّ الذي يشغل البطل/الراوي هو همّ الإنسان في العموم، لا الرياضيين فحسب، والأزمة التي تأخذ بخناقه مع تقدُّم الأحداث ليست أزمة مرضى الـ MS فقط، إنما أزمة الإنسانية جمعاء؛ النهاية المحتومة.. الموت. فالبطل الرياضي هو من يختار مضمار الرياضة ساحة لتحقيق ذاته، لإيجاد معنى لوجوده، وهكذا اختار عمر الخياط بطل العالم مسلسل حياته، انتصاراته وهزائمه، وفي سبيل ذلك أهمل الكثير في مضامير الحب والزواج والسياسة والأبوة، وربما المتعة أيضًا. أما الشخصيات الأخرى، فنجدها مضطرةً لاختيارات مشابهة؛ تختار “ريم” مضمار الحب، فتُهمل الرياضة وتُلقي بحمولتها دفعة واحدة في سبيل العشق، ولا تجد معنىً لوجودها بعيدًا عنه، وبذلك تختار هزيمتها، أو انتصارها الذي لا ترتضي عنه بديلًا. أما “فريدة”، فتعوزها الثقة بنفسها، والشعور بالانتماء الكامل لطبقتها، ما يجعلها تتردد في مضمار الحب، وتسير بمحاذاته على رصيف الصداقة المدَّعاة، فلا تجد المعنى لحياتها بعيدًا عن ثورة تُطيح بالحدود الفاصلة بين الطبقات، وتساعدها على التخلص من طبقة الأرستقراطيين الذين تشعر إزاءهم بانعدام جدارتها، وتدفع في سبيل معشوقها فتاةً أرستقراطية فاتنة، كيلا تفوز به أخرى “عادية” مثلها، فيستحيل فشلها لهزيمة قاسمة.
اختار “مصطفى القمّاح” أيضًا مضمار بطولته الخاصة، وهزيمته المحتومة، فاتَّخذ الظلم خصمًا أبديًّا وقرَّر إيجاد المعنى لحياته في السعي الدائب وراء العدل، فإن كان أهل الأرض ظالمين، فعليه بأهل السماء؛ رجال الدين، جنود الله في أرض الله. انحاز لصفِّهم في المعترك السياسي الذي تلا الثورة، وضحّى بنفسه دون أن يُكافأ حتى بوداع ملائم. وعلى الجهة المقابلة من العالم ومن طيف الأفكار، نجد “البوس”؛ الكوريّ الثريّ الذي كرَّس حياته لنصرة الإنسان.. لكن بمنطقه الخاص. فالرجل لا يجد المعنى الحقيقي لوجوده بعيدًا عن يقين وجودي يرتاح إليه؛ أين الإله، هكذا يسأل، وأين السبيل إليه؟ في أي دين وأي منهج؟ يطلع على الأديان جميعًا ويحتار في اختيار الأقرب لسبيل الرب، الكل يحمل يقينًا ثابتًا بصوابه، بحتمية دخوله الجنة، وبوجوبية الدفع بسائر البشر في جهنم الحمراء. يقرِّر أن يصنع سبيله الخاص، الذي حتمًا سيصل به لجنة الخلد، فإن لم يصل فقد جعل لنفسه جنة موازية على الأرض؛ قصرًا منيفًا أسماهُ “الجنة” بالفعل، وأقفل بداخل خزانة فيه على الكتب السماوية وغيرها، وصدّر صالة استقباله بجملة ترحيب بداخلي الجنة، بجميع اللغات، ثم قسر دخول القصر على المقرَّبين، من تقصّاهم “البوس” عبر أتباعه ورضي أن يُدخلهم لعالمه، وهناك يمنحهم المأوى والطعام- على مائدتين متباينتين في المستوى- والمتعة السهلة الغامرة، وكذلك الدعم اللا محدود، كما يُسقِط عليهم غضبه وعقابه حال خروجهم عن النص، فكأنما صنع من نفسه ظلًّا للإله، مانحًا نفسه فوزًا عاجلًا في معركته، صانعًا بذاته معنىً لوجوده.
إنها رواية الإنسان المأزوم، الباحث عن معنى وجوديّ، عن معركة يخوضها ويتركها منتصرًا قبل انصرام العمر، أو هزيمة تسحقه، تدفعه للاستسلام أخيرًا لقدره المقدور، فهو المُهدَّد دومًا بنهايته المحتومة، تجيئه كيفما تجيء، عبر مرضٍ فاتكٍ أو هزيمةٍ نكراء، أو حتى بمجرد فراغ حياته من معنى يؤمن به.. وهذه هي “كلمة السر”، التي تفتح للرواية، لأي رواية، باب البقاء طويلًا في ذاكرة البشر، أن تحمل همًّا إنسانيًّا، أن تؤرخ لأزمة الإنسان في الكون الفسيح، المستعصي على الفهم. لكنها لا تترك بطلها نهاية الأمر بلا أملٍ في تجاوز الأزمة، فتجعله قادرًا على مجابهة الموت وتجاوز النهاية المحتَّمة، فيصل “عمر” نهاية المطاف لقناعة تُرضيه، تُقيله من أزمته الوجودية، وتمنحه الدافع للتمسُّك بما تبقّى من أيام العمر، فيكفيكَ أن تترك أثرًا لا ينمحي فوق قشرة الحياة لتفوز بالبقاء.. لذلك يقول “عمر” في ختام حكايته:
“سيأتي الموت في موعده المناسب، بعد أن أكون قد تركت شيئًا من جسدي السليم وعقلي وخبرتي في كل واحد من هؤلاء الذين يحيطون بي، كل بطولة نحققها في حياتنا تبقى بشكل ما، عندما يظهر بطل جديد في حدث ضخم آخر سأكون هناك.. حركة أو فكرة أو خطة في لحظة تأتي بانتصار جديد..”