نبوءة

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

لم يفهم أبدًا حبها له.

كان عاقلًا جدًا ومنضبطًا أكثر من توقيت جرينتش، وكانت هى سريعة الغضب، فصفقت الباب خلفها، جلست على الرصيف المقابل للفندق لعله يلحق بها، لكنه كان متفاهمًا وسمحًا بما لا يجعله يضيق برفقة الغضب لحبيبته، قاومت إغواءات الغضب عشر دقائق لكنه لم يُطل حتى من الشرفة، كان يعتقد أن الغضب قبيح وأنه لا يمكن له أن يغويها، كان تخمينه صادقًا، فهى ظلت منتظرة، وفشل الغضب فى جعلها تغلق الموبايل فربما يتصل بها، لكن الدقائق مرت، ومرت أمامها أمواج متلاحقة للبحيرة، لم تكن ترغب فى موت أبدى، فقط دقيقة، دقيقتين، حتى يتصل بها حبيبها، ولما طال تحديقها فى الموج، خرج لها الحزن من مكمنه، فهطلت دموعها، وتعاطف معها المارة ومدوا أيديهم لها بمناديل «كلينكس» كى تجفف دموعها وتفلت من غرق مكتمل الأركان

تزايد تجمع الناس حولها، فالتصق الحزن بها، ومن بين الحاضرين ربتت على كتفها سيدة مسنة وحثتها على الابتعاد عن هذا المكان، ونبهت المتجمعين لمشاغلهم، فسارت متكئة على ذراعى الوحدة والحزن.

تجنبت الطرق المزدحمة للمدينة، وكانت كلما اقترب منها شخص تعتقد أن حبيبها قد شعر بغيابها، فتبطئ الخطو قليلًا، لكن ظِل كل المارة كان يتجاوزها، والوجه الذى طالما بحثت عنه بقى غائبًا، فكان حزنها يتضاعف ووحدتها تزداد.

همست لها الوحدة:

حاولى تمييز الأصوات التى تملأ الشارع.

عندما ركزت فى ضجيج الأحاديث الجانبية وأغنية وردة «اشترونى واشتروا خاطر دموعى»، تأكدت أنها وحيدة.

عاجلها الحزن:

انظرى حولك.

كان الجميع يسير فى صحبة، وكانت الوحدة والحزن من المكر بما يجعلهما يحيطان بها بحيث يبدو للمارة أنهما ليسا معها.

سارت ساعة، ساعتين، ثلاثًا حتى وصلت إلى نهاية الشاطئ.. قررت العودة، دون أن تنتبه لهمس الحزن للوحدة:

متى سنتخلص منها؟

أجابت الوحدة بحنكة المسنات:

ليس هنا وسط هذا الزحام.

أين إذن؟

فى حجرتها؟

وحبيبها؟

يا أبله إذا كان لم ينتبه كل هذا الوقت لغيابها فهل سينتبه لعودتها؟

دخلت الغرفة، تملكها الأسى، وهو ما زال على وضعه يُقلب فى القنوات الفضائية ممددًا فى السرير، يد تحت رأسه والأخرى ممتدة بالريموت متأهبة فى أى لحظة لضغطة على «زر + أو زر-».

استبدلت ملابسها بأسى يليق بامرأة أيقنت أنها حين ترحل لن تجد من يبكى عليها أو على الأقل يودعها من الشرفة.. تمددت على السرير الموازى لسريره.. لو أن «شبشبه» قد تحرك عن زاويته، لو أنها لمحت آثار قدمه فى اتجاه الشرفة، لو أنه يسألها ماذا فعلت، أو حتى ينظر إليها، لو.. لو..

استسلمت، أغلقت عينيها وقبلهما الموبايل، وتركت للحزن أن يبدأ بنهش ساقيها، وللوحدة أن تبدأ بالتهام ذراعيها.

كانا يتناوبان عليها، وهى مكومة على السرير ودموعها تنهمر، ويتردد فى داخلها صدى كلمات مثل:

أريد أن تفهمنى، أرجوك اشعر بى

ملّ الحزن من صوتها، فقطم حنجرتها وفقأت الوحدة عينيها، فاستراحا من نحيبها وبلل دموعها لملاءة السرير التى يتناولان وجبتهما عليها، كان دقيقين فى التهامها بما لا يسمح ببقاء أى فتات منها، غير أن نقطة واحدة من دمها فلتت من فم الحزن.

بعد الوجبة الشهية فتحا الثلاجة الصغيرة وأخذا علبتى «سبرايت دايت» ليتمكنا من هضمها بسهولة، وكان من عادتهما أن يناما فى سرير من يلتهمانه حتى ينتبه أحدهم لموته أو يشعر آخر بفقده.

همس الحزن:

هل تعتقدين أنه يشعر بوجودنا؟

أجابت الوحدة وهى تتثاءب:

لا، استرخِ وتابع الفيلم.

وما إن اندمجا فى الفيلم حتى ضغط على زر الريموت..

ألن يثبت على قناة؟

هو لا يتفرج على شىء حتى يتابعه.. هو مشغول.

بغياب حبيبته؟

بغياب حبيبته؟! يا صغيرى هو مشغول بما فى داخله.

ألا تفكرين مثلى أن نأكله؟

ستظل ساذجًا، وهل هذا أمر يفوتنى، لكنه محصن ضدنا، ألم تلاحظ عيونه التى لا تنظر إلا للداخل؟

إذن فهو لن يلحظ غيابها!

ربما يشعر بالفقد، لكنه لن يعرف ماذا يفتقد، وستحميه دروعه من الوحدة أو الحزن.

هل كان يرغب فى التخلص منها؟

لا أدرى، ربما كانت تعيق ضغطه للريموت كنترول.

أو ربما لم يكن يحبها!

هو لن يحب سوى ما بداخله.

نفسه يعنى؟

ليس بالضبط، فقط ما بداخله.

لقد نام.

عادى، نم أنت الآخر.

فى الصباح بينما كانت الوحدة تغسل أسنانها، وكان الحزن يتساءل: أين القبلة للصلاة؟ كان هو يخرج الحقيبة من الدولاب.. وكانت بقعة الدم واضحة على السرير الشاغر، لكنه وضع الحقيبة فوقها بما جعل الحزن والوحدة يقرران الهرب قبل أن يلتهمهما هو.

أمام الفندق فتح له السائق الباب الخلفى للسيارة، وقبل أن ينطلق سأل:

أين الست؟

أجاب: صباح النور.

ووضع كتبه وجرائده بجواره، وأخذ يفكر فى قصة مبتكرة يكتبها.

 

 

  

مقالات من نفس القسم