منصورة عز الدين: لا أسعى لقتل آبائي بل أنظر إليهم نقدياً

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 29
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

منصورة عز الدين روائية مصرية شابة، ما زالت تتابع، على غرار ما فعلت في كتابيها السابقين «ضوء مهتز» و«متاهة مريم» الحفر عميقاً في مجرى السرد الذي رفع روايتها «وراء الفردوس» الصادرة حديثاً عن «دار العين»، بدأب يصلح لان يكون مزية الروائيين المتمهلين، المتطلعين الى قطف ثمار النجاح بعد ان تستوفيه شرطاً شرطاً، من دون استعجال. في جديدها قيل الكثير عن قلمها القاطع كالسكين في حدّته وشراسة نقله للواقع، وعن جوب الكتابة عندها فضاءات تتجاوز الهوية الوطنية الجنسية وكتابة تكشف دون أن تبوح.

منصورة عز الدين روائية مصرية شابة، ما زالت تتابع، على غرار ما فعلت في كتابيها السابقين «ضوء مهتز» و«متاهة مريم» الحفر عميقاً في مجرى السرد الذي رفع روايتها «وراء الفردوس» الصادرة حديثاً عن «دار العين»، بدأب يصلح لان يكون مزية الروائيين المتمهلين، المتطلعين الى قطف ثمار النجاح بعد ان تستوفيه شرطاً شرطاً، من دون استعجال. في جديدها قيل الكثير عن قلمها القاطع كالسكين في حدّته وشراسة نقله للواقع، وعن جوب الكتابة عندها فضاءات تتجاوز الهوية الوطنية الجنسية وكتابة تكشف دون أن تبوح.

عز الدين ترى أن أي كتابة لا تسعى لكشف المأزق الوجودي للإنسان في هذا العالم، ولا تحاول فك متاهة النفس الإنسانية هي عبارة عن كلمات ملساء مرصوصة بجوار بعضها بعضا لدغدغة المشاعر. فالكتابة الجيدة برأي عز الدين هي تلك التي تطرح اسئلة شائكة وتتماس مع المسكوت عنه بمعناه الواسع. هي التي تهدف لإقلاق القارئ واستفزازه وهز يقينه الثابت، والرواية تحديداً هي نوع أدبي ضد اليقين والمستعر، فمن بين السطور تتوالد مئات الاحتمالات والمعاني، التي ربما حتى لم يقصدها الكاتب مباشرة، لان للكلمات سلطتها الخاصة البعيدة عن سلطة مبدعها، فاللغة بحسب عز الدين «خوّانة» بطبيعتها والعمل الجيد هو ذلك الذي يخون صاحبه، ويخلق لنفسه وجوداً قائماً بذاته بحيث ينفتح على تأويلات الجديدة مع كل قارئ. وماذا عن «وراء الفردوس» روايتك الجديدة في سياق الروايات الجديدة في مصر، التي يحيط بعضها الكثير من الالتباس، وماذا عن تجربتك في سياقها؟ هناك بالطبع روابط تجمع بين من تم الاصطلاح على تسميتهم بكتاب الرواية الجديدة في مصر. لكنني ـ تقول منصورة ـ أنزعج بشدة من الميل المتوارث لوضع الجميع في سلة واحدة لمجرد وجودهم في جيل واحد.

أهم الروابط الجامعة في جيلنا هو التوق الشديد لتجاوز الواقع، إما عبر مزجه بالغرائبي او السخرية الشديدة منه، أو التعامل معه بحياد مطلق، أو حتى رميه في وجه القارئ بكل تناقضاته وفجاجته دون أي محاولة للفلترة. كما تتسم الكتابة الجديدة ايضا في معظمها بالتجرؤ على الكثير من المسلمات القديمة، واعادة النظر فيها، سواء كانت مسلمات سياسية او دينية او اجتماعية، وقبل كل ذلك تتسم بالاعلاء من شأن الهامش والخافت، بل حتى ما اصطلح طويلا على تصنيفه خارج نطاق الأدب الرفيع. الا انه في الوقت نفسه هناك تباينات عديدة على مستوى الخبرة والتجربة والرؤية للعالم، ان اخطر ما يهدد الكتّاب الجدد ـ من وجهة نظر منصورة ـ هو ذلك الاصرار على التعامل معهم باعتبارهم كتلة واحدة متماثلة تكتب نصاً واحداً.

كيف ترين الاختلاف في نصك؟ وما الذي تريدينه من الكتابة؟ سألنا عز الدين التي بدأت الكتابة في منتصف التسعينيات، حيث كانت كتابة الذات هي الأعلى صوتاً والأكثر وجوداً بين الكتاب الجدد في مصر. منصورة لم تجد نفسها في هذا النوع من الكتابة، بل التقت مع هؤلاء في نظرتهم التي تعلي من شأن الشك ونسبية المعرفة، ورغبتهم في تجاوز الواقع بمفهومه القديم، واختلفت معهم في إيمانهم بأن كتابة الذات هي الطريقة المثلى والوحيدة للكتابة في زمن سقوط الحكايات الكبرى. لم ترغب منصورة في محاكاة الواقع، ولم تسع لتغييره على طريقة الرومانسيين الثوريين، بل رغبت في نقل حيرتها المعرفية أمامه. حيرة معرفية في مواجهة الوجود الإشكالي للإنسان، «الكتابة عندي هي محاولة لفهم ومساءلة هذا الوجود الهش والملتبس والمحكوم بالفناء. الحياة بالنسبة لي هي حياة من الزجاج، حياة هشة قابلة للكسر في اية لحظة وفق اية مصادفة». الاسئلة هي البطل الاساسي في ما أكتب، والكتابة في جزء منها هي رحلة بحث ومغامرة مقلقة في المجهول. وفي غياهب النفس الإنسانية بجوانبها المظلمة والشريرة فتأمل الوجود يصبح فعلا بلا طائل اذا لم يكن خلال ما هو جارح ومظلم، ومن خلال مزج المعرفة بالألم.

ربما لهذا تتماس كتابتي في جانب من جوانبها مع أدب الرعب، حيث تنتشر الدماء، ويسود العنف، ويصبح العالم مكاناً كابوسياً مخيفاً وشرساً. في طفولتي كان الخوف هو الشعور الأبرز عندي، كان على التعايش في مخيلة شرسة تفاجئني بكل الخيالات المرعبة والمخيفة، كان خيالي هو عدوي الاول الذي يحاربني ويهدد ثبات واستقرار الواقع أمام عينيّ.

عن رأيها بالكتابة الغرائبية تقول عز الدين إن الكتابة التي تتوسل الغرائبي ليست جديدة تماما عن الأدب العربي، بل ربما يحتوي تراثنا الثقافي على الكثير من الغرائبي مقارنة بالثقافات الاخرى. التراث الديني عامة هو في ظني المصدر الاول للعجيب والغريب في معظم الثقافات. الاحلام لا تنفصل عن الواقع بل هي جزء منه. هي لغة اللاوعي ووسيلته للتعبير عن نفسه. عندما نقوم بتفكيك عالم الاحلام والكوابيس، سوف نتمكن من اعادة بناء الواقع بمعناه الاوسع. الوقوف على الحافة بين الوهم والحقيقة يمنحنا فهماً أعمق للعالم الذي نعيش فيه. أؤكد هنا، أن الكتابة الجديدة في مصر رغم فوضاها البادية واحتياجها لنوع من الفرز النقدي، نجحت في إحداث نوع من الخرق الايجابي لأسطورة الأدب الرفيع بالمفهوم القديم.

عن سؤالنا منصورة، عن لغتها الهادئة، غير المنفعلة، ان كانت تنتمي لطباع الكاتبة، ام استدعاها السرد في «وراء الفردوس» أجابت: أعتقد أن موضوع الرواية هو ما استدعى هذه اللغة غير المنفعلة. في مجموعتي «ضوء مهتز» كانت اللغة متوترة تحمل عنفها الكامن كون القصص في معظمها تنويعات على أدب الرعب، وعوالمها كابوسية متوترة. في «متاهة مريم» نقلت اللغة حالة الشك في وانعدام اليقين المسيطرة على الرواية وشخصياتها، حيث حاولت فيها الوصول الى لغة مراوغة، حمالة أوجه تنفتح على تأويلات مختلفة. في «وراء الفردوس» كنت مدركة ان قماشة العمل تحتوي على أبعاد تراجيدية عديدة فأردت التخفيف من حدتها قدر الامكان عبر لغة هادئة غير منفعلة كما تصفينها، وعبر مسحة من السخرية الخفيفة أحيانا أو الحياد في أحيان اخرى. منصورة عز الدين التي نشرت على ما ذكرنا، ثلاثة كتب فقط خلال ما يقرب من عقد، حققت (ولدت عام 1976) حضوراً مميزاً في المشهد الثقافي المصري، وهي الآن محررة الكتب في جريدة «أخبار الأدب». في إجابات الروائية عز الدين ما أفاد الاسئلة التالية ايضا.

*كتابتك تصعب على قارئها معرفة جنس الكاتب، هل هو كاتب أم كاتبة؟ وهي وريثة جيل الرواد المصريين، الذكور تحديداً بكل إنجازاتهم الريادية المشهودة؟

الكتابة بلا جنس، من وجهة نظري. الفن يقع في المنطقة البينية المخاتلة والملتبسة بين الشيء ونقيضه، بين الضوء والظلمة، بين الذكورة والأنوثة، بين الواقع والحلم. أحب مناطق الالتباس والغموض. حين أكتب أقوم بتحييد جنسي، وانحيازاتي الخاصة، أحاول الابتعاد عن الافكار اليقينية والمطلقة قدر الامكان. عندما صدرت مجموعتي القصصية الاولى قوبلت بحفاوة كبيرة، ووصفت ـ كنوع من المديح ـ بأنها كتابة «ذكورية» لجهة خشونة العالم والعنف الكامن فيه، وايضا لقطيعتها مع الغنائية والرومانتيكية. لكنني كنت أؤكد انها ليست ذكورية بقدر ما هي «اندروجينية» فالعين التي وراءها تحمل سمات الذكورة والأنوثة في الوقت نفسه. هذه العين الاندروجينية تضمن نوعا من الحياد وعدم الانحياز، لان الكاتب ـ كما أردد دائما ـ يجب ألا يكون ناطقا رسميا باسم جنسه أو دينه أو وطنه، أو قبيلته، أو حتى باسم أفكاره الشخصية وحدها. الانحياز يشوش ويعمي العين عن رؤية ما وراء الاشياء.

بالنسبة لوصف كتابتي بأنها وريثة لجيل الرواد من الكتّاب المصريين، فهذا أمر يسعدني، لان الكتابة هي حلقات متواصلة، سؤال القطيعة التامة غير مطروح في الفن، ودعاوى قتل الأب التي تتردد من وقت لآخر معظمها يأتي مراهقا واعتباطيا، لكن في ظل هذا التواصل يجب أن تكون هناك بصمة مختلفة لكل كاتب. لم أسع لقتل آبائي، بل فقط تعلمت النظر إليهم نظرة نقدية متشككة. لا أحب الأصنام، والقداسة الزائفة. وأرى أن الدرجة الاقوى من احترام كاتب ما تحبه، هو أن تتعامل مع كتابته بندية وتنظر لها بعين نقدية متشككة باحثا عن اختلافك أنت.

* في «وراء الفردوس» وقبلها في «متاهة مريم» حضرت العائلة كتيمة أساسية، ما سبب ذلك؟

احيانا نكتشف ما يشغلنا بعد الكتابة لا قبلها، بعد انتهائي من «متاهة مريم» لاحظت حضور العائلة بكثافة فيها، لكن في «وراء الفردوس» قاربت الموضوع بدرجة ما من التعمد، وربما يعود ذلك في الحالتين لانشغالي بفكرة معاداة المجتمع الذي أعيش فيه للفردية وخوفه منها. نشأت في عائلة كبيرة، مترابطة، وقوية، لكن دائما ـ كما في مجتمعنا ككل ـ كان الفرد يتم التضحية به على مذبح المجموع يتساوى في ذلك الرجال والنساء. وأعتقد ان هذا أساس معظم مشكلاتنا. استقللت عن عائلتي وعمري ثمانية عشر عاما، وعشت في القاهرة وحدي، حماية لفرديتي واستقلالي، وهو ما أتاح لي مراقبة فكرة العائلة من بعيد. لاحظت أن المجتمع كله، يميل للتصرف كعائلة كبيرة، قوية، وقاهرة. وصلت هذه الفكرة لذروتها مع السادات الذي كان يقدم نفسه باعتباره كبير العائلة المصرية، وأرسى القيم الريفية في المجتمع ككل، غير ان هذه الفكرة كانت موجودة قبله، ولا تزال موجودة حتى الآن. ومن هنا لا احترام كافيا لفكرة المواطنة، هي غير مطروحة بجدية كافية في معظم السجالات الدائرة.

* ما الذي يميز الكتابة الجديدة عما سبقها؟ وكيف ترين مشهدها الحالي؟

عادة ما أهرب من أي حكم تعميمي، وأتحفظ أمام مصطلحات مثل «الكتابة الجديدة» لمطاطيتها، إلا انه يمكنني القول ان المشهد في مصر الآن فوضوي الى حد كبير، غير انها فوضى خلاقة، أو على الاقل، أحب أن أراها على هذا النحو. وأود هنا أن أستحضر جملة الصديق الكاتب أحمد العايدي «نحن جيل لا يسعى لتحقيق حلم، بقدر ما يهرب من كابوس». عندما أتكلم عن «كتابة جديدة» فأنا أقصد بالاساس عددا من الكتّاب الذين أرى نفسي في إطارهم، وفي حالة حوار إبداعي معهم مثل: ياسر عبد الحافظ، طارق إمام، ابراهيم فرغلي، محمد عبد النبي، ويوسف رخا. ايضا يمكنني القول ان إحدى فضائل الكتابة الجديدة في مصر انها أعادت الاعتبار لأنواع أدبية ظلت مهمشة لفترات طويلة، فهي على سبيل المثال وضعت الكتابة الغرائبية في مكانة بارزة ضمن المشهد الحالي عبر كتابات عدد من الكتّاب الذين رأوا ان الواقع أصبح ضيقا فسعوا الى توسيعه عبر الخيال، كما أعادت الاعتبار الى الكتابة البوليسية وكتابة الرعب عبر الاستفادة من تقنياتها بعيدا عن التحفظات القديمة، بل انها استفادت ايضا من شخصيات وعوالم الكارتون والرسوم المتحركة والبوب آرت عموما.

من هنا يمكنني ان أخلص الى ان الكتابة الجديدة في مصر رغم فوضاها البادية واحتياجها لدرجة ما من الفرز النقدي، نجحت في إحداث نوع من الخرق الايجابي لأسطورة الأدب الرفيع بالمفهوم القديم.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم