حسين عبد الرحيم
في ذكرى رحيله السادسة عشر وذكرى ميلاده المائة والإحدى عشرة، يظل نجيب محفوظ بكتاباته بناءً عظيم لمتن الرواية المصرية والعربية خلف بعناوينه الكثير من رؤى الوجود والعدم رافضاً الخواء، فكانت نفراته الحادة والجادة والمباغتة في حشا وقلب المدينة، في القاهرة وأزقتها وحواريها من قلب القلب في مكان النشأة وضيف الحيز المكاني مع تطلع الراوي العليم لفتح آفاق غير مألوفة في الزمن والمكان.
كانت تلك التجليات لابن الجمالية العتيد في طرحه المراوغ في سرده هربا من بطش السلطة الكافرة بالحرية والعدل والحب والسلام والمحبة.
كان النجيب “محفوظ” ولم يزل قادرا على الكثير من إثارة الدهشة والشجن والفكر الطليق فيما يخص مستقبل الأفكار الفلسفية ومدارسها في السرد الغائر في قلب المنغصات والآلام بحثاً عن ثمة أمل في التحليق بالفرح السوى والتجادل مع الوجود برؤى كاشفة بصيرية غايتها الخروج من قبضة العنف والدم وقتل الأحلام وهذا ما صنعه بالبساطة والانتماء بل والعكوف على مشروعه الخلاق لأكثر من ثمانية عقود هم عمر وعي ابن الجمالية النابه مجيب محفوظ وعبر اكثر من أربعين عنواناُ روائيا وقصصيا كانت ولم تزل تمثل فتوحات جسورة للولوج لقلب سر الوجود وآلامه قبل آماله..
هنا شهادات لأقلام وكتاب بورسعيد، كتبت بحبر العقل ودم السرد وغواية الانتماء لدنيا الأدب ورحمة الله بالبشر من خلال الكتابة عن الآثار الباقية من أدب نجيب محفوظ.
الروائي السعيد صالح
انفخ البوق.
الكتابة عن الاستاذ نجيب محفوظ مسألة غاية في الصعوبة، فلقد كتب لفيف من الباحثين العديد من الكتب عنه، وأي كاتب يحاول الكتابة عنه سيشعر بأنه لن يضيف جديداً، لكن ما أستطيع كتابته عن الاستاذ انه ليس مجرد أديب كتب الكثير من الانتاج الادبي. بل هو يعد الأب الشرعي للرواية العربية ولما لا ولقد كتب ٣٥ رواية صاغ فيها كل أشكال الرواية سواء التقليدية او الحديثة او التجريبية، استخدم فيها كافة الاعيب السرد وتقنيات وفنيات الرواية، كما وطعن رواياته بالكثير من الآراء الفلسفية ومن ينسى رواياته قلب الليل رحلة ابن فطوطه الشحاذ اولاد حارتنا وغيرها، كما رصد في رواياته تحولات المجتمع المصري مثل الثلاثية وخان الخليلي وزقاق المدق، واستشراف المستقبل روايته ثرثرة فوق النيل ١٩٦٦ م وكشف مدي ما اصاب المجتمع من تفسخ واطلق اجراس الخطر ولم يمض عام الا وحدثت هزيمة ١٩٦٧م ورواياته التي تنقد الاوضاع السياسية من أول روايته القاهرة الجديدة ١٩٤٥ الذي نقد فيها الحقبة الملكية، السمان والخريف ١٩٦٢ والتي يعرض فيها غربة الانسان في وطنه خاصة اذا كان ينتمي الى تيار ولا أيامه، الكرنك ١٩٧٤ وكشف فيها مراكز القوى، يوم مقتل الزعيم ١٩٨٥، ونقد الحقبة الساداتية. بل أن الأستاذ ساهم بروايته السراب ١٩٤٨ في معرفة اغوار الابن الوحيد وما يعانيه من فقدان الثقة والمخاوف النفسية التي قد تحطم حياته. الاستاذ نجيب محفوظ كتب كل اشكال السرد فهو يعد احد اباء القصة القصيرة بالخمسة عشرة مجموعة قصصية من اول همس الجنون ١٩٣٨ حتى أحلام فترة النقاهة ٢٠٠٤. لم يترك فيها فكرة لم يطرقها بتكنيك مختلف مغاير عن الاخرين، غير مسرحياته الثمانية، والثلاث والعشرين سيناريو سينما، إن الاستاذ نجيب محفوظ لهو نافخ البوق في روح الابداع السردي بالوطن العربي.
إيهاب فوزي:
بعد ستة عشر عاما على رحيله، ماذا يتبقى من نجيب محفوظ؟.
يظل نجيب محفوظ سفير الأدب العربي منذ عام 1988 حين فاز بجائزة نوبل وإلى أن يفوز آخر بجائزة نوبل، الجائزة التي مهما شكك البعض بمصداقيتها تحسبا لأسباب سياسية، إلا أنها من أصدق الجوائز التي لا تمنح هباء.
نجيب محفوظ الإنسان لن نتحدث عنه فالإنسان لا يعنى إلا من هم في محيطه، ويفنى بعد موتهم. أما نجيب محفوظ الكاتب والأديب فهو لا يمحى بما قد خلقه من شخصيات وإن كان قد اعتذر عنها، لذا إن قبلنا نجيب الأديب، فيجب أن نتناسى النجيب الإنسان كي لا يكون عبئا على نجيب الخالق، نجيب الذي أراد أن يعيش حياة من صنعه بعدما اكتشف ضيق الحياة المعاشة، فأراد أن يخلق أشخاصا يظن البعض أنها واقعية، للدرجة التي جعلت النقاد بتوصيفه أنه يتبع إلى الأدب الواقعي.
نجيب محفوظ ساق لنا شخوصه اللاواقعية وكأنها تتعايش معنا. ربما كان ذلك يمثل بعض شخصياته، ولكن هذا لزوم دخولك في عوالمه التي أراد صنعها. ولكن يبقى التساؤل هل نجح في ذلك؟
إلى حد بعيد نجح في مداعبة العقل. وبعيدا عن اعتذاره عن أولاد حارتنا، تبقى رواية الطريق، الرواية التي بدلالاتها ورموزها أنجزت وأوجزت فكره الفلسفي وأرضت طموحه في إبراز فلسفته وفكره دون المواجهة التي أحلت دمه كما في رواية أولاد حارتنا. .يظل نجيب محفوظ سفير الأدب العربي منذ عام 1988 حين فاز بجائزة نوبل وإلى أن يفوز أخر بجائزة نوبل، الجائزة التي مهما شكك البعض بمصداقيتها تحسبا لأسباب سياسية، إلا أنها من أصدق الجوائز التي لا تمنح هباء.
الغوص في الشخصيات الإنسانية وسط البيئة المحلية واطفاء اللمحة الفلسفية سمح لنجيب محفوظ دق المسامير في التابوهات دون خدش حياء الأصوليين وباحتفاء من العامة.
ناهيك من حرفية نجيب ببساطة أسلوبه وأتساع وتنوع قاموسه اللغوي والدراسة النفسية لشخصياته.
قراءة نجيب محفوظ لا أتوقع أن تفقد رونقها ودسمها حتى وأن تكسرت التابوهات، سيذكر أنه ضمن من ساهموا بدق المسامير.
لا يوجد في الأدب من يطلق عليه الأفضل، ويظل نجيب من أفضل الأدباء الذين استطاعوا احتواء العامة و النخبةكما استطاع التدليس على الأصوليين.
رغم ما وصلنا أن البلاغات التي قدمت من النيابة باتهام نجيب بتهمة الازدراء كانت من الأدباء، إلا أنه استطاع أن يكتب ما كان يكتب وأكثر دون أن يترك لهم الفرصة ليحاجوه.
بعد سته عشر عاما على رحيله يبقى ما كتبه حتى ستة عشر عاما مضوا.
الروائي إبراهيم صالح
البساطة والعظمة
صورة نجيب محفوظ التي أعرفها هي صورة ذلك الرجل البسيط الذي يرتدي بدلة على الدوام ، واحدة صيفية في حر الصيف وأخرى شتوية لبرد الشتاء ،ويسير متأبطا مجموعة من الجرائد اليومية ويجلس على المقهى تعلو وجهه الابتسامة العريضة ومن حوله مجموعة من الناس البسطاء ربما أو مجموعة من الكتاب والمبدعين من جيله أو الأجيال المختلفة ، نجيب محفوظ الذي أعرفه هي تلك الرواية الرائعة والبديعة ” خان الخليلي “والتي ساهمت في تكوين نسيجي الداخلي خلال احدى المراحل الحياتية التي مررت بها لدرجة أنني قرأتها اكثر من مرة ، تركت بداخلي صدى بالغ التأثير في شخصيتي ، أو رواية ” السراب” حيث بلغ فيها قمة الصدق الفني في التعبير عن المراحل الحياتية وبصفة خاصة مرحلة الطفولة، نجيب محفوظ الذي أعرفه هو رواية ” الحرافيش ” بفلسفتها العميقة ،وواقعيتها الشديدة والصادمة عن الحارة المصرية في مطلع القرن العشرين ،نجيب محفوظ هو الأمل لكل كاتب في أن يحقق ولو بعض مما حقق ذلك الكاتب الخالد الذكر ، ذلك الرجل البسيط والعظيم للغاية أيضا، هل تنبع العظمة من البساطة الشديدة ؟ أم أن البساطة الشديدة هي وليدة الإحساس والشعور الداخلي بالعظمة ؟ العظمة المقصودة هنا هي سمو المفاهيم وعلوالقيم ورقي الفكر، عظمة الوجدان وسمو النفس الإنسانية، هذا الخالد الذكر أنتج ما يزيد عن خمسين من الروايات والقصص وهو في مجمله إنجاز عبقري ومعجز ويفوق أي قدرات بخلاف قدرات الأستاذ، يحتفلون اليوم بالذكرى السادسة عشر على رحيله وأنا أقول أنه يجب الاحتفال بميلاده وليس رحيله، نجيب محفوظ لم ولن يرحل أبدا بل سيظل خالد الذكر لنا ولكل الأجيال التي تأتي من بعدنا ، أحيانا كثيرة أذهب لمنطقة الحسين بقصد البحث عن معالم الحارة المصرية التي رسمها هذا المبدع الكبير لشدة إعجابي وانبهاري بما سطر ورسم ، أبحث عن حارة قرمز التي ولد فيها وأظل أدور وألف في كل الحارات من حولها وحينما يبلغ بي التعب مداه أعرف وينتابني اليقين بأنه خلق عالما فريدا للغاية ، عالما نادرا استقى فيه بعض من تلك الشوارع والحارات التي أجول فيها ولكنه ليس موجودا فقط إلا في كتابات المبدع الكبير وهكذا يكون الخلق والإبداع الحقيقي ، أحيانا كثيرة أشتم عبق كتاباته من خلال استرجاع بعض سطورمن سرده الخالد وأحاول أن اخط بعض الخطوط من السرد الخاص بي ، إنه ظاهرة فريدة لا تتكرر كثيرا 00
إلى الخالد الذكر وعميد الرواية العربية والحاصل على جائزة نوبل في ذكراه السادسة عشر على الرحيل أرسل كل التحية وكل الإعجاب.
المترجم أحمد الأقطش
مزيد من القراءة
فلنوسع الرؤية قليلاً لنقول إننا إذا أقررنا أن بعض الأعمال الإبداعية تعيش أطول مما يعيش أصحابها، فحينئذ لن نندهش إذا عاشت أعمال نجيب محفوظ في أجيال لم تعاصره وفي أوضاع ثقافية لم يعاصرها. إنني أرى أن العوالم الإبداعية لنجيب محفوظ من الثراء بحيث يتعذر على القارئ العادي الإلمام بها جميعًا؛ فغالبًا ما ينجذب القارئ إلى الأعمال التي تمس شيئًا من وجدانه وأفكاره ويهتم بالغوص في تفاصيلها، في الوقت الذي قد لا يتحمس لأعمال أخرى لنفس الكاتب يجدها بعيدة عن ذائقته. هذا في حد ذاته عنصر نجاح للكاتب وهو تنوع شرائح القراء لأدبه؛ فمن يهتم بالواقعية الاجتماعية سيجد في روايات محفوظ نصيبًا وافرًا، ومن يهتم بالفلسفة والرمز وصراع الأيديولوجيات سيقع على مبتغاه، والمغرم بالتاريخ المصري سيقع في أسر طابور من الروايات التي تتناول عصورًا تاريخية متنوعة انتهاءً بالعصر الحديث. هذا الثراء ليس مقتصرًا على الموضوعات أو التقنيات السردية، فلدينا حشد من الشخصيات التي يزخر بها عالم نجيب محفوظ في مختلف أعماله الروائية والقصصية بحيث تصلح أن تكون مادة للدراسات النفسية المعنية بتشريح الشخصية. وهناك جانب يكاد يتوارى عن الأنظار لاعتبارات كثيرة وهو المجموعات القصصية، وفي رأيي المتواضع أنها لا تقل أهمية عن الروايات التي صارت عناوينها مألوفة من كثرة التكرار. ومن العجيب أن تكون الجغرافيا المهيمنة على كثير من إبداعات نجيب محفوظ هي الحارات والمناطق الشعبية ويستطيع تفجير كل هذه الشخصيات والأحداث والصراعات التي وإن انقضت ظروفها التاريخية إلا أن دلالاتها وتجلياتها صالحة ولا تزال. وأنا أعتقد أن إتاحة أعمال نجيب محفوظ الآن سيسهل على كثيرين قراءة ما لم يتيسر قراءته من قبل، فأنا أقر أن هناك أعمالاً لم أتطرق إليها بعد، وفي ظني أن هناك كثيرين غيري أيضًا يحتاجون إلى قراءة وإعادة قراءة بعض روايات محفوظ ومجموعاته القصصية، وهذا في حد ذاته دليل .
الدكتور سامح درويش
درس الإخلاص
سؤال مثير والإجابة عليه من وجهة نظري ان ما بقي من نجيب محفوظ هو نجيب محفوظ كاملا و أكثر. تذكرت كلمة قالها لي صديقي المايسترو سليم سحاب عن محمد عبد الوهاب انه متنبي الموسيقى أي أنه كالمتنبي مالئ الدنيا و شاغل الناس وهكذا نجيب محفوظ ملأ الدنيا و شغل الناس و لا شك بأن نوبل قد منحته انتشارا في العالم و خاصة انه من أعظم الأدباء الذين حصلوا على الجائزة من حيث وفرة الإنتاج واستمراره حتى النهاية بالإضافة إلى تنوعه و تطوره وطرقه لموضوعات مختلفة . و بالطبع لن أسرد هنا ما يعرفه الجميع عن إنتاج نجيب محفوظ بداية من مصر القديمة حتى أحلام فترة النقاهة. الا انني اريد التفاتة أكثر للقصص القصيرة و المسرحيات و كلها ذات فصل واحد الا انها شديدة التركيز و التكثيف وتقول الكثير مما تعجز عن قوله روايات . نجيب محفوظ أعطى المبدعين جميعا درسا في ان الإخلاص للفن هو مفتاح النجاح و الخلود ، كان يكتب وعينه على ما يكتب لم تكن عينه على ناقد أو جائزة أو تقدير ، كان راهبا مخلصا في محرابه ينام ملء جفونه عن شواردها و يسهر القوم جراها ويختصم . سئل مرة كيف أنجزت هذا الإنجاز الضخم الوفير ؟ فكانت إجابته: لم أكن أخضع لدلال الالهام . قيل : كيف ؟ قال : اجلس كل يوم في ساعات معينة الى مكتبي و أوراقي كالتلميذ الذي يؤدي واجبه المدرسي و اظل اكتب ثم أنظر فيما كتبت هل هناك ما يستحق الاستمرار فيه ؟ إلى أن اتصيد الفكرة و الموضوع . هذه القصة رواها لي الشاعر الراحل فاروق شوشة. و هذا درس آخر تعلمناه من نجيب محفوظ . لا يفوتني هنا ان اذكر أنني شرفت بالجلوس بين يديه في مقهى بترو بالإسكندرية مع توفيق الحكيم و د. حسين فوزي عدة مرات في سبعينيات القرن الماضي و أشهد بتواضعه و حسن استماعه لمحدثه و هذا كان من حسن حظي. لقد بقي نجيب محفوظ و ازداد لمعانا و تألقا و هذه سمات العظماء .على أن عملية التلقي لن تتوقف عند جيل معين أو فترة زمنية معينة.