نادية

فن تشكيلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أسامة علي

وكأن القبح هو من خرطها، كبرت حلوتهم فكذب اسمها.

ذكي جسمه نحس، من كثرة ضرب معلميه له، حتى أن ناظر المدرسة أرسل خطابا لوالده من كلمتين لا أكثر (ابنك غبي)

القاعدة في الشرابية إذا ثابتة (الأبناء دائما ما يخيبون تطلعات الأمهات والآباء).

الآباء الجدد فطنوا لذلك، حتى أن مسجل المواليد اشتكى لمدير السجل المدني من غرابة أسماء المواليد الجدد (بهلول، عبيط،، حمار، غبي، فقري، العمشة، أوحشهم أوكسهم…)

وفي يوم ما، حلت المعجزة على شارع المظلوم والشرابية كلها، وكسرت القاعدة، فكانت جميلة لها نصيب من اسمها ويفيض، ولم لا، فنادية هي أمها، نادية فاتنة الشارع وكل شارع، نادية التي أسر جمالها رجولة الشرابية.

بين ليلة وضحها تحول شارع المظلوم لساحة انتظار مجانية لاختلاس النظر للجمال. اسم شارعنا نفسه تغيير، من شارع المظلوم، إلى شارع نادية. ليس بشكل رسمي بالطبع، ولكن  بشكل شعبي..

قال لي أبي: بأم عيني رأيت قمامة وحصى الشارع، وهي تفسح الطريق بغنج لخطواتها الراقصة.

في مرحلة الإعدادية، حدث تطور مذهل لجمال وأنوثة نادية المبكرة، حدث أيضا أن هاج عليها مدرس اللغة العربية، كاد أن يفقدها بكاراتها، لولا صراخها الذي أرعب المدرسة والشرابية، صراخها الذي هرع إليه خلق الله من كل حدب وصوب، صراخها الذي دافع عن شرفها، وكأنه صراخ الله.

خرجت نادية من تلك الحادثة، ببعض الرضوض والخدوش، التي شفيت مع الوقت، لكن بقي لها كرهها للمدرسة وللدراسة والمدرسين، فتسربت من التعليم، بقي لها كوابيس الدنيا كلها، تلك الكوابيس التي لم تتركها يوما تستمع بالنوم، بقي لها أيضا مرضها النفسي: كرهها لكل الرجال حتى أباها، كرهها ممارسة الجنس، حتى مع نفسها.

رغم امتلاك خليل اللبان ثروة طائلة، جمعها من تربية وبيع العجول، ونصف منازل شارعنا، وأكبر محل في الشرابية لبيع الألبان واللحوم، إلا أنه لم يتزوج بعد وقد قارب عامه الخمسين. كان المبرر الوحيد من وجهة نظر سكان الشارع (خليل اللبان ملوش في النسوان) وخصوصا أنه دائم التودد لعيال الشارع. وزاد الطين بلة ظهوره الدائم برفقة مراهقين أغراب. نساء شارعنا منعن أطفالهن ورجالهن، من الشراء أو حتى الاقتراب، من محل خليل اللبان، كن هن من يذهبن، فلا خوف عليهن

كلما مر خليل اللبان في الشارع، كلما كثر الهمز واللمز والتلقيح، حتى أنه لم يعد يرفع نظره عن الأرض خوفا من رؤية نظرات الدونية والاحتقار التي تطل ببجاحة من عيونهم

لم يعد يحتمل استمراره في دفس رأسه في الأرض،

(اتخنقت) قالها لنفسه وبينهما مرآة. لكن ما باليد حيلة، فهو لا يستطيع معاندة القدر وتغيير ميوله الجنسية، لم يبق له إذا غير أن يغير نظرة سكان الشارع له، لكن كيف؟ وفجأة جاءته البشارة، زغروطه طويلة قادمة من الشارع، أخرجته من تفكيره، فاعتدل في جلسته، كشاعر أتاه الوحي بعد خصام. وقفزت الفكرة على طرف لسانه (اتجوز) فمن هذا المجنون الذي سيرفضه إن تقدم للزواج من إبنته؟ من الذي سيرفض تزويج ابنته من أغنى أغنياء الشارع والشرابية كلها؟!

سأل خليل نفسه (أتجوز مين؟ مين؟…) ورغم أن خليل لم يكن يفرق معه من سيتزوج، فكلهن عنده سواء، لكنه قرر الزواج من أجمل فتاة في الشرابية كلها، حتى ينتقم من نظرات سكان الشارع الوقحة التي جعلته لا يجرؤ على رفع رأسه طوال الوقت. سيتزوج نادية حتى يشعرهم بالحسرة.

لم يمض على الانفتاح الكثير من الوقت، حتى تم افتتاح محل حلاقة كبير على ناصية الشارع، به أربع كراسي للحلاقة وثلاثة حلاقين أشقاء كانوا يعملون بدولة خليجية. هذا المحل الكبير كان دائم الازدحام. هناك محل حلاقة آخر، يقع في المنزل المقابل لمنزلنا وهو محل صغير. به كرسي واحد، ومن النادر أن ترى بداخله زبونا. عم سعيد والد نادية هو هذا الحلاق

وسبحان مبدل الأحوال، لم يمض على افتتاح المحل الكبير الكثير، حتى حدثت تلك القفزة الهائلة لجمال وأنوثة نادية، ومن حينها وعم سعيد لا يلاحق على الزبائن، فلم يبق للمحل الكبير غير الحلاقة للأطفال. زبائن عم سعيد نوعان، نوع يحلق عنده، على أمل إمتاع عينه برؤية جوهرته نادية. والنوع الآخر يطمع في وده للزواج منها. كان كل من يسأله الزواج من جوهرته يخبره، أنه لن يجد لنادية من هو أحسن منه، لكنها كما تعلم قاصر، ويعده بأنها ما أن تبلغ كما تقول الحكومة سن الرشد، فهي له.

خليل كان لا ينبت له شعر ذقن، كان يحلق شعر رأسه بمحل الحلاقة الكبير، مساء البشارة كان خليل جالسا بين يدي عم سعيد يحلق رأسه، ويعرض عليه صفقة (من الآخر يا عم سعيد، أنا طالب أيد بنتك نادية، وليك عليا أنى آخدها من غير حتى شنطة هدومها، مش هتدفع في تجهيزها مليم، مش بس كده، كمان هكتبلها خمس بيوت تختارهم براحتها، وهديتك يا عم هتكون محل الحلاقة الكبير اللي على ناصية الشارع). كانت إجابة عم سعيد أسرع من البرق، سقط على الأرض مغشي عليه.

قال لي أبى(عمري في حياتي ما شفت فرح زي فرح نادية، صوان بطول الشارع، وميدان سيدي المظلوم، لحد السكة الحديد، مليان علي آخره بسكان الشارع والشوارع إلي جنبنا) وضحك ربع ضحكه ساخرة(تخيل سكان الشارع اللي كانو بيكرهوه كره العمى، كلهم حضروا فرحه، ومش بس فرحه، ده فرحه على نادية اللي ما في حد فيهم  محلمش بيها) وسألني( عارف كل السكان حضروا فرحه ليه؟) ولم يعطني فرصة لإجابته أو حتى لسؤاله ليه(أقولك أنا، عشان على كل طاوله في الفرح لوكشة حشيش افغاني من النوع المعتبر، ده غير البيرة المشبرة والمزة، وكله على حساب خليل، ده طبعا غير الرقصات اللي من كل حجم و لون، غير طبعا ياسين التهامي و عبده لسكندراني).

لم يمض على زواج نادية من خليل أكثر من عامين، حتى أنجبت جوهرتها جميلة وأخوها التوأم كمال، كبرت جميلة قليلا، أصبحت في الإعدادية، وفجأة حدث لجمالها وأنوثتها المبكرة طفرة هائلة، تماما كما حدث لنادية أمها،  وما زال الشغل الشاغل لسكان الشارع و الشرابية هو: من أين جاءت جميلة؟ فخليل ليس له في النسوان، ونادية تكره كل الرجال، تكره ممارسة الجنس، حتى مع نفسها. الغريب أن أحدا لم يسأل من أين جاء كمال تؤام جميلة.

طوال مرحلة التعليم المتوسط،، و أنا زميل تختة وصديق لكمال ابن نادية وتؤام جميلة.

في الابتدائية كنت معتاداً الذهاب للنوم في وقت متأخر، فكنت أصحى بضرب الصرم وكان كمال ينتظرني كل يوم أمام منزله المقابل لمنزلنا، لنذهب للمدرسة معا. كنا نذاكر معا، ونلعب معا، ونصد تنمر الأطفال الكبار معا.

في الإعدادية كانت هوايتنا ونحن عائدان من المدرسة هي جمع أعقاب السجائر الصالحة للتدخين، وتدخينها بعيدا عن الأعين. كانت طريقة جمع أعقاب السجائر مرهقة، وفي ذات الوقت ممتعة. كنا نقطع الشوارع البعيدة عن شارعنا، الشوارع التي لا يعرف أبوانا فيها أحد،  ذهابا و إيابا، في الذهاب نحدد أماكن أعقاب السجائر الصالحة والظروف المحيطة بها، وفي الإياب يسقط أحدنا شنطته المدرسية المصنوعة من بواقي قماش المريلة على العقب، وينحني ليلتقط الشنطة ومعها العقب، الغريب أن طوال فترة المرحلة الإعدادية، طوال جمعنا أعقاب السجائر وتدخينها، لم يلاحظ أحد، أو ربما الكل لاحظ والكل غض الطرف، كون تدخين أعقاب السجائر عادة يومية عند أطفال الشرابية الكبار. كثيرة هي المعارك العنيفة التي خضناها معا، ضد أطفال الشرابية، حتى استطعنا في نهاية الأمر السيطرة على أعقاب سجائر شارعين، وكثيرة هي الجروح والندوب التي خرجنا بها من تلك المشاجرات، حتى أن هناك ندبة هلالية ما زال أثرها محفورا أعلى أنفي حتى اليوم.

في المغربية كنا نصعد أحد الحواجز التي تحيط بالشرابية من كل جانب، ويسمونها خجلا خطوط السكك الحديدية، ندخن أعقاب السجائر بشراهة ونحن نشاهد القطارات التي لا تتوقف أبدا، نتسامر قليلا ونسرح كثيرا، مرة سألني كمال (هما ليه محاوطين الشرابية بجدار وخطوط سكك حديديه؟!) وأخذ نفس عميق من عقب سيجارته وعاود السرحان.

في الثانوية كنا نصاحب البنات معا، وندخن ما تيسر من السجائر التي يستطيع مصروفنا أن يوفرها لنا، وفي قليل من الأحيان المبهجة، كنا نلوح للقطارات العابرة ونحن ندخن بواقي الحشيش الذي استطعنا اختلاسه من أبوينا.

مرة حدث عطل بسيط بقطار، فقفزت في رأسينا نفس الفكرة، تسللنا دون اتقاف، وصعدنا ظهر القطار. الحياة  فوق ظهر القطار مختلفة عن الحياة العادية، الهواء مختلف، والإيقاع مختلف، طعم السجائر والأحلام مختلفان، حتى رؤيتي لنفسي مختلفة. ساعات من السعادة والدهشة قضيناها على ظهر القطار، وفجأة توقف، لنجد أنفسنا في الإسكندرية. تكرر العطل البسيط للقطارات، وتكرر معه تسللنا على ظهورها، مرة وجدنا أنفسنا في القناطر، ومرة في الجيزة، وأخرى في بنها،، أما أطول وأمتع المرات، هي تلك المرة التي وجدنا أنفسنا فيها في أسوان، حتى أن كمال سألني(هو مفيش قطر بيروح أمريكا؟) آخر مرة وبعد أن دخنا سيجارة حشيش سألني(هو مفيش قطر ببروح الجنة؟ عشان لما أموت أركب ضهره)

بعد انتهاء المرحلة الثانوية، وأثناء انتظارنا النتيجة بين خوف ولهفة، حدث فجأة الزلزال الكبير، وتصدع منزلنا، وبقي منزل كمال وأسرته كما هو. كتر خير الحكومة أعطتنا  شقة صغيرة جدا في مدينة السلام، بمنطقة اسمها مساكن الزلزال، وبإيجار ليس كبيرا، كان علينا أن نستمر في دفع الإيجار لمدة عشرين عاما، حتى نسدد ثمن الشقة كاملا،  لنستطيع تملكها، كتر خيرها.

في يوم ما، اتصل بي كمال، وألح على لمقابلته اليوم في أسرع وقت.

فذهبت لمقابلته ساعة المغربية، كان ينتظرني في مكاننا المفضل، أعلى التلة المحاطة بخطوط السكك الحديدية (كان لازم اشوفك، أنا مسافر إيطاليا بكره، ومش هرجع  مصر تاني) وارتمى في حضني ودخل و دخلت بعده في نوبة بكاء مريرة. كبر كمال إذا، ولم يعد يتحمل الجمال النادر لأمه وأخته، هذا الجمال الذي يحرجه و يوقعه في مشاكل ما لها آخر، نظرات الشهوة التي تطل ببجاحة من عيون شباب ورجال الشرابية كانت تقتله، لم يحدث مرة أن خرج مع نادية أو جميلة، دون وقوع مشاجرة طاحنة، كان يهرب أيضا من السمعة التي التصقت بوالده.

مرت سنوات كثيرة، لم تطأ فيها قدمي الشرابية، حتى توفيت خالتي، فذهبت لتقديم واجب العزاء وحضور الدفن.

هناك فتحات كثيرة غير شرعية في الجدار العظيم الذي يحمي خطوط السكك الحديدية ويسجن الشرابية، فالطرق الشرعية لدخولها قليلة وبعيدة عن  شارع دير الناحية الذي تسكن فيه خالتي ويقع خلف شارعنا. كعادتي عبرت فتحة محمد فريد، فهي تطل على التلة المفضلة التي كانت تجمعني وكمال. أخذني الحنين للنظر ناحية التلة وأنا أعبر خطوط السكك الحديدية، ويالها من أخذة! كمال بشحمه ولحمه أعلى التلة يدخن سيجارة وهو منهمك في مشاهدة القطارات العابرة، صرخت عليه، فانتبه للصرخة، فصرخ على، وجرينا ناحية بعضنا كالمجانين، ما إن اقتربنا من بعض، حتى انتبهنا لقطار عطلان يتحرك، ودون أن ندري غيرت أقدامنا اتجاه جرينا ناحية القطار.

 

مقالات من نفس القسم