محمود عبد الدايم
«ليس من رأى كمن سمع»، فما بالنا بـ«من عاش وانغمس في التفاصيل وحفظها عن ظهر قلب»، قطعًا.. ستكون الحكاية مختلفة، ستكون متكاملة الأركان، مدهشة، ممتعة، وموجعة في بعض تفاصيلها، أو يمكن القول أنها ستكون «حكاية طازجة»، هذا بالفعل ما استطاع الكاتب الروائي، عادل عصمت، الإتيان به في كتابه «ناس وأماكن»، فـ«الخبرة» ليس في الكتابة، لكنها في المعايشة، الذاكرة البصرية، الأسئلة الطفولية التي حملها صاحب الكتاب معه منذ سنواته الأولى، ولا يزال يحملها بالمناسبة، تتجلى جميعها في كتابه الصادر عن دار «الكتب خان».
من يعرفون الروائي، والقاص، عادل عصمت، يدركون حجم المحبة التي يحملها في قلبه عقله، لأديب نوبل، نجيب محفوظ، ومن اعتادوا قراءة «أعمال عادل»، سيلمحون بين الأسطر «نظرة محفوظية» و«نكتة محفوظية» و«حكمة محفوظية»، وإن كان «عصمت» أضاف من عنده إليها الكثير، منها – على سبيل المثال، ما يمكن وصفه بـ«النظرة القروية» للفلسفة، الرؤية «الخضراء» الصافية، والروح الطيبة التي يمتاز بها «ولاد الأرياف» وينفردون بها دون غيرهم من أهل «البندر».
القرية.. عالم يحفظه «عصمت»، ممتلئ به بـ«فعل المحبة» أحيانا، وبدافع «الشوق» في أحيان آخرى، وهو ما يمكن أن يبرر رغبته، وقراره الواضح والقاطع، بالبقاء قريبًا منها، ورفضه النزوح ناحية «أضواء المدينة» و«شلة العاصمة» و«قعدات المثقفين» في القاهرة، فهو ليس فقط «ابن مخلص للقرية»، لكنه عاشق غارق في تفاصيلها، يضيء وجهه عندما يحكي عنها، يعود طفلًا صغيرًا مبهجًا وهو يلتقط طرف حديث يذكره بـ«الحب اللي كان»، والحكايات والمواقف و«الأيام الخالدة».
الكتابة عن «ناس وأماكن» هنا لا تسير في اتجاه «تقييم العمل» أو رصد «تقنيات الكتابة» أو البحث عن «أسلوب الكاتب»، لكنها، ومن وجهة نظر قارئ، وقارئ فقط، تخرج من «رحم الدهشة»، فمن الجملة الأولى، بل العنوان الأول، يظهر «رأس المتعة»، فـ«قرية منسية»، وهو العنوان الذي اختاره «عصمت» لقسم الكتاب الأول، يكشف حالة «الشوق» التي تعتري الكاتب وتحكمه وتتحكم فيه كذلك، فما أن تبدأ في قراءة فصول هذا القسم، إلا وستجد نفسك تصرخ – على طريقة نيوتن، قائلا: «وجدتها».
المرادفات التي استخدمها «عصمت» في حديثه في فصول «بيوت من طين»، و«أفراح هشة» و«الكهرباء الهشة»، و«القناطر»، وإن كانت تبدو من الوهلة الأولى «سهلة ومتاحة وممكنة»، إلا أن محاولة – مجرد المحاولة- لتقليدها لن تكون ذات جدوى، فـ«صاحبها» كتبها بـ«أمر التجربة» وبـ«فعل الحنين»، وأي رغبة في إعادتها إلى صورتها الأولى، لن تكون مكتملة إلا بـ«روح عادل»، وليس أي كاتب آخر.
ينفرد «عصمت» دون غيره، بـ«الكتابة المحايدة»، لا يقدم نفسه، في صورة الفيلسوف، وهو أقرب بالمناسبة إلى هذه الصورة، ولا يفرض رأيه وكأنه – لا شريك له – الرأى الأصح، بل يكتب بطريقة «حكايات المصطبة»، كتابة «عفوية» و«عفية» في آن معًا، كتابة ستجعلك تعتاد رائحة «اللبن الرايب» التي كانت تميز بيتهم عن بيت الأستاذ محمد الموظف، أو بيت العمة ذي «رائحة البط»، لأنه – وببساطة- أدرك مبكرًا أن «البيت هو ناسه، وكل بيت له روحه الخاصة».
لا يتركنا الكاتب نغادر قسم «القرية المنسية» وفصوله العشرة دون أن يصدمنا، أن يضعنا أمام حقيقة عنوانها «تبدل الأحوال»، فـ«عادل» الذي ظل يغزل طوال الفصول العشرة حكاية «القرية» على «نول الدهشة»، يوجعنا حين يخبرنا عن «انقلاب الزمن»، و«وأد القرية»، فيقول: «بمرور الوقت تم تخليق النمط الجديد، «الأسرة» على نمط المدن، لم يتجسد تفكك العائلة في مجرد الانتقال إلى دار جديدة، أو القيام بعمل خاص، بل في تخلخل مجموعة من المفاهيم كالأبوة والعائلة وبالتالي في تغير محتوى المشاعر، وتحول ولاء الفرد إلى ذاته في الأساس بعد أن كان ولاؤه القديم للعائلة، وفي خضم هذه الحركة التي كانتت تفتت شكل التجمع القديم تم اقتلاع بشر من مكانهم الوحيد الملائم لهم، فلقد رأيت فلاحين أصيبوا بالغم لإدراكهم بأنهم فقدوا العالم القديم إلى الأبد».
المدينة.. الوجه الآخر لصاحب «ناس وأماكن»، وإن كان وجهًا أكثر واقعيًا، لا يعترف بـ«رائحة البيوت» أو «حكايات المصاطب» أو حتى «الأحوال المتبدلة» وحكايات «العيب والأصول»، وقارئ «عصمت» يمكنه اكتشاف أنه لا يحب المدينة كثيرًا، لكنه في الوقت ذاته لا يمقتها، بل يتعامل معها تحت بند «من اضطر غير باغ ولا عاد» أحيانًا، و«المغلوب على أمره» أحيان آخرى، ورغم هذا، لكن المدينة كانت حاضرة في ذاكرة «الدهشة» التي يتمتع بها «عادل»، وإن كان حضورًا يليق بـ«الضوضاء» و«الازدحام» و«الوجوه المضطربة» و«الأيدي العابثة» و«أولياء الله» الذين يحبهم الكاتب ويأنس بهم، ولهذا كان القسم الثاني من نصيب «أطياف المدينة».
الأماكن.. بطل القسم الثاني من «ناس وأماكن»، الذي قدمه الكاتب مستعينًا بـ«ذاكرة بصرية» حادة، و«فضول طفولي» لم يفارقه في سنوات الشباب والنضج، فلهذا كتب عن «زوار المقام»، أصحاب الملامح الداكنة والطواقي والجلابيب، القاديم من أجران الأرز والذين انتهوا من «جمع القطن»، الذين ولوا قلوبهم شطر «السيد البدوي»، واختاروا السكنى إلى جوار «الشيخة صباح»، إنهم «أبطال المدن الصغيرة».
سريعًا.. ينتقل «عادل» بنا إلى «مقاهي المدينة»، المساحة التي احتوت حسه، وأصدقاءه، وعدم التوافق مع الضغوط التي تفرضها الطبقة الوسطى على أبنائها، وهي ضغوط تسببت في تسرب شعور إليهم بالحزن، والعيش في «مدينة بلا قلب»، ولهذا كان المقهى هو المكان الصالح لـ«النمو»، وليس أي مكان آخر.
«لا يمتلك المرء نفسه إلا في الشوارع أو المقاهي»، عبارة صاغها «عصمت» بطريقة تكشف حجم «المأساة» التي كان يدور ، وأصدقائه معه، في فلكها، فالبيت لم يكن – من وجهة نظره – إلا «مكانا لأداء الحياة، الطعام، النوم، والمذاكرة، مكان له كآبة المدرسة ومؤسسات الحجز والعقاب، يدار بالطابع القمعي، ويخالف الأهواء والرغبات».
في حديثه عن «مقاهي المدينة» يتسلح «عصمت» بـ«الكتابة»، والحس الروائي المميز لديه، فيكتب عن مقهى «الأقصر»، الذي يصبح في «الليالي الصيفية» مكانًا شاعريًا، كاشفًا عن فشله في كتابة نص عن قمر يضيء مجموعة من العصافير بدت ووكأنها جزء من فروع شجرة، بعدما توقف خياله عند صورة «الشعرية الصافية»، رافضًا دمجها في حواري المدن.
«التجارية» المقهى الثاني الذي يجذب «عادل»، فيكتب عن اتساعه المهول وأجنحته الكثيرة والجرسونات الذين يكلف كل واحد منهم بمتابعة ركن من أركان المقهى، وهو المقهى الذي جذب الكثير من رواد «الأقصر» الذي طالته «معاول الهدم»، لتبني برج على الطراز الحديث احتلته مكاتب الشركات وعيادات الأطباء، ومركز توزيع لإحدى الصحف القومية، وهو المصير ذاته الذي لاحق «التجارية» بعد سنوات، بعد نجح أحد تجار الألبان والجبن في مدينة طنطا، في إغراء أصحاب المقهى بـ«تغيير النشاط»، فأفرغت «التجارية» من أثاثها، وتحولت إلى محل لتجارة الجملة، وظل اسم «التجارية» مكتوبًا بخط الرقعة على شرائح من الخشب، وأضيف إليه بالخط نفسه «للمنتجات الغذائية»..!
«الاغتراب».. المعنى الموجع الذي اختار أن يقدمه «عصمت» في القسم الثالث لـ«ناس وأماكن»، وهو القسم الذي اختار له عنوان «أماكن بعيدة»، متحدثًا فيه عن «المراكب المتهالكة» و«الأحلام الغارقة» و«الجثث الطافية»، مقدمًا القضية من زاوية هي الأكثر حزنًا بين بقية الزوايا، ومتسلحًا بـ«اللغة» التي كشف لنا ألاعيبها في وصف كلمة «جثة»، فـ«المعجم الوسيط» يرى أنها مجرد «بقايا»، وإن كان لم يتجاهل فعل الاجتثاث موضحًا أنه «القطع» و«الفصل» الذي يؤدي إلى كومة من التراب، أو بقايا الكائنات الحية في طريقها لأن تصبح ترابًا، وهو في النهاية إفراغ الشيء من حيويته وما يجعله حيا، في حين أن «الصحاح» يرى أن الجثة هي شخص الإنسان قاعدًا أو نائمًا، وجث الشيء خلعه، أي تم حجب الحياة عنه بعملية اقتلاع.