موستانج

موستانج
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبر قارتين ومحيط، أتجذرُ في أرضٍ أخرى. جذوري القديمة تآكلت بسبب مرارة التربة. وبدلاً من أختار الاستقرار في مدينةٍ كبيرةٍ عامرةٍ بالأضواء وبالحضارة المزيفة؛ اخترتُ البراري في ولاية وايومينج حيث المرتفعات والجبال تجعلني أقرب إلى السماء، التي توقفتُ عن محاولة فك ألغازها منذ زمن، ولم أعد أهتم إلاّ بالاستمتاع باتساعها اللانهائي وبألوانها المختلفة عبر اليوم. وبما أن السماء هناك أصبحتْ مقبضة، فكان ينبغي أن أرحل إلى أرضٍ سماؤها أكثر إشراقًا. ليس ذنب السماء، أعرف. لكنني لم أعد أحتمل.

قبلتْني أول مزرعة طرقت بابها للبحث عن عمل. العمل في المزارع كثير ويحتاج إلى كل يدٍ ممكنة. اطمأن صاحب المزرعة عندما عرضتُ عليه كل أوراقي ولم يفزع لكوني عربي، وقال إنه لا يهتم إلا بالعمل، وإنه لا يعتقد أنني سافرت كل هذه الأميال لأفجر مزرعة في مكانٍ ناءٍ كهذا. قلتُ له إنني لا أهتم إلا بالبراح، وإن كان العمل هو طريقي إليه فلن يجد من يعمل بجد مثلي. ويبدو أن كلامي أعجبه، فطمأنني إلى إنه سيهتم بالأوراق الرسمية. فمثلي عمالة نادرة، لا يوجد من يُقبل على العمل في المزارع اليوم، وفي مكان ريفي لن تكون هناك مشكلة في بقائي.

عملي مع الخيول كان غايتي، فهي لا تتكلم. وكان التعامل مع البشر في أضيق الحدود. لم تعد الخيول تستخدم كسلاحٍ في الحرب أو كوسيلة انتقالٍ كما في الماضي. الخيول هنا تراث، عنصر أساسي في مهرجانات الغرب الأوسط، وفي سباقات أندية الفروسية التي يرتادها المهتمون بالرياضة والبطولات، كما أنها رفاهيةٌ وتجارةٌ لمن يملكون المال، يشترون ويبيعون، ويمتلكون للتفاخر، ويقبضون مهور أفراسٍ ذوات أصول نبيلة وفحولٍ عريقة النسب.

مكافأتي لنفسي كانت امتطاء الحصان المخصص لي ونهب الأرض . سواء كانت نقطة توقفي قمة جبلٍ أو حافة جرفٍ ما فهي مكانٌ استراتيجيٌّ لبهجة روحي. تزوجت الأرض وعشقت السماء ولم أعد أريد شيئًا آخر. هل أصبحت متصوفًا! ربما.

من حين إلى آخر ألمحها، مضيئةٌ في رائعة النهار. يقولون إن الأسود يمتص الضوء، أما هي فكان لونها الأسود اللامع يعكس أشعة الشمس كأنها جرمٌ سماويٌّ. عندما أصادفها أحرص على الابتعاد عنها حتى أقرب مكانٍ يمكنني متابعتها منه. لن ألوث هذا الجمال الفطري بأنفاسي. لن أخيفها برؤية واحد من جنسي البشري المدمِّر. وإن كنت أتمنى أن أنظر في عينيها السوداوين وأتلاشي في عمقهما. أعرف من قوائمها الرفيعة وخصرها الرشيق أن أصولها إسبانية، وأنه قد سبق تدجين أسلافها واجتلابهم  إلى هذه الأرض واستخدامهم كما اجتلبوا واستخدموا الأحرار من إفريقيا. وجودها طليقة في البراري سببه أن أحد أسلافها ضل طريقه، أو هرب، أو أُطلق عن عمدٍ في البرية ليحيا معتمدًا على نفسه. أيًّا كان الأمر فقد ترك لها هذا الجَدُّ أفضل إرثٍ ممكن.

لم أخبر رب عملي بشأنها، كنت أعلم أنه إن علم بوجودها فسيسعى إلى أسرها، حتى إن لم يستطع ترويضها فستكون مفيدة في مهرجانات الروديو. ولكن الذي لم أعمل حسابه أن هناك مزارع أخرى، وأرباب عملٍ آخرون. عندما مرت فترة على غيابها توجستُ شرًّا. ثم تأكد الخبر عندما تناقل العمال أن مزرعةً قريبة حصلت على فرس موستانج سوداء شرسة. انقبض قلبي، وفي أول فرصة ذهبت لزيارتها. استطعتُ الاقتراب منها لأول مرة، لم يَحُلْ بيني وبينها إلا بضعة أمتار ينتصب فيها سياجٌ أبيضٌ مرتفع. حققت أمنيتي بالنظر في عينيها مباشرة. نظرتها لي قالت إنها تعرفني، وأنها كانت تتابعني بدورها. قبل أن يطلبوا مني الرحيل ما دمت لن أشتريها نظرتُ إليها مُطَمْئِنًا.

تسللتُ في الليل وفتحتُ لها باب سجنها، دخلتُ وسمحتْ لي بلمسة، ثم اقتربتْ بجبينها من جبيني، أغمضتُ عيني لدقيقةٍ كانت هي كل الزمن. ثم تنحيتُ عن طريقها لتذهب. أمالتْ عنقها المنحوت نحوي في شعورٍ أسميْتُه الحب، ثم صهلتْ في قوة وانطلقتْ. لم أستطع الابتعاد قبل أن يُكتشف أمري، وقبض عليّ العمال وأوسعوني ضربًا.

عبر قضبان نافذة زنزانتي الانفرادية، أتطلع إلى بقعةٍ صغيرةٍ من السماء، ولا أسمع إلا صوت صهيلها، وأبتسم.

 

مقالات من نفس القسم