منازلُ أحمد الشهاوى وبابُها الوحيد

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 يوسف زيدان *

منذ فجره الشِّعرىِّ المبكر، وإشراقِ قصائده فى ديوانه الأول .. وحتى عمله الشعري (باب واحد ومنازل) وهو الديوان الذى صدر قبل أيام؛ يحفر الشاعرأحمد الشهاوى ثقوباً فى أرض الشعر الصلبة، ربما ليزرع هناك شجرة

 لكنه يجد فى جوف كل ثقب يحفره، حرفاً من اسم نوال عيسى الغائبة الحاضرة، المستترة عنه، المتجلِّية فيه، المتوارية تحت حروف اسمها، الساطعة فى إهداءات دواوين الشهاوى كلها ، ومنها إهداء ديوانه الأخير :

نوال عيسى ،

كلما حفرتُ ثقباً

أجد حرفاً من اسمك، فيردُّنى الشعرُ

إلىَّ.

فهل يوالى الشهاوى الغوص فى الأرض / الشعر، بحثاً عن جوهرةٍ إبداعيةٍ مدفونة، أم يبحث عن ذاته الدفينة بعيداً عن الصخب العارم فوق سطح الأرض؟ هو يقول إن الحروف التى يعثر عليها، أو تعثر عليه، أو تفجؤه من ثقوب النقب، تردُّه إلى ذاته .. فهل ذاتهُ، من حيث لا يدرى، مدفونةٌ أصلاً هناك، كخبيئة، عليه دوماً أن يفتِّش عنها؟. أم هو اعترافٌ منه بالتوحُّد مع نوال عيسى، الكامنة، المتَّصلة به / المنفصلة عنه؟ أم تراه الحنين إلى الرحم الأول؟

أُثير فى وجه الشهاوى، قبل أعوام غبارٌ كثير على اعتبار أنه لا يكترث بالمقدَّس، وأنه يجترئ على المحرَّمات فى شعره ، وأنه لا يأبه لما يعتقده الناسُ .. بيد أن الشهاوى كان قد انفرد بمقدَّس له، وصاغ بآلامه محرَّماته، وجعل لنفسه معتقداً دفيناً لا يكفُّ عن الغوص فيه . وما مُقدَّسه ومحرماته ومعتقده الدفين، إلا نوال عيسى .

يكشف “إهداء” الديوان عن طبقات عميقة فى ذات الشاعر، يلوِّح بها شعراً كلما لاحت له طبقة منها. فعلى السطح، حيث الصخب اليومى المعتاد، هناك الشاعر ذو الثلاثة عشر كتاباً شعرياً ونثرياً. وتحت هذا السطح طبقةٌ أولى هى نوال عيسى، مفتتح كل أعماله ومحل إهدائها.

 وتحت هذه الطبقة ذاتُ الشاعر الممتزجةُ بحروف الاسم الذى يقدِّسه (نوال عيسى، ثانية) وتحت الطبقة هذه طبقةٌ أخرى هى وحدته التى تنشد طمأنينةً لن تجدها أبداً ، ولن تكفَّ عن دفعه للغوص ، أو لمزيدٍ من الغوص، أملاً فى الوصول، وما ثم وصولٌ!

نوال عيسى هى والدة أحمد الشهاوى التى ماتت فى صغره، ولا يفتأ ينقِّب عنها بعدما واراها الترابُ، ولا يفتر يوماً تنقيبه السيزيفى المستحيل تمامه. تلك أزمتُه، وهذا انتحارُه الدائم، وانتصاره الذى لن يجيء ..

 فالشهاوىُّ يريدُ الرَّحِمَ الأول، الساكن فى الرَّحِمِ الثانى، المُوارى للرحم الأخير، فالأولُ الأمُّ، والثانى الأرضُ، والأخيرُ اللغةُ.

يهرب الشهاوى إلى باطنه، فيرى الأمَّ المقدَّسة والرَّحِم المباشر؛ ويغوص أكثر فيرى رحمةَ الحروفِ التى هى دالٌّ عليه/ دفينٌ، كامنٌ فى عمقِ الأرض : مآلِ نوال عيسى، وموئلِ الجذور كلها، ومحلِّ الخبيئة .. غير أنه، وقد أجهده الغوص، لا يجد هناك إلا ذاته، فيتوسَّل بالشعر ليستردها ويستهدى بالحروف الساكنة تحت ثقوب أرضه .. فيطفو ثانيةً، ليحفر ثانيةً، ويسعى ثانيةً إلى المستحيلات؛ المستحيل الأول: الولوج إلى الجنة التى جاء منها. المستحيل الثانى: الإحاطة بحروف الاسم المقدس. المستحيل الثالث: الارتداد إلى الذات الشعرية الدفينة.

لن يصل الشهاوىُّ إلى غايةٍ من تلك الغايات المستحيلة، وهو يعرف ذلك لكنه لا يعترف به. ولسوف يظل يرمى لبلوغ المستحيل، فيسيل مدادُه الشعرى، يعنى دمه؛ بأشعار جديدةٍ تلتئم فى دواوينَ شاهدةٍ على أن جراحه لن تلتئم يوماً، ونزفه لن يتوقَّف، وبحثه عن الأم وعن اللغة وعن الذات. لن تحُدَّ نحيبَه أشعارٌ مهداةٌ، كلُّها، إلى نوال عيسى .. بابِ المنازل كلها.

ــــــــــــــــــــــــــــــ

* روائي ومفكر مصري

 

مقالات من نفس القسم