نجيب محفوظ قاصا: دراسة في الأسس الفنية لقصة “خمارة القط الأسود”  

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 10
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هشام وهبي

تمهيد:

    كثيرون هم الكتاب الذين تميزوا في فن أدبي دون غيره، وصرفوا له كل اهتمامهم وإبداعهم، لكن فضول السؤال النقدي قد يلح على أحدنا أحيانا ويدفعه للتساؤل عن قيمة الأعمال التي لم يطل هذا الكاتب أو ذاك الإبداع فيها، وهل يدعونا تفوقها الفني إلى إعادة النظر في تصنيفنا “الأجناسي” للكاتب؟ وتدفعنا مثل هذه الأسئلة إلى استحضار كتاب مارسوا الكتابة الروائية في موازاة الكتابة القصصية مثل “ارنست همنغواي” و “كافكا” و”ألبرتو مورافيا” ونشير أيضا إلى “يوسف إدريس” و”الطيب صالح” و”نجيب محفوظ”.

     لقد كان من المتواتر دائما في الأوساط الأدبية انتقال الأديب من الكتابة القصصية إلى الكتابة الروائية، مما يجعل القصة بتعبير أحد النقاد “تمرينا” يختبر به الكاتب شخصيته الأدبية قبل الدخول في غمار الكتابة الروائية، وينطوي هذا الحكم – إذا ما عممناه- على غير قليل من الإجحاف في حق أدباء مارسوا الكتابة الروائية والقصصية على حد سواء وأعطوا لكل جنس ما يستحقه من الاهتمام، رغم الفروق الأجناسية (الصارمة أحيانا) بين الجنسين، فقلما نجد كاتبا متخصصا في الرواية وهبها كل جهوده الإبداعية، فهذا يظهر جليا في تجارب روائيين عظام، زاوجوا بين الرواية والقصة واشتهروا في الرواية أكثر، مثل “نجيب محفوظ”، الذي نتوقف عنده مسائلين تجربته القصصية، وذلك بتحليل قصة “خمارة القط الأسود” التي تنتمي إلى مجموعة قصصية تحمل نفس الاسم.

    ولابد – قبل الشروع في تحليل هذه القصص – من استقراء الفروق التي أشرنا إليها آنفا والتي يمكن أن تصنع حدودا فارقة بين العمل الروائي والعمل القصصي وتحدد مميزات خاصة بكل منهما. ونجد في عديد من المقولات النقدية ما يعبر عن هذه الحدود ويؤطرها نظريا. فهذه “إيزايبل أليندي” ترى أنه: “في الرواية يخلق الكاتب جوا من التفاصيل وهو ينسج عمله الروائي، مثلما تنسج العاملة بساطا مفعما بالألوان. أما القصة القصيرة فهي سهم لا يحق للكاتب أن يرميه إلا رمية واحدة، عليه أن يختار الاتجاه الصحيح والسرعة الصحيحة، وعليه أن يشد القوس بقوة مناسبة، في القصة الفصيرة أنت لاتملك الوقت ولا المكان لارتكاب الخطأ، كل الأخطاء تظهر فإن لم تكتب الجملة المناسبة منذ بداية القصة فلك أن تنسى قصتك، لا فائدة من مواصلة الكتابة”.

1.البداية والنهاية:

  إن أول ما يسترعي الانتباه في بداية هذه القصة هو اختلافها الجذري عن بقية قصص محفوظ، فهي تبدأ بجملة مركزة لها دلالتها الخاصة في البناء الفني للقصة ككل: “كانوا يرددون أغنية جماعية عندما ظهر في الباب رجل غريب” وهي الجملة التي نصادفها تتكرر كلازمة في ثنايا القصة، ويرى “خوليو كورثاثار” أن الجملة الأولى لها دور حاسم في الانتماء الجمالي للنص القصصي، فتؤدي وظيفة سردية يحددها الكاتب بدقة، إذ يقول: “خذوا أي قصة معروفة وحللوا صفحتها الأولى، سوف يدهشني أن تجدوا عناصر مجانية لها مجرد وظيفة تزيينية”.

وتقدم هذه البداية ملخصا موجزا لما تحويه القصة دون السقوط في فخ التلخيص الممهد والذي تتميز به القصص الكلاسيكية، وتشد بذلك انتباه القارئ وتمنعه من الشعور بالاكتفاء منذ البداية فيركز كل حواسه لمتابعة القصة.

وإذا كانت البداية كذلك فإن النهاية توازيها في الأهمية، فلها دور حاسم في تماسك النص القصصي، وهي في هذه القصة لم تضع حدا نهائيا لمسار السرد وتغلقه بشكل نهائي، فقد ظل كل شيء كما هو: حالة اللبس التي خلقها حوار الزبناء، وما إذا كان الرجل الغريب قد روع فعلا زبناء الخمارة أم أن ذلك جرى في مخيالهم وتحت تأثير السكر، فوصف السارد للرجل الذي ينظف الموائد ويجمع النفايات في نهاية القصة: “ومضى الرجل نحو الممشى بملابسه القاتمة المكونة من بلوفر أسود وبنطلون رمادي غامق وحذاء بني من المطاط” هو نفسه الوصف الذي قدمه للرجل الغريب مما يؤكد أنه هو نفسه: “ ملابسه متوافقة تماما مع قتامته، ومؤكدة لها بالبلوفر الأسود والبنطلون الرمادي الغامق والحذاء المطاطي البني” مما يخلق حالة من اللبس والتساؤل الذي لا تحسمه نهاية القصة، فالسارد لم يقدم تفسيرا لتساؤلات الزبناء حول الرجل، وما إذا كان هددهم فعلا واحتجزهم داخل الحانة، فقد ترك النص مفتوحا يفسر نفسه بنفسه.

2.منظور السرد:

    يتخذ سارد هذه القصة منظور ضمير الغائب وينحو منحى السرد المعتمد على الوصف الدقيق، خصوصا عندما يتعلق الأمر بوصف حالة الشخصيات النفسية المتغيرة بتغير المواقف: “عاودهم الإحساس بالرهبة والخوف، ماتت الضحكات على شفاههم، تراجعوا إلى الصمت والوجوم…” “..انقبضت الأسارير، خمد الضحك، ترددت الأبصار بين التحديق فيه واستراق النظر إليه..” ورغم ذلك فهو ينأى بنفسه عن الانحياز لموقف ما أو التعاطف مع شخصية من الشخصيات، أو حتى تفسير موقف ملتبس والكشف عنه، كما هو الشأن بالنسبة للنهاية: “وتساءل الكهل:

متى وأين رأيت هذا الرجل؟

  ومضى الرجل نحو الممشى بملابسه القاتمة المكونة من بلوفر أسود وبنطلون رمادي غامق وحذاء بني من المطاط فعاد الكهل يتساءل:

متى وأين رأيت هذا الرجل؟”

3.الشخوص:

    إن الخاصية المميزة لشخصيات هذه القصة هي مراوحتها بين حالات نفسية متغيرة يؤثر فيها تغير المواقف والأحداث، فزبناء الحانة في ساعات اللقاء:” تصفو نفوسهم، وتفيض بالحب لكل شيء، يتحررون من التعصب والخوف، يتطهرون من أشباح المرض والكبر والموت..” أما عندما ظهر الرجل الغريب: “أطلق حضوره غير المنتظر شحنة كهربائية نفذت إلى أعماق الجالسين، سكت الغناء، انقبضت الأسارير، خمد الضحك، ترددت الأبصار بين التحديق فيه وبين استراق النظر إليه..” أما عندما عادوا إلى الشراب وتجاهلوا الرجل: “أفرطوا في الشراب، دارت الرؤوس، استخفتهم النشوة، انزاحت الهموم بسحر ساحر، أخد الضحك يتعالى، رقصوا فوق مقاعدهم..”

أما الرجل الغريب فحافظ على حال نفسية واحدة منذ بداية القصة: “حرك نفسه بعنف.. عض على أسنانه، جعل يتحدث بصوت غير مسموع.. تهدد وتوعد وهو يرك قبضته” وهي نفس الحال التي واجه بها الزبناء عندما حاورهم:” أشار إليهم أن يعودوا إلى مجالسهم، ثم قال بحزم صارم:

لن يغادر المكان أحد.”

وهذا ما يميز أيضا صاحب الخمارة الرومي، فهو لم يبد موقفا أو رأيا حول ظهور الرجل الغريب ومنعه الزبناء من الخروج، فقد ظل: “يعتمد الطاولة بمرفقيه رانيا للا شيء بنظرة ميتة”. وحتى عندما عنف الرجل الغريب قطه الأسود: “حول الرومي رأسه نحو الحجرة بوجهه الميت، رمق الغريب مليا، ثم عاد ينظر إلى لا شيء”. وهذا آخر وصف يقدمه السارد لصاحب الخمارة.

نظرة مجملة:

   أخيرا، فإن هذه الدراسة الوجيزة تحاول الإمساك ببعض الخصائص التي تميز القصة الحديثة، والتي نفترض أنها لا تغيب عن هذه القصة وحتى عن باقي قصص نجيب محفوظ، والحق أن المتأمل لقصصه –المتأخر منها خاصة- سيشعر بنوع من الرضى، مادامت هذه النصوص الإبداعية تتمتع بحس جمالي يجعلها ممتلئة بالفراغات التي تميز النصوص الأدبية ذات القيمة الفنية.

مقالات من نفس القسم