قيس مجيد المولى
ذكرت سوزان برنار أن مالارمية توصل بأن اللغة أداة انتقال أو بالأحرى أداة توفيقية مابين المادة والمطلق، فاللغة باعتقادنا تعي الفكرة وتجسدها من خلال الكلمات، ولاشك أن اللغة تتخذ مساراتها عبر طبيعة الحياة ونوع الفكر وهي لا تتحسس التعابير المحايدة أو تلك التي يخفت فيها الإنتاج وغالبا ما تميل أي اللغة إلى عدم التصريح الصريح ذلك كون الخيال يغير من مساراتها بين اللحظة والأخرى وتلجأ إلى عكس ماتتوقعه ومجرد العودة إلى ماكتبه رامبو أو روفائيل ألبرتي وكذلك الشاعر الإيطالي أنجارتي وكارداريللي وجوتفريد بن وأليوت وجلهم من أقطار مختلفة، يجد بين ثنايا ماكتبوه تلك اللغة المضطربة التي تنهض على اللاأساس وتتداول أمكانياتها ضمن تراكيبها المتنافرة ثم تعيد صلتها ضمن أجواء أخرى بعضها مع البعض فاللغة هنا قادرة على تشتيت نفسها وقادرة على التزود بموسيقاها وقادرة على أن تختار ما تريد من صفاتها غير الحسية ، فقد كتبوا وأعتقدوا بما استخدموه بأنه القادر على تحطيم الأنظمة الشكلية المتوارثة والتي بزوالها يقتربون من
اللاشعور وماتهديه الكلمة من سحرها حين تفك عنها تلك القيود،
مواصلة العبث للتخلص من رمزية الزمان والمكان :
بنفس آخر لذلك العمق لمفهوم اللغة وجد سان جون بيرس تلك الضرورات وأراد أن يعطي مثلا في جانب من شعره من أن التكرار لايعجز اللغة ولايحيدها إذا ماأقترب الشاعر من تداعياتها ضمن ماترمز إليه من المعاني الكثيرة وكذلك الحال لمالارميه وفرلين الذين تعاملا مع الأسلوب الدارج ،لقد ذوب بعض هؤلاء من الشعراء جزئيات لغتهم المحدودة في أفق كلي لامحدود وقد واصلوا العبث للتخلص من السمة الرمزية للزمان والمكان ،
إن البعد الجديد للغة دخل عالما وهمياً فأنار المخيلة وعمل العقل في الوقت نفسه على كل متغير وحافل بالصراع ،ونقل ذلك الإستخدام البعيد للغة ضمن شعور المتلقي حيث غادر مفهوم التأكيدية فيما يقرأ غادرها إلى مفاهيم غير اليقين والاحتمالية مما يعني تعدد المداخل وتعدد الرؤى لتشكل اللغة خطوطا ورموزا والوانا واصواتا موسيقية ولها حركياتها وظواهرها الخاصة بها ضمن نقلاتها البنائية والغايات غير المقصودة في القصد الشعري ،
إن اللغة حين تسمح بهذا الفيض فأن أمام الشاعر فرصته للإفادة من تعقيداتها الشعرية وبنفس الوقت من تماسكها وأختراق ماضيها بما تحمله من لغة خاصة ضمن الأساطير والأسرار ورؤيا الكون الأحادية للإستدلال بها ولتطبيق مايسمى بالضوضاء الممتعة التي تصل لأحداثها الماورائية بشكل متصاعد ضمن إستمتاع الشاعر أحيانا بقسوتها الفولاذية وأحيانا بطراوتها وحضورها الكاشف لكل ماتحتوية المخيلة ليصل بها لذروتها النوعية في خلق وكشف معاكس لصور الماضي أو تأويلات تلك اللغة المتناقضة على ماتمنحه من أهميات لكل ماتقع عليه تقنياتها وأتقانها لتراكيبها وما ستعزز به تحولاتها المغايرة ضمن جهدها المزدوج في أن لاتكون هناك نقطة للتوازن تحدث انسجاما لاتتحرر بموجبه مما أصطنع لها من غايات معرفة لاتنطوي على قبولها لاي تمرد ضمن تحولها الحاسم نحو عتمتها وتأثير ذلك في قدراتها الإنتاجية ،
فهي تحمل من الطاقة مايجعلها تستدعي الكلمات بعضها وراء البعض وهذه الكلمات شبيهه بالتواصل الموسيقي الذي يشكل وحدة لحنية متكاملة وبالمقابل فأن هذا الوجود المترابط للكلمات يقرب الوظيفة التواصلية للغة ويعرض أمام الشاعر مهام كثيرة إن عنيت باليومي وفق كيانه الخارجي أو عنيت بتجريب كل ماتقع عليه من موجودات لتقدم عناصرها القادرة على الإيحاء بكل شئ ،
الخيال العميق ومواجهة تفاهة الواقع :
ورغم تلك المثالية التي ربطت الشعراء الأوربيين بالجمال لكنهم تنوعوا في موضاعاتهم وأشير هنا إلى تلك الموضوعات التي لاعلاقه لها بالجمال في ظاهرها سواء على أختيار المضمون أو بأستخدام المفردات ذات البعد المألوف أحيانا وذات الأثر القبيح أحايين أخرى ناهيك عن تلك القفزات السحرية ضمن الخيال العميق والمتميز فقد كانت تفاهة الواقع تقود إلى أسراره وبفك أسراره يمكن أستدراج المناطق الغامضة لتنسلخ الأشياء من وجودها وتصبح رهن اللغة ليصنع الشعر منها مايشاء ،هذا هو المفهوم المتداول بين النظريات الحديثة للخروج من سجن الواقع الضيق للبدء بتأسيس قوى أخرى قابلة لان تكون أكثر إثارة وأبعد توجيهات فيما يجعل كل شيء متعلقا بغير عصره ولذلك وجدت في المداخل النفسية وفي البحث في كواليسها عن كل ماينسجم وذلك الضياع وتلك الهوة التي شطرت الكائانات البشرية لتجعلها لصيقة الحاجة المادية وإهمال جزئها المنشطر الأخر ،
أن فكرة إنارة القلق لتفسير القدر وظواهر الكون الأخرى كانت أحد المنطلقات الأساسية في إكتشاف اللغة الملائمة والقادرة على محاكاة قدرات المخيلة التصويرية لأنتاج ذلك الكم من الصور المتشابكة والمتعارضة ليتمكن الجوهر الإبداعي في ذلك لأختيار موضوعات قد يكون البعض منها فخما وقد يكون البعض الأخر ضيقا وعاديا ولكن نتائج هذا الاختيار وفي الحالتين تكون على مستوى عال من التدفق ومن أرادة الحيوية وديمومتها التي حررت ماكان من التقاليد المتوارثة في اللغة وهذه الإرادة سهلت طريق أقامة بنى جديدة على صعيد اختيار مايمكن الإفادة منه ضمن الوسائل المختلفة الرئيسة أو المساعدة لتأمين حاجة النص ومتطلباته وفق التوجهات التي لاتحفل بالعموميات ولا بالقوانين الوضعية التي لاكَت الألسن ورهنتها عقودا طويلة ،
العقل أمام القوة العمياء :
لقد ذهب الإغراق في الوصف بعيدا وأصبح الأسترسال الوصفي المقنن ميزة عوض ذلك وذهب التماثل بالتقريرية المباشرة وجف السطح ليوغل في الأعماق وتحول كل مخيف كان الشعراء لايأتون على ذكره ليحل في المقدمة بل أن اللغة الساخرة جددت انتمائها لمواضيع جادة وأخرج الشعراء منها أشكالا من المقدرات الجمالية قصدوا بها تشويه الواقع للاقتراب من الأحاسيس التي تثير موجوداتهم بدون عزل إستدراكي لمناطق الوعي واللاوعي إذ أن المجهولية التامة بالواقع والصياغات الدرامية المزدوجة بالفكاهة واللاشعور بالحياة الوضعية وتقدير وبناء العالم الشعري المطلوب كل ذلك رتب العناصر الغازية للعقل وجعلها أمام مصير القوة العمياء التي تفترس المشابه والمتكرر والمرئي بصوره الطبيعية أن كل شيء هو ضمن تلك المسارات الدرامية التي تتوافق مع الإيقاع النفسي وهي مزدوجة الوظيفة والفعل والنتائج ،
لقد ذهب التشبيه والاستعارة إلى الجحيم وذهب ديكور الأشياء لجحيم أخر وعرف الشعر كيفية الإفادة من الصوفي المطلق والرمزي المباشر والإعتزاز بالأنا كمولد حقيقي للإنجازات الجمعية .
ولعل بودلير واحدا من هؤلاء الذين اجتهدوا في تنظيم تلك الرؤى الشعرية فصنع تقابلا مابين الأضداد أضداد الكلمات أضداد الألوان ألأضداد الحركية ،السمعية ، البصرية وقد حوت مراحله الشعرية مراحل خطيرة في مستوياتها الإغرائية والعصية بدءا من بدايته من الأرامل و المهرج العجوز أو البجعة أو سأم باريس ناهيك عن مطولاته الأخرى المعروفة ولاشك أن ماكتبه قد شكل شعرا حقيقيا شعرا غريبا وعنيفا شعرا لاذعا وعميقا وهو وغيره وجدوا مظهر اللغة الحقيقي فتطورت الكلمة تطورت الفكرة وتطور الوجود الشامل الذي أصبح نمطا لها وعلى أثر تلك المغادرة باللغة تعمق الوعي شعريا بوعي الثقافة كمدخل لاستنباط العديد من الإشكاليات الفكرية التي تساهم في أمدادات جديدة للمخيلة وقد أخذت الحضارة تمثل وطأتها الثقيلة أمام حاجة الأنسان لما يشفي ذاته والتي بدأت تعيش شكلها الدرامي كمحصلة أكيدة لمحاولات التجديد وظهور النظريات والتيارات الفكرية وبهذا خلق من الرموز وجودا حيا ومن الباطن إطالة إنصات للتعبير بفخامة بدون الحاجة لتسوية إنسجامية مابين العلاقات التي أثرت اللغة زمنا طويلا بصيغها العملية ضمن علاقاتها الواقعية والعامة .
النقد والتنقيب في المفاهيم القديمة :
وقد رافق ذلك أن توغل النقد في أعماق الماضي بعد أن حاول إعطاء شفرات ما للأشياء التي لابد من أعادة النظر بها وخلال مائتي عامٍ من الجهد الإنساني الذي تعاقب عليه العشرات من الشعراء المهمين ضمن القارة الأوربية فتم تقييم منجزات العصور الأدبية الحديثة وأعيد تداول المفاهيم الأغريقية القديمة بشأن الشعر وتم توظيف القدرات النقدية لدراسة الجمال ومفهومه وكان المسرح آنذاك وما كتب له هو الأخر قريبا مما كتب عن الشعر أو لصيقا له ولاشك رافق ذلك تحولات سياسية وهزات كبيرة ومنها الثورات الأوربية كثورة نابليون في فرنسا والخارطة الجديدة لأوربا والعالم بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية وتداخل الصراع الديني وسيادة الأقطاع وأزدهر الاكتشافات العلمية الأولية والسيطرة الاستعمارية وتنامي رؤوس الأموال بيد القلة في المجتمع واضطهاد العمل الذي تعرضت له المرأة والأطفال في المعامل والمصانع وشيوع التوق إلى الحرية ضمن شيوع مبادئ حقوق الأنسان التي أعلنها الرئيس ولسن ،
بدأ النقد يكشف أن هناك تحولا كبيرا بمفاهيم ركائز الإنتاج الشعري ومنها اللغة ووظيفة المخيلة ومفهوم الخيال ومدرك الموجودات والملكات الإبداعية والعقل الباطن والشعور والإحساس والتناقض والعقل المتطفل والتصور والإبداع وكافة أوجه النشاط الشعري الأخرى التي تعني للنقد أن يخرج بحصيلة ما عن الشعر الذي كتب في الماضي والذي بدأ يكتب الأن وكيف يتعامل النقد مع هذين المنتجين عبر تلك الأزمات وما ولدت من الألآم جمعية ساهمت في تفجير الوجدان الإنساني وفي النظر الى الحقائق والمتطلبات الكونية بنظرة من اليأس والتمرد وكان لابد من المعجزة التي توحد الذات ليس في الشعر فقط وفي الأجناس الأدبية الخاصة بالشعر ، الأغنية ، الأنشودة الرعوية الملحمة ، الدراما لأحياء وإيجاد ماكان لذيذا ومخفيا في الماضي،
الإدراك الأهم من ذلك ولربما المعبر عنه أن الشعر مقدس خفي في ظلام الأسرار وهو حالة رفيعة بدون أن يطلى بشيء من الدينية أو أشكال التأثيرات الأخرى التي اعتمدت من البعض كعكاز للوصول للمتلقي فقد تفرع النص الواحد إلى نصوص عديدة اتجهت إلى الإبتعاد عن عقلية العصر وهنا أصاب النقد حين حلل أسباب هذا الاتجاه وأستخلص أن كل الذي جرى كان من الضرورات استجابة للمواء الذي في باطن الإنسان وهو مواءٌ يشبه الموت فنهضت قوة تشتيت الخيال وامتلكت اللامتناهات زمامها لتتوالد الأحداث وتتناسل الأزمنة والأمكنة كل ذلك جرى بصوت الأنا الواحدة التي أنهت نظام الإتكال على حرفية الماضي ليبلغ الشعر ذروته الغريبة ولازال النقاد يعتقدون أن هناك الكثير الذي مضى والذي لابد من الإستدلال على قواه الأخرى المخفية فيه كي يصار بعد ذلك لنسيانه ووضعه على الرفوف شاهدا فقط على عصره ،
التفكيك – التحطيم – الفوضوية :
فقد تبوأ مفهوم (التفكيك ) أو (التحطيم ) أولويته في التنظير البودليري استنادا لما بذله بودلير من جهود متواصلة في الوقوف أمام طبيعة المخيلة وطبيعة نشاطها ،
أن المخيلة في مفهومه تقوم على تفكيك الكليات الواحدة أي تقوم على تفكيك العالم كبناء كلي غير ملحق بأبنية أخرى إن كانت وهمية وغير وهمية أو خالقه أو مخلوقه وهو يرى ضمن هذه الكلية أن هناك (الماكروكزم ) أي العالم الكبير فالمخيلة تستوعب هذا العالم الكبير ثم تعمل على تفكيكه بمعاينة نفسية لتتم عملية خلق جديدة من أجزاء مختلفة ومنظمة وأيضا بمعاينة نفسية والركيزة في مواجهة العالم يعني لدى بودلير أطلاق قوة الخيال لكامل أتجاهاتها وأبعادها لتجريد الأشياء من شيئياتها والسعي لمحو الواقع والتحكم بالدلالات الكونية والوصول إلى عالم الخيال الحر ضمن بهاء الذهن والصور المركبة ،
الغامض – الغريب – الجهنمي :
أن الحداثة الشعرية قد أشارت إلى الإستدعاء والإيحاء والشهوانية والسخرية المنتجة والإستدلال المجرد واللامرئي واللاتسطيح والتوافقات الرمزية والناتج الترابطي والمحاولات الميتافيزيقية والفوضوية المأخوذة بالروى والكثير من المفاهيم الجديدة ومنها تلك التي أشار لها رامبو بتعطيل الحواس ،لاشك ضمن ذلك كان البحث لأيجاد لغة لغة تتقاطع مع أشكال الشعر القديم لغة تؤمن مالديها من توافقات لهذا الإنفلات الجديد لغة يمكن بواسطتها تمرين المجهول على إزاحة الحاضر بفعالية وبقسوة مزدوجة ليشترك التراكمي والقصدي في مشروع الحداثة الجديدة الذي أندفع أتجاه اللامكانية وإلى جوهر المعاناة الإنسانية فاعدم الكائن المتسلط أعدم باطنيا بقوة الإشراقات الجديدة التي أضاءت الماضي السقيم ،
كان رامبو يريد من الرائي أن يسترسل بغيبوبته أن يجانس ألآمه بأوهامه أن يؤكد قيمة حساسيته وأفراطها في تعقب مؤثراته أن يكتشف قوة صمته وغباء ما يعاد وما يكرر وما يتنزه من خارجه من صور وأنغام وموسيقى مكشوفة الغرض ومألوفة السمع والأدراك ،فقد أتم لوتريامون هو الأخر جانبا أخر من تلك الرؤيا الشعرية من ذلك الإكتشاف التنظيري بأن ينحسر الماضي ضمن فاعليته الموضوعية ويخلق خلقا فنتازيا فذهب برؤاه وبما كتب إلى أبعد من العالم الحقيقي والمتخيل والعالم الذي فككه رامبو وأعاد تأسيسه فقدم أشياء غريبة وجهنمية وسيلا من الوقائع الغنائية المؤلمة بأبتداع علاقة تباينية مابين المعنى وبين الكلمات ،
كان الغريب والغامض فكها ومسرا وكان القبح متحولا والمشاهد فجائية وغير متوقعة .
أهتز الكيان الشعري بشيء غريب ، قد يكون بين سطوره ماتجده تافها للوهلة الأولى لكنك سرعان ماتعتدل في الحكم عليه لتجده متلبسا بالدهاء والمكر وفيه من التحولات المتعددة التي تضاعف توالداتها نتائجها ،كل شيء بدا مفتوحا ومنفتحا على ما يشعر به الأنسان ما يحاول المجتمع الإمساك به ما تريده المخلوقات البشرية فقد حققت الحداثة الشعرية طفرتها حين أهانت اللغة القديمة أهانتها بفعل قصورها عن سد الحاجات الروحية تحت تأثير الخمول والضياع في البحث عن الحاجات المادية بدأت الرموز المعقدة تعطي صورا وتشكيلات أكثر وضوحا وبدأ الفعل المغناطيسي فعله في جذب الركائز الحديدية للكون ، تلك المقارعة الشعرية بدأت مع الأشتغال على الأشكال غير المتناسبة لا في الشكل ولا في الوظيفة ولا في جوهرها المنتج ، لم تكن هناك قياسات لديهم بين ضوء القمر وضوء الفانوس ولم تكن هناك قياسات بين جرس الكنيسة وجرس البيت بين رائحة الشواء ورائحة الورد بين الهزات الكونية والنحيب بين الموت والأسف وبين الحياة والفرح فهذه البينينية التي نبشوها من الماضي خرجوا من توازنها لينفردوا بأفكارهم التي قيل عنها بأنها السيئة على الأنسان، في الوقت الذي تنعم النفس في جحيمها بفردوس أبدي ونعمة من الأحلام واللذات والروى التي لاتزول ،
الإتجاه الحداثوي للشعرالعربي الجديد :
قفزت قصيدة النثر إلى الواجهة وقد تزامنت بمقربة والحدود الزمنية التي حطم بها السياب ونازك عمود الشعر فقد أقدم أدونيس في العام 1960 على نشر مقال له في مجلة شعر البيروتية ذات الإتجاه الحداثوي والمهم في هذا المقال أن أدونيس وضع الخطوط الرئيسة لمفهوم قصيدة النثر التي ليُفرق ويفترق بها عن النثر الشعري وقد كانت سوزان برنار وقبل عامين من مقالة أدونيس تلك قد نشرت(قصيدة النثر من بودلير ليومنا هذا ) لم يُغيب أدونيس في مقالته عن قصيدة النثر وحدة الشكل وكذلك لم يغيب كونها تنتظم في بناء تركيبي ولم يُغيب كذلك كونها مجموعة من العلائق وصادرة عن أفق واع ،ولاشك ولكي يكون هناك قاطعا مابين قصيدة النثر والنثر الشعري فأن أدونيس دلف إلى مجموعة من الخصائص والتي بواسطتها يمكن تسمية النص المطروح بقصيدة النثر فقد أجمل أدونيس هذه الخصائص بمفاهيم الوحدة والكثافة (أي الخلو من الإيضاحات والشروح ) وكذلك أن تكون مكتملة بوحدتها العضوية وببناءها الفني المتميز ،
أنتشرت الكتابات الجديدة وأمتلأت أعداد مجلة شعر بنصوص من العراق ومن سوريا ومصر ولبنان وبلدان المغرب العربي ليحتدم الصراع في مركز الأستقطاب الثقافي في العالم العربي وعلى أرض الكنانة بين القديم والجديد وتتكفل مؤسسات الدولة في مصر بالدفاع عن قديمها ورواده أمام الموجة الجديدة التي سلكت طريق قصيدة النثر بدءا من العام 1971 ،
في المنظور العربي من الحداثة الجديدة قدم النقد العربي أراءه نحو المعاصرة الجديدة بعد أن قدموا مالديهم نحو الجديد الأوربي ، فقد حلل النقاد العرب البنى التي ارتكزت عليها هذه الحداثة فتناولوا اللغة والصورة الشعرية وقضايا الزمان والمكان والمخيلة والمدينة ضمن مساهماتهم التي ذكرناها في رصد تحولات النموذج الغربي الجديد عامة والتحولات الشعرية والتنظيرية في فرنسا خاصة ،
فقد حلق إحسان عباس عبر اتجاهات الشعر العربي المعاصر كأحد المساهمين في الكشف الجديد وقد رصد تلك الانتقالية في تباين العلاقات اللغوية والنحوية والمنطقية ثم العلاقات الفكرية بينهما أي رصد قابلية المعنى وما الذي يعنيه ، أي كيف نفهم وما الذي يجب أن نفهمه وهل من الضرورة أن نفهم كذا وكذا وضمن هذه النظرة التاريخية أستند الدكتور أحسان عباس على بعض النصوص لبعض الشعراء للإستدلال ولتوضيح مفاهيم عديدة منها التفكك الظاهري والمقاربة والإستعارة والتشبيه وصولا في نظرته التاريخية إلى مفهومي الفهم والإيحاء واللتان ساعدتا على كشف كيفية تحطيم إنضباطية اللغة والشكل القديم في القصيدة.
توالى النقد يحفر الظاهر القديم وباطنه لكشف مشاكل الشعر الكثيرة وفي مقدمتها قدرة اللغة الأيحائية وعلاقة الإبهام بالباطن وكذلك المقاربات مابين الحلم والشعر والتي فتحت اللاوعي على مصراعيه وهذا يعني أن أرتياد التجربة الجديدة يرمي التنفوق على التجارب السالفة ،تم تلمس الطريق الجديد من قبل النقاد العرب وبكل وضوحه لدى نازك الملائكة حين تغلغلت في المساحات غير المرئية من المعنى وقد أيدت نظرتها تلك في كتابها قظايا الشعر المعاصر ، ويبدو وضمن قضايا الشعر العربي الحديث لم يطرأ أي متغير ضمن التشكل المنسجم الإداء نحو الجديد وأن ظهر القليل منه فلايعد بمثابة متغير معاكس بل سجالات جانبية بين البعض من رواده مما جعل الهيمنة مطلقة وواضحة صوب التوجه الجديد بالشعر نحو مطلقه الجمالي .
لقد سجل الشعراء مالديهم عبر (شعر ) و(الأداب ) وقبلهم من الشعراء من وثق مالديه عبر (أبولو ) وهم بذلك قد وضحوا أتجاهاتهم الشعرية التي أعتنقوها ،بأعتقادنا أن خطيئة التصدي للشعر الجديد والتي كما ذكرنا كانت على أوجها في مصر تتعلق بطبيعة اللغة كون المجددون أرادوا أنتهاكها وكان بالمقابل أن أعترضت مؤسسات الدولة الثقافية المتمثلة بالوجوه الأدبية الكلاسيكية وعدوا ذلك خرقا بأمن الدولة ومفهوم الأمة والقومية لكن الموجه الجديدة رمت كل ذلك مع المياه الأسنة لتبقى سمكة الشعر تتنفس من المياه العميقة والعذبة ،
كان الشعر في العراق قد كنز كنزه بنازك والسياب والبياتي ليتمم هذا الكنز شعراء الفترة اللاحقة وصارع هؤلاء الشعر في الأبدية والقرين فتجاوزوا مفهومه الدارج ووظيفته الوضعية وعبر العراق إكتَمَلَ شمل المشرق العربي وأنعطف التجديد على مغربه ليعيش الجميع يوتوبيا سعيهم لأدراك صيرورة الشعر الجديدة ،
………………….
أديب من العراق