مرة أخرى يحضر الشعر، ذلك الحاضر ليس فقط في عالم ولغة طارق، لكن في مقالاته النقدية العديدة التي تقدم قراءات مضيئة ومدهشة لتجارب ودواوين شعرية معاصرة مصرية وعربية، والتي تكشف عن متابعة واهتمام عميقين بالمشهد الشعري خاصة منتج قصيدة النثر فيه. تجلى هذا الاهتمام مرة أخرى في روايته الرابعة (الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس) عن دار العين عام 2012، والتي كان بطلها الرئيسي هو شاعر الإسكندرية قسطنطين كفافيس، الذي تتبعت الرواية حياته بشكل تأريخي – وليس تاريخيا – كما يفضل طارق التفريق بين الرواية التاريخية والرواية التأريخية؛ تلك التي تنطلق من حدث وشخصية تاريخية لكن تترك المجال واسعا لخيال الكاتب كي يعيد بناء عالم وحياة أبطال عمله. وأعتقد أن ما أثار اهتمام طارق بكفافيس تحديدا ليس فقط أسئلة علاقته بالمدينة وحضوره المفارق فيها، بل كذلك نمط حياته الفانتازي والغامض الذي يتفق مع تفضيلات طارق منذ البداية… تعددت بعد ذلك اللقاء الأول لقاءاتي بطارق وجمعتنا سلسلة من الندوات والمناقشات لأعماله، كان لي حظ إدارتها والمشاركة في مناقشاتها، كما التقينا في سهرات متفرقة غمرها الود والأحاديث الشيقة حول الأدب والحياة. وهذا من حسن حظي بالتأكيد.
شوارع الحكايات اللانهائية
بصدور مجموعة (مدينة الحوائط اللانهائية) عن الدار المصرية اللبنانية 2018، تتساوى كفتا ميزان السرد عند طارق إمام، بخمس مجموعات قصصية في كفة، وخمس روايات في الأخرى. تفصل هذه المجموعة عن سابقتها (حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة.. مات فيها) الصادرة عن دار نهضة مصر 2010 ثمان سنوات. صدرت خلال هذه السنوات للكاتب روايتان: (الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس) التي أشرنا إليها سابقا، ورواية (ضريح أبي) عن دار العين 2013، وهي الرواية التي عاد بها طارق لأجواء الفانتازيا الصريحة مرة أخرى، مع لمسة واضحة من أجواء التراث الشعبي.
يتقاطع عنوانا المجموعتين القصصيتين الأخيريتين لطارق في كلمة واحدة: كلمة المدينة. وهي إحدى الكلمات المفتاحية في بناء طارق إمام السردي. المدينة كفضاء مفتوح للسرد تبدو حاضرة بقوة في كل أعمال طارق القصصية والروائية، سواء كانت مدينة محددة كما في إسكندرية كفافيس، أو مدينة صغيرة تراوح بين الريف والحضر كما في (الأرملة تكتب الخطابات سرا)، أو مدينة كبيرة مزدحمة بعوالم شتى قاسية وموحشة كما في (هدوء القتلة) قد تكون القاهرة دون أن يرد اسمها صراحة، أو مدينة ساحلية ذات ماض متعدد الطبقات وحاضر حزين به أثر من جمال قديم كما في معظم قصص (حكاية رجل عجوز..) قد تكون الإسكندرية دون أن يرد اسمها صراحة. لكن مدينة الحوائط اللانهائية هي مدينة أقرب لمدن العالم القديم، لقاهرة وبغداد وبصرة ألف ليلة وليلة، حتى وإن كانت مدينة ذات تكوين عجيب: مدينة “قرر أهلها أن تصير بيتا (….) فحطموا حوائط بيوتهم وصنعوا أربعة حوائط هائلة لتصير المدينة كلها، بينها، بيتهم”. لكن قاهرة وبصرة وبغداد ألف ليلة وليلة هي كذلك مدن عجائبية، تختبئ خلف حوائط قصورها وبيوتها أسرار وحكايات وعوالم أخرى تفيض سحرا وغرابة.
تحمل قصص مجموعة (حكاية رجل عجوز..) بذرة عالم (مدينة الحوائط اللانهائية). ففي القصة التي تحمل عنوان المجموعة الصادرة عام 2010، نجد أن إحدى المدن التي مات الرجل العجوز فيها في وقت مبكر جدا كانت (مدينة حوائط لانهائية) حكى لزوجته عنها كثيرا. مدينة “أينما سار الشخص فيها يصطدم بالحوائط، الحوائط التي يمكن للواحد أن يجدها في أي بيت وليس في مدينة”. كما أن جزءا من متن هذه القصة يًكوِّن – بتصرُّف – متن (حكاية العجوز الذي أغضب الموت) في مجموعة (مدينة الحوائط اللانهائية). في حوار مع طارق إمام ذكر أنه كتب مشروع الحكايات كاملا قبل 2007 ونشر جزءا منه في جريدة الدستور، وأن مجموعة (حكاية رجل عجوز..) كانت بنصوصها السبعة عشر تضم النصوص المنحازة لشكل الكتابة القصصية كما يراه، بينما حملت مجموعة (مدينة الحوائط اللانهائية) النصوص الأقرب لمنطق الحكايات.
تضم مجموعة (مدينة الحوائط اللانهائية) ستا وثلاثين حكاية في ثلاثة أقسام: (1) نساء مدينة الحوائط؛ ويضم هذا القسم عشر حكايات، (2) رجل مدينة الحوائط؛ ويضم هذا القسم أربع عشرة حكاية، (3) غرباء مدينة الحوائط؛ ويضم هذا القسم اثنتي عشرة حكاية. وتسبق هذه الأقسام الثلاثة توطئة أو مدخل تحت عنوان (.. بلغني)؛ يقدم الكاتب في هذه التوطئة إطارا حكائيا لأصل مدينة الحوائط اللانهائية، للدافع من بنائها “على أنقاض مدينة بائدة”.. مدينة من الحوائط “فقط حوائط، بلا أبواب أو أسقف، فقد فطنوا أن البيوت تُخلق ليُقتل الناس فيها.”، وكذلك يعرض في التوطئة ذاتها لمصير ومآل المدينة التي غدت الطرقات الرفيعة بين حوائطها تشكل متاهة، وصارت حوائطها “أكثر من طرقاتها ومن عدد سكانها.” هكذا “صارت المدينة متاهة لسكانها، ولم يعودوا يجتمعون سوى بظهور الغرباء، الذين لم يكونوا سوى أشباح ضحايا الماضي، المدفونين بدمائهم.”
ثم تتوالى حكايات المجموعة، حكايات ساكني المدينة وغربائها، حكايات قادمة من ماضي المدينة ومن حاضرها الماضوي ومن مستقبلها الأخروي.. من زمنها ذي البُعد الأسطوري في منظور زمننا. ورغم كونها حكايات منفصلة، إلا أنها في الحقيقة مرتبطة سواء بكونها جميعا حكايات (مدينة الحوائط اللانهائية) أو بكون بعضها أشبه بمقدمة تاريخية أو تفسيرية لبعضها الآخر، أو لتردد أصداء وتفاصيل بعضها في بعضها الآخر. وفي الوقت الذي تستدعي فيه الحكايات بشكل ما عالم ألف ليلة وليلة فإنها تتقاطع كذلك مع واقعية أمريكا اللاتينية السحرية لدى ماركيز وكورتاثر، ومتاهات بورخس ومدن كالفينو، دون أن تقع أسيرة لإحداها. بنفس القدر الذي تلعب فيه اللغة هاربة من أسلوبية لغة الحكايات التراثية بعد أن توهمنا في البداية بكلمة (.. بلغني) أننا مقبلون على شكل من أشكال المحاكاة اللغوية أو الأسلوبية، تهرب اللغة من هذا الفخ بتبنيها للغة طارق إمام الأقرب للغة الشعر الحديث وتراكيبه، وقبل أن نطمئن إلى هذا تهرب مرة أخرى إلى عالم الحكي المتوالي والتأملات السردية.
وإذا كان زمن الحكايات سائلا بطبيعته الأسطورية وزمن الحكي متقافزا بطبيعته ما بعد الحداثية، فإن مكان الحكي لا يركن إلى إسار حوائط المدينة اللانهائية، بل يصطحبنا السارد محلقا بعين الطائر في سماء المدينة وتخومها (جبل الكحل مثلا) وما يحيط بها من صحارٍ وبحار أو ينأى عنها حتى وإن ارتبط بخيط السرد مع أحد ساكنيها أو الغرباء عنها. كما نرى في (حكاية قراصنة نهاية العالم) أقصر حكايات المجموعة على الإطلاق والتي نوردها هنا كاملة: “يستيقظون، بلا بحر، بلا أعداء يجردونهم من سفنهم. فيسألون: أي رعب أكثر قسوة من أن تكون عدوا للا أحد؟” قبل أن يظهر لنا السارد بنفسه في عنوان الحكاية الأخيرة : “الحكاية التي لم أكتبها بعد” في تنبيه خفيف أشبه بألعاب الكتابة على الكتابة، أو كسر الحائط الرابع في المسرح، حكاية يتمنى السارد أن يحكيها، لكنه يحكيها لنا بالفعل. حكاية عن “رجل عجوز بلا ذكريات (….) يضطر لتأليف حكايات لم يعشها. تنتشر حكاياته بعد فترة، تصير مقنعة أكثر من ذكريات الناس الواقعية وأشد إثارة، فلا شيء قابل للتصديق أكثر من كذبة جيدة الصنع.” يموت الرجل بعد أن يأتي مؤرخ شاب يدون حكاياته المختلقة منه باعتبارها تاريخ المدينة. ويتحول “تأريخه” هذا إلى “التاريخ الرسمي للمدينة الذي هو جزء من التاريخ الرسمي للعالم.” وعندما يعترض البعض بأن كل ما حدث كان كذبة يتعرضون للاعتقال والإعدام. فيخاف الباقون ويسلمون بأن هذا هو التاريخ الحقيقي.. “هذه هي ذاكرة العالم وكل ما عداها هراء.” يموت الرجل العجوز ويظل في موته يحسد أقرانه الذين ماتوا بعد أن عاشوا حكايات وذكريات حقيقية، ويسخر من هذا العالم الزائف الذي منحه مجدا لا يستحقه “لمجرد أن أجاد الكذب على حفنة أطفال بعد أن أدار العالم ظهره له.”
هل تذكرنا هذه الرؤية الساخرة والمقوضة للكتابة ولفكرة الصدق الفني الكلاسيكية بشيء؟ شخصيا تذكرني بذلك التصدير الذي وضعه طارق إمام في مقدمة مجموعته (حكاية رجل عجوز كلما حلم بمدينة مات فيها) والذي اقتبسه من جابرييل جارثيا ماركيز: “أي سر ذلك الذي يجعل مجرد الرغبة في رواية القصص تتحول إلى هوى يمكن لكائن بشري أن يموت من أجله.. رغم أنه في نهاية المطاف – إذا ما أمعنا النظر – لا ينفع في أي شيء؟!”