نافذة البيت .. نافذة القطار

ممدوح رزق
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

ممدوح رزق

وراء نافذة بيته يجلس مرتعشًا، مشرعًا روحه لغنيمة الأضواء الخافتة والمتناثرة، التي تلوّح لبصره المتحسّر من شبابيك وشرفات البيوت البعيدة. بصر متشوّق، محتضر، يرتحل في العتمة الغامضة المبتذلة لليل، خاصة حينما يطبق السكون المتوعّد في الشتاء. إذا ما سمع أصواتًا بشرية مفهومة خارج هذه الجدران التي يجلس بينها فإن خياله يشعر بالخسارة. حين يمنحه ساكنو المنازل من حوله تفاصيل محددة لحيواتهم دون قصد. يغمض عينيه على الأضواء الخافتة في سكون الليل ليتوحد بالهمهمات المتفرقة التي تعبر جسده بشكل متقطّع. الثمالة التي يفقدها بمجرد تمييزه لكلمات المقيمين حول نافذة بيته أثناء الأحاديث المتأرجحة فيما بينهم. الكلمات التي تجسّد وجوههم رغمًا عنه. ذلك لأن هذه الأصوات هي ذاته. لأنه لا يريد أن يسمع صوته أو يرى نفسه. يعرف أنه يكمن في ما لا يُرى أو يُسمع. في ما لم يُفسّر.

وراء نافذة القطار يجلس بشعور جارف بالانسجام. ليس فقط لأنه يصادق المسافرين في الليالي الباردة، المنكمشين في نعاسهم المرتجف، ولا لأن الحكايات التي يتبادلونها همسًا يهدهدها الضباب الكثيف، الحقول المظلمة، الروائح الريفية، المصابيح الشاحبة، والبيوت الصغيرة المقفلة حول القضبان فحسب. يشعر بهذا الانسجام لأنه يدرك أيضًا عدم الوصول. لا يتنقل من مدينة إلى أخرى كسائر الركاب الذين يسخر من إجاباتهم عن الأماكن القادمين منها والذاهبين إليها. هو يعيش في القطارات، ولا تخطو قدماه خارج أي محطة يمر عليها. حياته سفر متواصل؛ حيث رجوعه إلى البيت في نهاية اليوم ليس استقرارًا في وِجهة معينة، وإنما مجرد غفوة مؤقتة لمسافر أزلي لا يغلق عينيه طوال الطريق. 

وراء نافذة بيته يفكر في أنه منذ فترة راح ما يأكله أو يشربه ينتهي على الفور بمجرد البدء في تناوله؛ يفرغ كوب الماء في يده بمجرد أن يرتشف منه قدرًا ضئيلًا، يفرغ طبق الطعام بعد الملعقة الأولى، كل أكواب الشاي وفناجين القهوة، وكل أرغفة الخبز وثمرات الفاكهة تنتهي فجأة بلا كشف أو تفسير وهو لم يأخذ منها سوى رشفة أو قضمة واحدة. كأن كائنًا آخر خفيًا يلتهم طعامه وشرابه. لهذا لم يعد يشبع. أصبح جائعًا وعطشانًا بشكل متزايد طوال الوقت. كأن كائنًا آخر خفيًا يأكل ويشرب من جسده.

وراء نافذة القطار يشرد بصورة مباغتة وسط حكايات المسافرين متذكرًا أنه في طفولته كانت أمه تستخدم المصيدة لقتل الفئران. كانت تضعها فوق حافة شباك المطبخ مساءً، وبعد استيقاظه في الصباح وأثناء عبوره نحو الحمام المواجه للمطبخ؛ يشاهد الفأر مسجونًا ويرتعش بقوة بعد أن أكل السم الذي بداخلها حتى تخمد حركته تدريجيًا. لم يكن يعرف ما الذي يحدث له حين تُغلق عليه المصيدة. كان يعتقد أنها رعشة فقدانه للحرية وحسب، وأن الموت نهاية منطقية لهذا الفقدان. لم يكن كبيرًا حينئذ لكي يشعر بالألم من أجله. كان الفأر شيئًا يستحق الاحتجاز والموت بما أن أمه تفعل به ذلك. لكنه كان منتبهًا أيضًا ودون وضوح تام أو تعمّق في التفكير إلى أن العصافير التي اعتادت التحليق والوقوف وربما الإقامة في مَنوَر البيت قد شاهدت ما حدث للفأر. ما حدث لكل فأر اصطادته أمه.

وراء نافذة بيته، وكانت خمسة شهور تفصله عن عامه السادس والأربعين؛ اقتحم ذهنه خاطر مفاجئ بأن سر شقاء الماضي لا يكمن في ما تحدث به مع الآخرين، وإنما في ما لم يتكلم معهم عنه. ظلت هذه الفكرة تناوشه في الأيام اللاحقة كلما جلس وراء النافذة حتى شعر بغصّة البكاء تتمطى في حلقه. حاول أن يكتم دموعه لكنه لم يستطع. اجتاحته نوبة بكاء ثقيلة بعد أن تحولت الفكرة في أعماقه إلى يقين. كان بكاؤه مزيجًا من الابتهاج والحسرة. لقد عرف الحقيقة، ولكنه أدركها متأخرًا جدًا بشكل فادح. ما الذي يمكن أن يفعله الآن؟ فكر في أنه لو حاول تذكر حياته من بدايتها بدقة متناهية لتمكن من التوصل إلى الموضوعات الصحيحة التي كان يجب أن يتبادلها مع من حوله. ربما استطاع خياله – على الأقل – إزاحة تلك الأحاديث التي تمت في الواقع لبعض الوقت. لكنه حينما بدأ في ذلك؛ وجد نفسه أمام اكتشاف جديد. تبين له أنه قد حاول بالفعل أن يتكلم وهو طفل في الأشياء الصائبة. كان صوابها بديهيًا بالنسبة له. ماذا حدث إذن؟ رفض الجميع كلماته، وأجبروه على استبدالها بكلمات أخرى. بمرور الزمن تعوّد على استخدام الموضوعات التي يستعملها الآخرون. أصبحت هي أو الصمت. لم يتوقف اكتشافه عند هذا الحد. انتبه إلى أن ما كان يريد أن يتحدث به قد راح يتلاشى تدريجيًا من داخله. احتلت الحوارات التي يتبادلها مع من حوله موضع تلك الكلمات. حتى أنه لم يعد يتذكرها. لم يعد قادرًا على استعادتها من جديد ولو كأطياف عقلية خالصة. تأكد في النهاية أن سر شقاء الماضي يكمن في أن ما كان يجب أن يتحدث به لم يتوقف غيابه عن الانتقام.

وراء نافذة القطار أراد بشدة أن يخبر المسافرين بالأشياء الجميلة التي يفعلها مُكرهًا: الكتابة .. استعادة الذكريات .. سماع الموسيقى .. قراءة القصص ..  مراقبة المطر .. لكنه بالطبع لم يحقق هذه الرغبة؛ إذ لم يكن بوسعه أبدًا أن يجيبهم على السؤال المتوقع: لماذا تشعر بالإكراه وأنت تفعل ذلك؟ لم يكن بوسعه مواجهة ما سيترتب على امتناعه عن الإجابة.

وراء نافذة بيته يشعر أن جسده في غفلة خبيثة قد تحوّل بمرور السنوات إلى تابوت. حتى أن كل ما قاله أو خطر في ذهنه طوال تلك المدة من الفقدان والحسرة لم يكن تنبؤًا على الإطلاق، أو تمهيدًا لذلك من المقاومات العبثية. الاستيقاظ على التابوت مفاجأة غير متوقعة في جميع الأحوال. وحينما أدرك هذه الحقيقة؛ كان كل شيء قد اكتمل: الثقل الهامد .. البطء المترنّح .. التحجّر المسنون .. النار تعتصره من الداخل في جمود تام .. هو التابوت، وأيضًا هو الطفل غير المرئي الذي يحمل التابوت. لو أن الطفل الذي كانه هو من في الداخل لأصبح في ذلك نوع من الابتذال. لا، التابوت مغلق على ظلال خفية لهذا الطفل، تشابكت وتيبّست إلى أن أدركها العفن. أرواح متوارية تتقلّص وينتفض صدؤها، كأنها خيالات الماضي وقد باتت أشلاءً أو عصارة الميت.

وراء نافذة القطار يعتبر نفسه جالسًا بين منتحرين وقتلة. لن يفكر أي منهم في الانتحار أو القتل قبل الإقدام على ذلك ولو بلحظة واحدة. سيجد كل منهم نفسه يفعلها فجأة وحسب. كأن حياته كلها لم تكن سوى تجهيزًا خفيًا للانتحار أو القتل، أو كأن الإنهاء المتعمّد لحياة ما له موعد محدد، لا يدرك أحد شرطه. كأن الوجود نفسه هو ذلك الشرط، حيث ما يُسمى “موت طبيعي” هو انتحار وقتل معًا في صيغة متنكرة.

وراء نافذة بيته يقول لنفسه هازئًا: “حينما تصبح كبيرًا بما يكفي لأن تصل إلى تلك اللحظة؛ سوف تشعر بيقين أن جسدك كان يغافلك طوال هذه السنوات، وأنه كان يذهب وحده إلى أماكن لا تعرف عنها شيئًا. في الوقت نفسه، وكلما تذكرت حدثًا في الماضي البعيد، أو حكيته لأحد، أو تطلعت لصورة توثقه؛ فإن مسحة من الشك ـ على الأقل ـ ستساورك في أنك كنت موجودًا هناك. شيء من عدم تصديق حضورك في تلك اللحظات القديمة، حتى وأنت تنظر لنفسك داخلها. ربما ستردد: كيف كنت هناك؟ هل هذا أنا حقًا؟ هل ذلك ما حدث بالفعل؟ .. ليس من قبيل الاستنكار، وإنما من باب الرفض الحقيقي، عدم القبول الفعلي، الشعور بأن ثمة ما يريد إجبارك على الاعتراف والإقرار بما لا تعتقد جديًا أنك قد مررت به، مهما كانت الدلائل والإثباتات. الأغرب في الأمر، وربما يكون هو الشيء الأكثر منطقية، أن عمرك قد ينتهي قبل أن تكتشف الصلة بين الشعورين”.

أيهما نافذة بيته وأيهما نافذة القطار؟

النافذتان متماثلتان، حاضرتان ككيان واحد، ثابت، ومستقر. أما هو فعدمٍ تتقاذفه البلادة. مكوّن من (لا شيء) يحاول معالجة ما أهدره، والذي ما كان سيستمتع به لو تمكن من القبض عليه. (لا شيء) يحاول معالجة ما اختبره فعلًا، كأنه يريد البرهنة على أنه لم يستمتع به. ثمة مرايا طائشة، مفتتة أمام نافذة البيت ونافذة القطار؛ ينظر من خلالها إلى وجهه فلا يشعر أنه يمتلك هذا العمر. ما كافح للقيام به هو ما كان يجب أداؤه كطقوس محتومة فحسب. (لا جدوى) ترتدي ملابس الانزواء في البيت، أو ملابس الانزواء في عربة القطار. شذرات مبعثرة من الأوهام. أقصى ما يستطيع أن يصف به الذكريات أنها مجرد مَشاهد، ربما اختلقها شيطان مختبئ، وكان عليه أن يسردها على ذلك الذي يدعي الجلوس وراء كل نافذة. يسردها بشكل متعجل ولا يمكن استيعابه.

 

مقالات من نفس القسم

عبد القادر القادري
تراب الحكايات
موقع الكتابة

نظرات