من هو المليونير الحقيقي ؟

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رامي عبد الرازق

يجبرك هذا الفيلم على اعتزال الكثير من التصورات المسبقة عن السينما كما رأيتها مرارا، ويأخذك من تلابيب وجدانك ليضعك فى حالة من الانتشاء سببها الرئيسى ذلك القدر الهائل من القوة الفنية التى يحتوى عليها.

فأنت أمام حالة مختلفة من حالات التعاطى مع السينما كفن دون أى قيود علمية أو فكرية أو شعورية، وفى نفس الوقت، وجود قدرة رهيبة على توظيف كل الإمكانيات العلمية التقنية، والفكرية الدرامية، والشعورية العاطفية لخلق هذا الاجتياح المبهج الذى يصنعه الفيلم لعقلك وأحاسيسك.

الأحداث تدور حول قصة غاية فى البساطة فى بنائها الخارجى بل تكاد تكون ذات طبيعة ميلودرامية هندية.. (وصفة الهندية صفة معروفة لكل من يتابع السينما منذ سنوات والتى تعنى دوما وجود أمور مفتعلة ذات صلات تحكمها المصادفة فى الصراع بين طرفى الخير المطلق والشر المطلق)، لكن هذه القشرة الهندية الخارجية ما هى إلا فخ ممتع لكل ما يجيش داخل هذا السيناريو من أحداث وحبكات عبر رحلة ذلك المتشرد أو طفل الشوارع بالتعبير الراقى «جمال مالك» عندما يتوقف به الزمن فى لحظة مهمة من حياته القصيرة- ١٨ سنة – لتجبره مشاركته فى النسخة الهندية من برنامج «من سيربح المليون» على استعادة تفاصيل تلك الحياة الغريبة وغير التقليدية، لتصبح هى ثروته الحقيقية والمعادل الرمزى لفكرة الثروة المادية.

إن «جمال» الذى نراه فى بداية الفيلم يتعرض للتعذيب على يد ضابط الشرطة للاعتراف بالوسيلة التى تمكن من خلالها من الوصول إلى مبلغ العشرة ملايين روبية عبر الإجابة عن أسئلة البرنامج، يفتح ذاكرته المتخمة بالتفاصيل والحوادث والمحطات الحياتية المعقدة أمام الضابط الذى يستجوبه وأمام ذاته نفسها ليتعرف ونتعرف معه على إجابة لذلك السؤال الذى يطرحه عنوان النسخة الهندية من البرنامج «من يريد أن يصبح مليونيرا».

إن شخصية «جمال» الذى ماتت أمه فى إحدى الفتن الطائفية ثم التقطته إحدى العصابات التى تستغل أطفال الشوارع ثم أصبح عاملاً فى مطعم ثم ساعياً فى إحدى شركات الاتصالات .. هى شخصية مليونير فى حقيقة الأمر، لأنه استطاع أن يستدعى كل تلك الخبرات الحياتية شديدة القسوة فى اللحظات التى كانت أسئلة البرنامج تطرح عليه لترتبط كل إجابة بمحطة حياتية كانت فى منتهى القسوة والعنف والعذاب.

إن الفيلم فى أحد مستوياته الرمزية ربما يريد أن يقول إن بداخل كل منا مليونيراً حقيقياً إذا تمكنا من توظيف واستدعاء خبراتنا فى رحلة الحياة وقت الحاجة إليها، ومهما اتصلت خبرات الرحلة بمحطات مُعذبة أو مهلكة، بينما على مستوى آخر من الترميز يقدم السيناريو المأخوذ عن رواية لأديب هندى جزءاً من رصد تطور المجتمع الهندى فى السنوات الأخيرة مثله مثل العشرات من مجتمعات العالم الثالث فبداية من الفتن الطائفية التى تعصف بالمجتمع، مروراً بالعصابات التى تسيطر على الأطفال وكأنهم يسيطرون على المستقبل مروراً بتغير وجه المدن وأسمائها مع تغير موقعها فى سلم الحضارة ..

مثل المشهد الذى تشير فيه إحدى الشخصيات إلى تغير اسم مدينة بومباى إلى ممباى لمسايرة التطور الغربى الذى بدأ يجتاح الهند على أيدى السماسرة والقوادين.. لتتجسد لنا الهند فى مخيلة الكاتب فى شخصية «لاتيكا» الفتاة الصغيرة التى يعثر عليها جمال بعد تشرده هو وأخوه «سليم» وتصبح ثالثتهم وليصبح «جمال» و«سليم» وجهين لعملة واحدة وهما المستقبل أو الجيل الجديد .. وتصبح «لاتيكا» هى الهند التى يحبها كل منهما بطريقته ولكن «جمال» وحده هو الذى يفوز بحبها، لأنه الأطيب والأنقى والأطهر والأكثر صدقا مع نفسه ..

بينما يستسلم «سليم» إلى حالة من الازدواجية حيث نراه يصلى ويستغفر الله على الذنوب التى يرتكبها كمسؤول عن الأعمال القذرة لأحد رجال العصابات التى تحكم سيطرتها على المدينة/المجتمع الجديد.. وبينما ينتحر «سليم» فى النهاية فى حوض استحمام ممتلئ بالمال، الذى لم يجلب له سوى العذاب والهلاك، يفوز«جمال» بأكبر ثروة فى حياته وهى حب «لاتيكا»، التى أخلص لها طوال رحلته المضنية ليس لأنه أصبح مليونيراً بالعشرين مليون روبية التى فاز بها من البرنامج ..

ولكن لأنه اشترك فى البرنامج لكى تراه «لاتيكا» وتعثر عليه بعد أن فقد هو الأمل فى العثور عليها ويقبل «جمال» الندبة على وجه «لاتيكا» والتى تركتها سكين عصابة القواد الذى كان يحتكرها فى محاولة منه ومن كاتب الرواية أن يتصالح مع وجه الهند (وعوالم ثالثة كثيرة)الذى شوهه الفساد وخراب الذمم والاستغلال غير الآدمى من قبل البشر لبعضه.

وقد تفوق السيناريو فى استخدام أسلوب الفلاش باك عبر خطين من السرد: الأول بصرى بحت وهو تسجيل للحلقة التى فاز فيها «جمال» بأول عشرة ملايين روبية وهى التى تمثل ثلاثة أرباع رحلته والتى يتم عرضها من خلال شريط فيديو فى مخفر الشرطة أمام جمال أثناء استجواب الضابط..

والخط الثانى هو خط ذاكرة «جمال» التى تمتلئ بالتفاصيل والتهويمات والخواطر المفزعة عن رحلته ومأساته، منذ كان طفلا فى الخامسة من العمر ويتداخل الخطان فى إيقاع سردى محكم جداً، رغم أن كل منهما يحتوى شطحات فانتازية وغير قليل من تجسيد الأوهام والهواجس .. مثل أن يتصور»جمال» نفسه يطيح بأخيه من فوق إحدى العمائر، بعد أن التقاه عقب فراق طويل عندما قرر الأخ أن يستحوذ على «لاتيكا»، لأنه الأكبر سناً، وكما ذكرنا فقد كسر المخرج «دانى بويل» بهذا الفيلم الكثير من الأفكار السينمائية/ العلمية، بل غير العلمية وكأن هدفه الأساسى هو الفن الخالص الذى يحتوى على مضمون قوى ..

فإيقاع الفيلم مونتاجيا ودرجات الألوان وحركة الكاميرا وزوايا التصوير التى من الصعب وصفها بلغة أهل المهنة التقليدية، بل إحجام اللقطات وطريقة إضاءتها كل هذه العناصر جاءت عفوية لدرجة عبقرية تجعل هذا الفيلم نقطة تحول فى تاريخ فن السينما كله لو تمت دراسته وتحليله وقراءة ما خلف هذا التوظيف التقنى من رؤى وأفكار واتساق بين مضمون السيناريو وشكله البصرى..

حتى شريط الصوت نفسه بدا مختلفاً للدرجة التى استُخدمت فيها التيمة الموسيقية لبرامج «من سيربح المليون»، والتى اعتدناها جميعاً فى إحدى أهم لقطات الفيلم وهى اللقاء الذروة بين العاشقين جمال و»لاتيكا» لتأتى الجملة وكأننا نسمعها لأول مرة وبشكل يحقق تطابق الرمز فى كل مستوياته بين حصول جمال على جائزة الحقيقة/الشعورية وهى «لاتيكا» وحصوله على جائزته المادية وهى الملايين..

ناهينا عن التوظيف البصرى الجيد لعشرات الاستعارات الدرامية فجمال ولاتيكا يفترقان للمرة الأولى عند أحد القطارات ويصبح القطار استعارة درامية للفراق الدائم بينهما ولرحلة الحياة التى يقطعها جمال نحو لاتيكا/الحلم .. حيث يراها جمال فى لقطة غائمة تلك الطفلة الصغيرة التى لم تستطع أن تلحق به فى القطار عندما فرا من العصابة و هم أطفال، ثم يتحول القطار إلى مصدر رزق لجمال وسليم ثم إلى مكان للقاء الأخير بينهما.. قبل أن تخطفها عصابة القواد التى يقودها سليم ثم فى النهاية مسرح الرقصة التى تحتفى بتحقق هذا الاكتمال القدرى بين جمال ولاتيكا والذى كان مقدراً لهما منذ البداية وإلى الأبد.. اذهبوا لتشاهدوا هذا الفيلم وتحولوا إلى متلقين يقدرون هذه الثروة الفنية من ملايين العناصر الإبداعية الثمينة.

 

ـــــــــــــ

ريفيو

الاسم الأصلى: Slumdog millionaire

الاسم التجارى: «المليونير المتشرد»

تأليف: سايمون بيفوى عن رواية لـ«فيكاس سوارب»

إخراج: دانى بويل.

بطولة: ديف بايتل – فريدا بينتو.

مدة الفيلم: ١٢٠ دقيقة.

ــــــــــــــــــــــــ

ناقد سينمائي مصري

مقالات من نفس القسم